كثيرون لا يعتبرون "مصارعة الثيران" لعبة رياضيّة وأنا واحدة منهم. رغم أنها تتطلّب مهارة ورشاقة وقوّة جسديّة وسرعة بديهة وشجاعة وغيرها من مواصفات، لكنّها لعبة دمويّة بامتياز لا تنتهي إلا بمصرع أحد المتصارعين، الثور أو المتادور.
المصدر: الميادين نت
29 تموز 2016 17:47
الميتادور البطل يصارع الثور
منذ أيّام عرضت وسائل الإعلام مشاهد لمصرع أحد مصارعي الثيران الذي لقي
حتفه بشكل مأساوي، بعد أن طعنه الثّور بقرونه اللذان لا يُشبهان سوى الخناجر والسيوف
والحربة التي يطعنه بها "الميتادور" أي المصارع نفسه.
كثيرون لا يعتبرون "مصارعة الثيران" لعبة رياضيّة وأنا واحدة
منهم. رغم أنها تتطلّب مهارة ورشاقة وقوّة جسديّة وسرعة بديهة وشجاعة وغيرها من مواصفات،
لكنّها لعبة دمويّة بامتياز لا تنتهي إلا بمصرع أحد المتصارعين، الثور أو المتادور.
وقد طالبت جمعيّات حقوق الإنسان والرفق بالحيوان على السّواء بمنعها. أول ضحايا اللعبة
هو الثور الذي يُساق إلى الحلبة ليُطعن ويُجهد
حتى الموت بهدف المتعة وجني المال.
لعبة الموت هذه، ألهمت الكثير من المبدعين من كتّاب ورسّامين وسينمائيين
وشعراء وغيرهم.
الموت الذي شغل الإنسان وصارعه وهو على صورة حيوان مفترس حين كان رجل الغابة،
ورسم نفسه على جدران الكهوف وهو يُصارعه، ورفضه بـ"غلغامش" أقدم ملحمة في
التاريخ، باحثاً عن الخلود. حتى ذاك الميتادور الذاهب إلى الموت، يبحث عن الخلود ببطولة
يُحقّقها.
لكل وجه في الدّنيا قصّة
ثور مطعون يجهز على الميتادور
حين رأيت مصرع "الميتادور" تذكّرت رواية يوسف إدريس "رجال
وثيران" وهو يصف جميع مراحل اللّعبة، عندما شاهدها لأول مرّة في حياته بزيارته
لإسبانيا الشهيرة بها. دقّة وصفه تجعل القارئ يعيش لحظة بلحظة داخل مسرح اللعبة.
لم يعرف الكاتب أن الذي مرّ من جنبه وتبادل معه بعض الكلمات، هو من سيكون
بعد قليل مواجهاً للثور، بجسده النّحيل وأناقة ثيابه المبهرة. تفاجأ به في الأرينا،
أصبح هناك من علاقة إنسانيّة عاطفيّة اتجاهه. علاقة أبويّة رغم عدم فارق العمر بينهما،
وحتى لو كان أصغر منه كما يصف. ورّط القارئ معه بتلك المشاعر وذلك القلق. طوال الوقت
وقلبه تُسرِع دقّاته حيناً، وحيناً تُبطئ حتى تكاد أن تتوقّف.
"ثمّة شيء غير عادي
سيقع اليوم لصاحب ذلك الوجه.. لحظة خطيرة غريبة في حياتي، لحظة إلتقائي بإنسان جديد
لم يكن منذ ومضة يعنيني أمره.."
كان تركيزه كل الوقت على تفاصيل ذاك الفتى المصارع، يصفه بدقّة وعاطفة
كبيرتين، تتحوّل لحوار إنساني وجودي تاركاً لمشاعره أن تقوده إلى الكتابة بعيداً عن
أي إفتعال:
"لكل وجه في الدّنيا
قصّة يحكيها أو معنى أو صيحة يُطلقها ويُعلن بها عن جماله مثلاً أو ذكائه"..
أناقة الموت
رسم حفر للاسباني فرانشيسكو غويا
يتوقّف الكاتب يوسف إدريس عند كل تفصيل. ترقّب بداية المباراة وثياب الناس
الأنيقة، والفلوس التي تصرف لحضور تلك اللعبة الخطيرة، إلى ثياب اللاعب الضيّقة المزركشة،
التي ستصبح ملطّخة بعد قليل بالدم والتراب، ورغم ذلك من أصول اللعبة الأناقة.
ثلاثون ألف متفرّج يتنهّدون سويّة، ثلاثون ألف يحبسون أنفاسهم، تاركين
للصمت أن يحلّ في أرجاء أكبر ملعب لمصارعة الثيران في العالم. يبدأ اللعب ولا يفوتك
من اللعبة شيء إلا ويصفه الكاتب، من الشكل العام للمكان والجمهور وردّات فعله، فهو
الحكم الأساسي في اللعبة، يُتابعها بصرامة، والأولويّة باللعب للإمتاع، يجري الثور
خلف الروب الأحمر يمزّقه يكاد ينقضّ على المصارع الذي إن حاول طعنه الطعنة القاضية،
يصرخون متنهّدين مستنكرين، فعلى اللاعب الإمتاع بلحظات الخطر القصوى، وألّا يستسهل
إنهاء اللعبة بالطّعنة التي ستردي الثور قتيلاً، وتجعل منه هو بطلاً. ممنوع على المصارع
غدر الثور وطعنه بل عليه المواجهة حتى لو تسبّب ذلك بالقضاء عليه.
ثور ومصارع نحيل
الميتادور النحيل البطل
وصف جميل من الكاتب "إدريس" لضخامة الثور ووحشيّته المشروعة
هنا، طالما الصراع على الحياة واحد، بين الثور والمصارع النحيل الرقيق. من هو هذا المصارع؟
إكتشف الكاتب لاحقاً بأنه لا يُشبه الصورة التي كانت بخياله، يعيش حياة باذخة ويستقل
العربات الفخمة التي تنتظره عند خروجه، فقد شاهد كيف أن المصارعين الآخرين، وعند انتهاء
مباراتهم، يستقلّوا عربات الأجرة الرخيصة عائدين إلى بيوتهم. ينشأون بملاجئ للأيتام
وللأولاد اللقطاء، هو السبب ربّما لاختيارهم تلك اللعبة الخطرة، باحثين عن مهنة يعتاشون
منها وبطولة تضعهم بمصاف بقيّة البشر. كان مصير بطل "رجال وثيران" أتعس من
أن يعود بعربة أجرة للعامّة، وقد ذهب الكاتب متابعاً سيرة بطله ليشهد تأبينه. رحلت
صديقته الكوبيّة المعارضة لنظام بلدها، والتي كانت تجلس إلى جانب الكاتب "إدريس"
وكرهته بسبب حبّه لـ"كاسترو"، أمّا الجمهور فقد تابع جولة جديدة، مع ثور
وميتادور جديدين، بعد أن استفاق من الصّدمة. الصحفي صديق الميتادور المصروع، يوصي الكاتب
الغريب (إدريس) أن يكتب ما هو ممنوع عليه كتابته عن قذارة لعبة الموت تلك. هي لعبة
وطنيّة تراثيّة، تدرّ الكثير من المال على الدولة، وتأتي بالسيّاح من أصقاع الأرض لمشاهدتها.
ما الذي سيحلّ بإسبانيا واقتصادها، إن أوقفت لعبة الموت؟ سؤال كبير يُطرح في بلاد بيكاسو
وغويا وغيرهما من الرسّامين، الذين رسموا ونحتوا عدداً كبيراً من الأعمال المستوحاة
من تلك اللّعبة. متاحف إسبانيا لا تتوقّف عن استقبال الزوّار والسيّاح الذين يقصدونها،
وتدرّ الأموال على البلاد. هل من ضرورة للتذكير بالفن والأدب الإسباني الأرقى والأهم؟
لكن مع ذلك لا نستطيع غضّ الطرف عن الأرباح الطائلة التي تدرّها لعبة الموت.
الشّهيد ثور.. والميتادور بطل
مصارعة الثيران - بيكاسو
إستلهم شاعر إسبانيا الرمز "لوركا" بعض قصائده من لعبة مصارعة
الثيران، وكتب مرثية بأحد أبطاله المفضّلين، صديقه "إغناثيو سانشيز ميخياس"
وكان مثقّفاً وكاتباً. الروائي "إرنست همنغواي" كتب "صيف دامي"
و"الموت بعد الظّهر" ومن الأفلام السينمائيّة التي جسّدت هذه اللعبة فيلم
"ماتادور" للمخرج الإسباني "بيدرو المودوفار" . وعشرات بل مئات
من الأعمال الفنيّة استلهمها مبدعوها من لعبة الموت تلك.
في أحد مقاطع الإستنكار يكتب يوسف إدريس
أدنأ الأحاسيس وأكثرهم خسّة وشذوذاً، ذلك الإستعذاب للألم والرّغبة في
إطالته والإستزادة منه، وكل هذا بنقود كثيرة وبدعاية واحتفالات وتهليل، والشّهيد ثور..
رواية "رجال وثيران" لغة إنسانيّة نبيلة ورشيقة.
كتب الشاعر "نزار قبّاني" يرثي الثّور الضحيّة:
.. ويسقط في ساحة الملعب
كأي شهيد نبي
ولا يتخلّى عن الكبرياء
يجدر الإشارة بأن حلبة "كيتو" في الإكوادور (المستعمرة الإسبانيّة
سابقاً) تحتفل كل سنة بتأسيسها الذي مرّ عليه حوالي أربع مئة وثمانون عاماً، لكنّها
بالمقابل تحتفل بـ خمسون عاماً على إغلاقها نتيجة إستفتاء شعبي.
نحن نستخدم ملفات تعريف الارتباط (كوكيز) لفهم كيفية استخدامك لموقعنا ولتحسين تجربتك. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا، فإنك توافق على استخدامنا لملفات تعريف الارتباط.
سياسية الخصوصية