ماياكوفسكي في نصّ ينشر للمرة الأولى: الحبّ لا يعترف بأيّ "يجب"
بعد 89 عاماً على انتحاره يطلّ علينا فلاديمير ماياكوفسكي برسالة تنشر للمرة الأولى ... ماذا قال فيها؟
يطلّ فلاديمير ماياكوفسكي (1893-1930) اليوم عبر رسالة تنشر للمرة الأولى بعد 89 عاماً على انتحاره المُدوّي. كان انتحار الشاعر قد شكّل صرخته الخامسة، بعد أربع صرخات أطلقها في قصيدته الشهيرة "غيمة في بنطال" (1914-1915): فليسقط حبّكم، فليسقط فنّكم، فليسقط نظامكم، فليسقط دينكم. انتحر الشاعر بعدما خاب أمله بثورة أكتوبر 1917، وحوصِر من رجال الأمن ومُنِعَ من السفر إلى محبوبته.. وجاء انتحاره ليضيف إلى الصرخات: فليسقط كل شيء!
وها هو يعود قبيل عيد ميلاده الـ 126، فتحت عنوان "ينشر للمرة الأولى" أفردت صحيفة "نوفايا" الروسيّة ثلاث صفحات في عددها الصادر بتاريخ 15 نيسان/ أبريل الجاري، لعرض وتحليل قسم من رسالة مجهولة للشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي. وهذه الرسالة محفوظة في "الأرشيف الروسي الحكومي للآداب والفنون – رغالي" في موسكو، وقد تمكّنت الصحيفة من الحصول على نسخة منها عبر مديرة الأرشيف تاتيانا غوريايفا. وكان عشّاق شعر ماياكوفسكي يأملون خلال الأشهر الماضية أن يُكشَف عن آخر نصوص مجهولة لهذا الشاعر في ذكرى انتحاره بتاريخ 14 نيسان/ الجاري، وهي عبارة عن قصاصات وأوراق من دفتر يوميات يعود إلى شباط/ فبراير 1923، ويتضمّن هذه الرسالة، إلا أنّ المُنتظرين خابت آمالهم ولم تنشر النصوص.
كيف منع الوصول إلى النصوص؟
تتحدّث غوريايفا إلى الكاتبة يوليا غورياتشيفا عن أن محبوبة فلاديمير ماياكوفسكي، ليليا يوريفنا بريك، المعنية بالكمّ الأكبر من النصوص الوارِدة في دفتر اليوميات، هي مَن طلب إغلاق هذا الأرشيف ومنع وصول الباحثين إليه لمدة ثلاثين عاماً، وذلك أثناء نقلها مواد وأعمال ومخطوطات الشاعر إلى "أرشيف رغالي"، في العام 1969، ثم قام وريثها فاسيلي كاتانيان في العام 1999 بإغلاق الأرشيف من جديد إلى أجل غير مُسمّى، وذلك مردّه كما كتب كاتانيان، إلى أن دفتر اليوميات "يتضمّن مواضيع شخصية جداً لم تشأ أن تنشرها على الملأ".
إلا أن هناك سبباً آخر، وربما هو السبب الرئيس، ففي العام 1958 خصّص مجلّد من دورية "التراث الأدبي" العدد 65، بعنوان "الجديد عن ماياكوفسكي"، حيث طبعت 125 رسالة أرسلها الشاعر إلى محبوبته ليليا، وقد تسبّب نشر هذه الرسائل بضجّة كبيرة في الأوساط الأدبية، ونشأت حملة غير مسبوقة لمُحاربة الأفكار المنشورة في الرسائل استمرت نحو ربع قرن حتى بداية البيريسترويكا، وقد تعرّضت نصوص ماياكوفسكي لانتقادات شديدة في الصحافة، ما أسفر عن قرار خاص للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي في 31 آذار/ مارس 1959، مما جاء فيه أنّ المواد المنشورة "منحازة ومختارة انتقائياً"، وأنّ الهدف من النشر هو "تشويه صورة شاعر سوفياتي بارز"، ولتسليط الضوء على "أماكن مظلمة من حياته" وأنّه من الضروري "اتخاذ إجراء بهذا الشأن".
وفي المُحصّلة أنشئ فريق من المزيّفين لإعادة كتابة سيرة شخصية ملفّقة لماياكوفسكي.
رسالة إلى ليليا بريك
أمل فلاديمير ماياكوفسكي أن يلتقي بمحبوبته ليليا بريك عند الساعة الثالثة من شهر 28 شباط/ فبراير 1923، فحوّل هذا الشهر كلّه لكتابة رسالة طويلة يحكي فيها عن كل ما يجيش في قلبه من مشاعر ويؤكّد لها أنّه سيكون إنساناً أفضل.
يقول في قسم منها: عزيزتي ليتشيكا (تصغير ليليا)، اليوم هو الأول من شباط/ فبراير، وسأعكف على كتابة هذه الرسالة لشهر. لقد مرّ 35 يوماً، أي ما لا يقل عن خمسمائة ساعة وأنا في تفكير مستمر. وأنا أكتب لأنني لم أعد قادراً على التفكير في الأمر، رأسي مرتبك، إن لم أقل إنّه يتهاوى، لأنني أعتبر أنّ كل شيء غدا واضحاً، نسبياً بالطبع، ثمّ أنني أخشى أن أبتهج بلقائك فأدسّ لك تحت غطاء الفرحة كل أفكاري التافهة القديمة. أنا أكتب هذه الرسالة على محمل الجد، وسأكتب فقط في الصباح عندما يكون رأسي لا يزال صافياً، ولا وجود فيه للتعب والغضب والانزعاج المسائي.
على أية حال أغادر حقلي لأفكّر بشيء ما أفضل، أريد أن أشير إلى ذلك، أحاول أن أتجنب أية "عواطف" أو "شروط" في هذه الرسالة. هي رسالة فقط عن تلك الأفكار غير المشروطة والأشهر الأخيرة التي قضيتها في التفكير، هي عن الحقائق فحسب. ليست لديّ أية فكرة على الإطلاق كيف سنلتقي، وبطبيعة الحال لا يمكن أن تطيري إليّ فجأة، وها أنا ذي! لا ذلك لا يمكن أن يحدث.
بالطبع لا يمكنك الظهور فجأة، وذلك عائد إلى حساسية الموضوع، وأنا المذنب بالمجمل، إلا أنّك ولا بدّ ستقرأين هذه الرسالة وستفكّرين بي ولو لدقيقة. أنا سعيد إلى ما لا نهاية بوجودك، بكل ما فيك، لدرجة أنّني لا أريد أن أصدّق شخصيًا أنني لست مهماً بالنسبة إليك على الإطلاق. في المناسبة، أنا حتى صباح هذا اليوم ما زلت أشعر بالسرور عند تذكّري ترجمتك، أتذكّر وأبتسم.. لك قبلاتي.
ما العمل مع الماضي؟
بعد كلماتك الأخيرة، حين قلت إنّ السنوات الخمس الماضية كانت لا تُطاق، بتّ أعود أكثر فأكثر إلى الماضي. نعم، لقد كانت لا تُطاق، ويا لحسرتي الكبرى، أنا المذنب في كل ذلك، أنا وحدي. كان بإمكاني أن أحوّل حياتنا إلى مدهشة، لكنّني حوّلتها إلى أمر من المُخجل النظر إليه ومُعاينته.
أخبرني "أوسيا" (أخو ليليا) كيف كنتُ، واتضح أنني كنت مجنوناً بخيلاً مغترّاً، فاقداً لاهتمامات البشر، ساقطاَ نحو قاع الحياة. إن كان في ذلك وصفٌ لعُشر ما كنتُ عليه، فيستحيل العيش معي. وذلك صحيح، وواضح لمجرّد أن أوسيا أفصح عن ذلك، وها أنا هنا في اليوم الثامن والثلاثين ما زلت أجلس وحيداً.
بالطبع، فإن الأمر الوحيد الذي أدهشني، وأنت مخطئة فيه أيضًا، أنكما لم تثيباني إلى رشدي منذ أربع سنوات مضت. وما أقوله، يا "ليليك"، ليس نابعاً من احتقار شعري للذات، بل نتيجة تفكير وتأنّ. وإن لم أبدّل ما أنا عليه، فلن أحاول حتى أن ألتقي بك. بحزم أقول: لا يحق لي أن أنظر بعين الأمل إلى علاقة معك.
هل يمكن أن أتغيّر؟
من غير المفهوم بالنسبة إليّ كيف أصبحت ما أنا عليه. منذ عام رميت من غرفتي حتى الفراش والكنبة، لأحيا حياة أبسط ما يقال فيها إنها غير عاديّة، كما هي حالي اليوم، كيف أمكنني أن أغدو كالعثّ في هذه الشقّة المُتهالِكة. وهذا ليس عذراً يا "ليتشيكا، بل مجرّد دليل آخر ضدّي، وتأكيد على غرقي.
لكن يا حبيبتي، أياً كان ذنبي الذي اقترفته، فإن العقاب الذي أعيشه يكفي ويوازي كل شيء، أنا لا أتحدّث عن الأشهر الماضية، إذ لم يعد لديّ ماض لا قريب ولا بعيد، وكل ما لديّ أنّه منذ العام 1917 حتى اليوم، لا يوجد ما هو أكثر رعباً من وضعي الحالي.
والرعب ليس كلمة يا "ليتشيكا" بل حالة، يمكنني أن أصف بها كل أحزان البشر وأكسوها دماً ولحماً. سأتحمّل عقابي هذا الذي أستحقه، لكن لا أريد أن يتكرّر ذلك الخطأ الذي بدر منّي في 28 كانون الأول/ ديسمبر، ففي ما يتعلق بك حتى 28 شباط/ فبراير، هو غير موجود لا في الكلمات أو الأفكار أو الأفعال.
لن يكون هناك أي شيء، لا شيء من الماضي، أؤكّد لك، وهذا ما أضمنه. على أيّ حال إن لم أتمكّن من القيام بذلك فلن أراك مطلقاً. وإن كنت إلى جانبك وحدث ما كنت قد رأيته مني في السابق فسأهرب. يسعدني أن أتحدّث عن ذلك الآن، وأنا أعيش لمدة شهرين على أمل اللقاء بك في 28 شباط/ فبراير عند الساعة الثالثة، وأنا لست متأكداً حتى إن كنت ستسمحين بذلك، لأن كلمتك الأخيرة كانت "سنرى!".
قراري الأخير هو أن لا أسمح لنفسي أن أفسد حياتك ولو بنسمة، وهذا هو المهم. فإن كان شهر أو يوم واحدة من دوني بالنسبة إليك أفضل، فليكن ذلك.
هذه هي رغبتي، وأملي، أما إن كنت أقوى على ذلك أم لا، فأنا لا أعلم. فإن خذلتني قوّتي قليلاً ساعديني، وإن غدوت خرقة بالية امسحي بي سلّمك. فالماضي قد دفن.
أتحبينني؟ قد يبدو لك هذا السؤال غريباً، فبالطبع تحبينني. لكن هل تحبينني إلى درجة تشعرين بي فيها طوال الوقت؟ ليس لديك حبّ لي تحديداً، بل لديك حبّ لكل شيء، وأنا احتللت حيزاً منه، ربما أكثر. وإذا ما خرجت من ذلك الحيّز سينتهي بي الأمر كحصاة يلفظها نهر، وحبك يطفو فوق كل شيء آخر. إنه أمر سيّىء، أليس كذلك؟
وددت لو أتمكّن من الحبّ مثلك، لكن لو اختلف الأمر لما كنت لأفهم الكثير من تصرفاتك. أنت تحبينني، فكيف يمكن أن أفهم اشمئزازك مني يا حبيبتي؟ أو إن قلت فجأة: اليوم لا أحبك إن لم تكن هكذا فلست بحاجة إليك. فلتشعر بالسوء، فليكن – لقد اعتدت على ذلك الشعور... العائلات ليست مثالية، كل العائلات تتمزّق، ولا يوجد حب مثالي، ولا يمكن تأسيس الحب على قاعدة "يجب" أو "مستحيل". أنا لا أريد لهذه الـ"يجب" أن تأتي.
أحب إلى ما لا نهاية ألا تأتي هذه الـ"يجب"، أحب أن أتمشّى تحت ستائر نوافذك، أن أنتظر أن ترتطم نظرتي بوميض شعرك الذي يطل علي عبر زجاج سيارة آتية.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]