في ذكرى إدوارد سعيد.. عن مآلات الاستشراق
كتب إدوارد سعيد دراسته الشهيرة "الاستشراق" في العام 1978 فشنّ حملة شديدة على الاستشراق باعتباره "مؤسسة استعمارية" وأسلوباً غربياً للسيطرة على الشرق وامتلاك السيادة عليه.
تعرّض الاستشراق لحملات نقدية واسعة في القرن العشرين، بدأها عمر فروخ في كتابه(مع مصطفى الخالدي): "التبشير والاستعمار" ومحمد البهي في كتابه "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي"، وملحقه "المستشرقون والمبشرون ومناهضة الإسلام" في الخمسينيات من القرن الماضي، ثم تابعها أنور عبدالملك عام 1963 في مقالة شهيرة نشرت في مجلة "ديوجين" بعنوان "الاستشراق في أزمة"، ومن بعده كتب عبدالله العروي كتاب "الآيديولوجية العربية المعاصرة" حمل فيه على المستشرق غوستاف فون غرينباوم في منتصف الستينات.
وفي سبعينيات القرن العشرين نُشر كتيب لماكس تيرنر بعنوان "ماركس ونهاية الاستشراق" لينتقد الاستشراق باعتباره أحد آيديولوجيات الاستعمار وأدواته.
وجاءت دراسة إدوارد سعيد الشهيرة "الاستشراق" في العام 1978 لتشن حملة قاسية على الاستشراق باعتباره "مؤسسة استعمارية" عرّفه بأنه "المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق – التعامل معه بإصدار تقريرات حوله، وإجازة الآراء فيه وإقرارها، وبوصفه، وتدريسه، والاستقرار فيه، وحكمه: وبإيجاز، الاستشراق كأسلوب غربي للسيطرة على الشرق، واستبنائه، وامتلاك السيادة عليه". فالاستشراق على حدّ قوله هو "الفرع المنظم تنظيماً عالمياً الذي استطاعت الثقافة الغربية عن طريقه أن تتدبّر الشرق – بل حتى أن تنتجه – سياسياً، واجتماعياً، وعسكرياً، وعقائدياً، وعلمياً، وتخيلياً، في مرحلة ما بعد (عصر) التنوير".
وقد احتل الاستشراق في رأي سعيد موقعاً هو من السيادة بحيث إنه "ليس في وسع إنسان يكتب عن الشرق، أو يفكر فيه، أو يمارس فعلاً متعلقاً به دون أن يأخذ بعين الاعتبار الحدود المعوّقة التي فرضها الاستشراق على الفكر والفعل. وبكلمات أخرى، فإن الشرق، بسبب الاستشراق، لم يكن (وليس) موضوعاً حراً للفكر أو العمل. ولا يعني هذا أن الاستشراق، بمفرده، يقرّر ويحتّم ما يمكن أن يقال عن الشرق، بل إنه يشكّل مجموعة المصالح الكلية التي يُستحضر تأثيرها بصورة لا مفرّ منها في كل مناسبة" يكون فيها الشرق موضوعاً للنقاش.
فالاستشراق - في رؤية سعيد - طريقة "للوصول إلى تلاؤم مع الشرق مبنية على منزلة الشرق الخاصة في التجربة الأوروبية الغربية. فالشرق ليس لصيقاً بأوروبا وحسب، بل إنه كذلك موضع أعظم مستعمرات أوروبا، وأغناها، وأقدمها، ومصدر حضاراتها ولغاتها، ومنافسها الثقافي، وأحد صورها الأكثر عمقاً وتكرار حدوث للآخر". حيث أن الشرق ساعد على تحديد هوية أوروبا أو الغرب بوصفه "صورتها، وفكرتها، وشخصيتها، وتجربتها، المقابلة"(2). بل هو في نظره "أسلوب من الفكر قائم على تمييز وجودي (أنطولوجي) ومعرفي(ابتسمولوجي) بين الشرق والغرب". فالاستشراق ليس بمنأى عما يسميه دَنِس هَي، "فكرة أوروبا، وهو مفهوم جمعي يحدد هويتنا "نحن" الأوروبيين كنقيض "لأولئك" الذين ليسوا أوروبيين"، وهي فكرة كون الهوية الأوروبية متفوقة على الشعوب والثقافات غير الأوروبية.
ويعتبر سعيد أن الاستشراق "ليس مجرد موضوع أو ميدان سياسي ينعكس بصورة سلبية في الثقافة، البحث، والمؤسسات؛ كما أنه ليس مجموعة كبيرة ومنتشرة من النصوص حول الشرق؛ كما أنه ليس معبّراً عن، وممثلاً لمؤامرة إمبريالية "غربية" شنيعة لإبقاء العالم "الشرقي" حيث هو. بل إنه، بالحري، توزيع للوعي الجغرا – سي (الجيو- بوليتيكي) إلى نصوص جمالية، وبحثية، واقتصادية، واجتماعية، وتاريخية، وفقه لغوية؛ وهو إحكام لا لتمييز جغرافي أساسي وحسب (العالم يتألف من نصفين غير متساويين، الشرق والغرب)، بل كذلك لسلسة كاملة من "المصالح" التي لا يقوم <الاستشراق> بخلقها فقط، بل بالمحافظة عليها أيضاً بوسائل كالاكتشاف البحثي، والاستبناء فقه اللغوي، والتحليل النفسي، والوصف الطبيعي والاجتماعي؛ وهو إرادة، بدلاً من كونه تعبيراً عن إرادة معينة أو نية كعينة لفهم ما هو، بوضوح، عالم مختلف (أو بديل وطارئ) والسيطرة عليه أحياناً والتلاعب به، بل حتى ضمّه..".
تغيير تسمية "الاستشراق"
في أعقاب الانتقادات العنيفة للاستشراق قامت الجامعات الغربية بتغيير المصطلح وتسميته بالدراسات الإسلامية أو العلوم الإنسانية في آسيا وشمالي أفريقيا، واعتبار المستشرقين العلماء الخبراء في المجتمعات والثقافات الإسلامية تحديداً. أما التغيّر الآخر في مفهوم المستشرق فيتعلق بمجال التخصص. ففي السابق كان معظم المستشرقين علماء متخصصين في اللغات الشرقية، وكانت هذه طريقة صارمة في الدراسة. لكن خلال العقود القليلة الماضية بدأ الباحثون من فروع المعرفة الأخرى ينهمكون في البحث في الجماعات والثقافات الإسلامية، وبينهم مؤرخون اجتماعيون، وانثروبولوجيون، وسوسيولوجيون، ومتخصصون في الأدب والفنون والدين.
ويرى المستشرق جان دي. جاك واردنبرغ في دراسته "المستشرقون" أن النظرة العلمية الغربية عن الإسلام قد تغيّرت في العقود الأخيرة، لا في توسّع مواضيعها ومضامين أبحاثها فحسب، وإنما في الطريقة التي فُهم بها الإسلام والمجتمعات والثقافة الإسلامية عموما أيضاً. كما تغيرت نظرة الغرب إلى الإسلام جوهرياً منذ العصور الكلاسيكية للاستشراق، أو منذ الحرب العالمية الأولى. ويعتبر واردنبرغ أن هذه الاختراقات قد تحققت بفضل الابتكارات التي قام بها بعض المستشرقين البارزين إذ استكشف المستشرق الفرنسي لويس ماسنيون، الذي تخصص في دراسات التصوّف وخصوصاً في المتصوف الشهير الحلاج، قوىً روحية غير معروفة إلى حد كبير في الإسلام.
كما يستشهد واردنبرغ بعمل المستشرق غوستاف ادموند فون غرونباوم عن المقارنات الجوهرية بين التعابير الثقافية الوسيطة في العوالم الإسلامية والبيزنطية واللاتينية، ودعوة المفكر كليفورد غيرتز وآخرين إلى الإهتمام بالأنماط الأساسية واختلافات المعاني ضمن المجتمعات الإسلامية؛ ومحاولة مكسيم رودنسون لإعادة النظر في أهداف وأدوات البحث في الدراسات الإسلامية.
كما أحدث ظهور دول إسلامية مستقلة تغييراً مهماً في رؤية المستشرقين، فإذا كان الجيل الأقدم من المتخصصين بالإسلاميات يعدّون الإسلام المعاصر خالياً من التعبير السياسي وإن المجتمعات الإسلامية لا تتطور إلا طبقاً لحاجات الغرب وتوجيهاته، فإن الباحثين الذين بدأوا عملهم بعد الحرب العالمية الثانية، في حقبة خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي، قد طوّروا وجهات نظر مختلفة كلياً عن العالم الإسلامي، مشددين على ديناميكيته الداخلية الخاصة.
يقول واردنبرغ إن المسلمين أنفسهم قد أكدوا هويتهم الإسلامية الخاصة خلال العقود الأخيرة بطرائق كان من الصعب تصوّرها في حقبة الخمسينيات، وذلك في الأقوال والأفعال، ومن ضمنه النشاط السياسي المكثّف، فلم يعد بالإمكان أن يُفسّر على أنه مجرد تمرد ضد القانون والنظام الغربي. وأدى ذلك كله إلى نقلة معينة في النظرة إلى الإسلام والعالم الإسلامي عموماً، بمضامينها من أجل تطوير البحث الأكاديمي في الغرب. وكانت ثمة صورة ثابتة تقريباً عن الإسلام في البحث الأكاديمي الغربي، بصفته حقيقة تاريخية ومجموعة من العقائد والممارسات. لكن هذه الصورة تحطمت عبر مسار التاريخ وعبر تطوّر البحث الأكاديمي المتخصص، فظهرت قراءات غربية جديدة للإسلام، دينية وآيديولوجية وسياسية. ويرى واردنبرغ أن هناك حاجة في الدراسات الإسلامية والشرقية في أنْ يطّلع الأكاديميون أكثر من ذي قبل على بعض التطورات الجديدة في العلوم الإنسانية، من ضمنها علم الدين. فالتفاني المفرط جداً لفقه اللغة، أو التاريخ، أو الأنثربولوجيا، لا يترك سوى متسعاً قليلاً من الوقت للتقصي عمّا يحصل في فروع المعرفة الأخرى.
كما تعرّض الاستشراق خلال العقود الأخيرة لنقد إسلاموي أصولي يُمكن وصفه بأنه انتقائي، فهو يتهم معظم المستشرقين بأنهم معادون للإسلام ومشتركون في مؤامرة صهيونية لتشويه الإسلام وتضليل المسلمين. لكن البعض منهم يعتبر أن المستشرقين أصناف فمنهم من كان منصفاً وموضوعياً أنصف الإســلام، ومنهم من اعتنقه عقيدة وديناً، ومن هؤلاء المستشرقين الذين سحروا بالشرق والحضارة الإسلامية: مونتغومري وات، موضوع الدراسة، وآخرون.
ولا شك أن بعض المستشرقين قد طغت أحقادهم على كتبهم التي اتسّمت بالكذب والافتراء واللاموضوعية. فقد قال أليكسي جورافيسكي إن الأغلبية المطلقة من المستشرقين "لم يتخلصوا من المواقف المعادية للإسلام". ورأى توماس كارليل أن أقوال "أولئك السفهاء من المستشرقين في محمد، إنما هي نتائج جيل كفر، وعصر جحود وإلحاد، وهي دليل على خبث القلوب وفساد الضمائر، وموت الأرواح".
وقد شهد ليوبولد فايس بأن أبرز المستشرقين قد جعلوا من أنفسهم "فريسة التحزّب غير العلمي في كتاباتهم عن الإسلام، وأن طريقة الاستقراء والاستنتاج التي يتبعها أكثر المستشرقين تذكرنا بوقائع دواوين التفتيش.
إنصاف الاستشراق
في مقابل هذا النقد القاسي للاستشراق، والذي لا يميّز إلا نادراً بين مستشرق وآخر، ثمة باحثون عرب ومسلمون وغربيون ينصفون الاستشراق ويدافعون عنه باعتبار أنه "شكّل نافذة جيدة على الشرق، تم التعريف من خلالها، وطوال قرن ونصف القرن، بالعرب والإسلام، وحضارتهما، بطرائق موضوعية وودودة في أكثر الأحيان"، على حد تعبير المستشرق الألماني فرتز شتبات. ويضيف شتبات: "بعد تغير الظروف والمناهج في تلك الدراسات(الاستشراقية)؛ فإنه سيكون علينا النظر إليها من جانبين: جانب الجهود المبذولة في نشر النصوص العربية القديمة نشرات علمية، شكّلت منهجاً سار عليه في ما بعد المحققون والدارسون العرب. وجانب العروض الشاملة والمتخصصة للتاريخ السياسي والثقافي العربي والإسلامي، ودراسات التاريخ الديني، والنظام الديني، وتطورات الحضارة الإسلامية في عالم ما بعد العصور الكلاسيكية، وصولاً إلى نهايات الدولة العثمانية".
بدوره، ينصف الدكتور رضوان السيّد الاستشراق عموماً والألماني منه خصوصاً بالإقرار بإنجازاته الضخمة خلال أكثر من قرن ونصف القرن من جانب. كما يرفض السيّد منهج الرؤية لدى إدوارد سعيد، وهي الرؤية التي تفترض أن الاستشراق هو الذي صنع رؤية الغرب الاستعماري للشرق. ويرى أنه لا يمكن متابعة سعيد في تحديداته للمستشرقين ممن هم في "المؤسسة" الاستعمارية ولمن هم خارجها.
ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]