"القصة الحقيقية" وراء قطع فان غوخ لأذنه يرويها بول غوغان

الرسام الفرنسي بول غوغان الذي استضافه الرسام الهولندي فينسنت فان غوخ، يحكي قصة قطع الأخير لأذنه والتي اتخذت شهرة عظيمة حيث أنها تقترن دوماً بسيرة هذا الفنان. فهل قطع غوغان أذن فان غوخ أم أن الاخير هو من أقدم على ذلك بنفسه؟

"لا تقابلوا أبطالكم أبداً" يقول البعض. ربما كان يجدر بأحدهم قول هذه العبارات الحكيمة لفنسنت فان غوخ (1853 - 1890) قبل أن يدعو الرسام الفرنسي بول غوغان (1848 - 1903) للبقاء في منزله. ففي سنة 1888 كان فان غوخ يمتلك بيتاً في مدينة فرنسية، كان يعرف بالبيت الأصفر. هذا البيت أعطاه حسَّاً جديداً للحياة والشعور، لأنه كان يحلم بتحويله إلى "مكان مقدَس" أو مأوى يمكّن الفنانين من البقاء فيه لفترات طويلة ومشاركة إبداعاتهم.

بمعنويات وآمال مرتفعة، قرر فان غوخ أن أول ضيوفه يجب أن يكون فنانه المفضل، بول غوغان. فأرسل له رسائل عدة يمتدح فيها من أسماه ّ"السَيّد"، حتى أنه قال له في إحداها إنه يرى أعماله الشخصية عادية جداً مقارنة بأعمال غوغان. في الحقيقة، غوغان اعتقد ذلك أيضاً. وفي مذكراته قال، "أنا لا أقدّر اللوحة، بل أقدّر الرجل".

بعد الكثير من الإلحاح، قبل غوغان دعوة الفنان الصغير، الذي كان مهتماً جداً بالتعلّم من الفنان "السيّد". لا يمكنكم تخيّل فرحة فان غوخ عند تلقيه خبر زيارة غوغان بالإضافة إلى لوحة ذاتية اصطحبها معه. يقال إن فان كوخ أخذ تلك اللوحة معه إلى كل مكان في المدينة وأخبر الجميع عن تلك الزيارة المهمة. كما نعلم، عانى الرسّام معظم حياته من وضع اقتصادي صعب، ولكنه كان متحمّساً لدرجة أنّه جمّع بعض المال لشراء سريرين وضعهما في الغرفة نفسها، كما أنّه أعطى بعض الوقت لرسم عدد من نبات عباد الشمس على جدران الغرفة البيضاء لجعلها أكثر دفئاً ورحابة.

 في البداية، جرت الأمور كما خطط لها. بدأ الإثنان بالعمل على لوحاتهما، وحتّى أن غوغان كتب أنّه لاحظ تحسّناً كبيراً في أداء فان غوخ الفنّي. لكن سرعان ما بدأت المناوشات بينهما، كما يحصل عادة عندما يعيش شخصان سويّاً. إذ انتقد غوغان فان غوخ قائلاً "في كل مكان وفي كل شيء رأيت فوضى صدمتني. صندوق ألوانه لم يكن يتّسع لتلك الأنابيب كلّها، صندوق مزدحم ولا يمكن إغلاقه".  

من الممكن أن فان غوخ كان فوضوياً ولكن على الأرجح أنّ غوغان كان أيضاً مهووساً بالنّظافة، فلم يكن من الجميل عيشهما معاً وتشاركهما الأشياء نفسها. كما أنهما وضعا أموالهما سويّاً. فكان فنسنت يتبضَع، وبول يطهي. لكن الأخير لم يكن راضياً. في الكثير من مذكراته قإل إن تلك الأسابيع لم تكن تنتهي.

فجأة، بدأت الأمور تتدهور. كلّنا نعلم عن "اختلال" فان غوخ العقلي، وسرعان ما اكتشف غوغان ذلك بنفسه. فقد كتب أنه استيقظ مرات عدة من نومه ليرى مضيفه يمشي نحوه بطريقة غريبة. لكن لم يكن هذا الشيء الوحيد. فقد بدأ مزاج فان غوخ بالتغيّر، مما أخاف "السيّد الكبير". وفي إحدى الليالي التي قضاها الإثنان في مقهى مجاور للبيت، فقد فان غوخ السيطرة على نفسه. بدا عليه الاستياء والغضب حيث "قبض على زجاجة مشروب كان يتناولها وقذفني بمحتواها على رأسي. تجنبتها وأخذته سريعاً بين ذراعي إلى خارج المقهى. عبرنا شارع فكتور هوكو، ثم ذهبنا إلى النوم كأن شيئاً لم يكن. في الصباح أخبرته بأنّ يتذكر بأنه كان هجومياً معي. إعتذر وقبلت اعتذاره، لكنه أخبرني بأنه من الممكن لذلك أن يحدث مجدداً وأنه من المستحسن أن أعود إلى منزلي".

إعتقد غوغان أنه لا يمكن للأمور أن تزداد سوءاً، وكان يمشي في الشارع، قبل يومين من عيد الميلاد، عندما سمع صوت خطوات تقترب منه من الخلف. خائف، نظر خلفه ليرى فنسنت يلاحقه حاملاً بيده موساً للحلاقة. "من الواضح أنه كان لنظرتي تأثير قوي في لحظتها، لأنه توقف حانياً رأسه، ثم ركض عائداً نحو المنزل". محتار، أمضى غوغان ليلته في الفندق، وفي اليوم التالي ذهب إلى البيت الأصفر كي يطمئن على فان غوخ، ليجد الشرطة مع حشد من الاشخاص مجتمعين في الخارج. أخبرته السلطات بأن الرسّام قطع أذنه ووجد مستلقياً على سريره المغطى بالدماء. كما يروى أنه عندما قص أذنه، ذهب إلى بيت الدعارة المجاور وأعطى أذنه إلى بائعة هوى تدعى راشيل قائلاً لها بأن "تحتفظ بهذا الشيء كأنه كنز".

اليوم، وبالرغم أنّ غوغان والصحف آنذاك روت تلك القصة، يمكن ألا تكون هي القصة الحقيقية وراء كل ما حكي عن أذن فان غوخ الشهيرة. إذ بعد دراسة الحالة لمدة عشر سنوات، صرّح مؤرخون عن اعتقادهم بأن ذلك لم يحصل. إذ بعد دراسة وتحليل لتحقيق الشرطة، وإفادات الشهود وكتابات ورسائل الشخصيتان، تبيّن لمؤرخين ألمان، أن الفنانان كانا في خضم جدال عندما أصبح فان كوخ عنيفا جداً وسارع نحو غوغان (كما حدث سابقاً). كما كان لدى الأخير خبرة في القتال، فأخذ سيفه ليهدد "خصمه".

اليوم، لا يعرف المؤرخون إن كانت هذه مجرد حادثة أو أنها عمل معتمد، ولكنهم متأكدون أن غوغان هو الذي قطع أذن فان غوخ. ولكن كيف تأكدوا من ذلك؟ في الواقع، جميع تصريحات الطرفين تناقض بعضها البعض، وهناك كتابات من قبلهما تشير إلى ما حدث فعلاً. على سبيل المثال، وفي رسالة أرسلها فان غوخ إلى شقيقه يخبره بها عن الحادثة قال له إنه "لحسن الحظ غوغان ليس مسلحاً بالرشاشات والآلات الحربية الأخرى". وفي تشخيص مكتوب للدكتور فليكس راي، وهو الطبيب الذي عاين فان غوخ عندما كان ينزف، قال إنه على الرغم من أن القصة تروي قطع طرف أذنه فقط، ففي الحقيقة قطع الفنان أذنه بأكملها فاضحاً رواية قطع غوغان لأذن مضيفه بسيفه. بغض النظر أي الروايتين هي الأصح، من الواضح أن قصة فان غوخ مازالت مثيرة للاهتمام حتى اليوم. 

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]