كوانتن ترانتينو يكتب يوميات العالم
حقّقت أفلام كوانتين ترانتينو نجاحات كبيرة، لأنه ليس مجرّد رجل "عكاك" ولكنه يلجأ إلى مدارس غير مطروقة، وربما غير مُحبّذة، في الفنون، هذه المدارس غير مُحبّذة لإنها ليست مقرّبة من الجمهور الذي لا يريد أن يجهد نفسه بالتفكير، لكن ترانتينو تمكّن من استخدام هذه المدارس من دون استعلاء على الجمهور، ومن ثم تمكّن من تقريب هذه المدارس المعقّدة للعامة.
بداية، هو يعتمد في سرديّته على ما يُسمّى في الأدب باللغة الإنكليزية: Stream of consciousness
الترجمة الحرفية للتعبير: تيار الوعي. أي أن الراوي يسرد بشكل غير مُتسلسل، وقد يبدو غير منطقي لروايته كأن تقول: لقد استيقظت صباحاً وتناولت القهوة.. القهوة، لقد اشتريت بالأمس كيساً من القهوة ولاحظت أن سعره زاد وكميّته أصبحت أقل، هل زادت الأسعار بسبب ارتفاع سعر الدولار؟ ياليتني لم أترك الوظيفة التي كنت أتقاضى فيها أجري بالدولار، كان المدير سخيفاً، سخيفاً مثل زوج أختي الذي تزوّجته من دون رضا والدي، والدي مريض عليّ الاتصال به، لكنه دائماً ما يوبّخني منذ صغري، وبسبب توبيخه كنت طفلاً منعزلاً في الحضانة، وكنت لا أحب سوى مُدرِّسة واحدة اسمها ليلى... ليلى صديقة زوجتي ستغادر اليوم إلى الولايات المتحدة، ربما لن تتمكن من دخول البلاد بعد الحظر... هل هناك حظر للتجول في أحد المحافظات؟ ماذا كنا نقول؟ آه... تناولت القهوة.
هذا بالنسبة لفنيّته في عرض الخط الدرامي.
أما عن آلياته الأخرى، فمن الملاحظ أنه يستخدم السخرية الشديدة القائمة على التناقضات، إلى جانب استخدام مشاهد العنف والدم بشكل مفرط ومكثّف، مع ظهور شخصيات بشكل مفاجئ، وتغيّر الأزمنة بشكل درامي، وفي بعض الأحيان توازي الأزمنة الماضي مع المستقبل مثلاً.
حقّقت أفلام كوانتين ترانتينو نجاحات كبيرة، لأنه ليس مجرّد رجل "عكاك" ولكنه يلجأ إلى مدارس غير مطروقة، وربما غير مُحبّذة، في الفنون، هذه المدارس غير مُحبّذة لإنها ليست مقرّبة من الجمهور الذي لا يريد أن يجهد نفسه بالتفكير، لكن ترانتينو تمكّن من استخدام هذه المدارس من دون استعلاء على الجمهور، ومن ثم تمكّن من تقريب هذه المدارس المعقّدة للعامة.
بعيداً عن إنجاز ترانتينو في المجال السينمائي، هذا ليس مقالاً فنياً. هل تشعر من السردية السابقة بأن ثمة تشابهاً ما بين ما ورد وبين حياتك اليومية؟
"أحد يتعامل مع أفلام ترانتينو بوصفها "واقعية"، لم يحدث ذلك من قبل، فهي أقرب إلى الفانتازيا، حتى حين يتناول حقبة تاريخية مثل فيلم "أبناء الحرام العظماء"، فلا أحد يتعامل مع هذه الأفلام بوصفها أفلاماً تأريخية تسرد أحداثاً وقعت بالفعل.
لكن، وبنظرة سريعة على شريط الأخبار اليومي، نكتشف الآن أن أفلام ترانتينو أصبحت الأكثر واقعية بين ركام الأفلام السابقة والحالية وربما الآتية.
هذا التسلسل غير المنطقي.
هذه المفاجآت.
هذه الشخصيات التي تظهر من اللا شيء.
هذه الكوميديا الصارخة.
هذا الدم المتخثّر حيناً والمتدفّق آحياناً بالتزامن مع اللا مبالاة المحيطة.
هذا الحديث السيريالي المتسلل إلى آذاننا عبر القنوات وخطابات الزعماء، بل والمناقشات الأكثر سيريالية حول هذه الخطابات.
لله درّك يا ترانتينو. وكأنه نبي ّهذا الزمان.
نبيّ بمعنى حامل النبوءة وليس بالمعنى الروحي أو الديني، حتى لا يترك أبطال أفلام ترانتينو المقال كله، ويتشبّثوا بهذه الجملة.. "سكرين شوت للكافرة نوارة نجم وهي تعتنق دين كوانتين ترانتينو وتدّعي له بالنبوة".
يبدو أننا في مرحلة مفصلية من تاريخ الإنسانية، وهي ليست المرحلة المفصلية الأولى في تاريخها، لكنها تبدو وكأنها الأكثر جنوناً؟ أو ربما لأننا أصبحنا على اطلاع أكثر بما يحدث حول العالم بسبب الثورة التكنولوجية؟
ربما.
السؤال: من أين أتت الإنسانية بكل هذا الهراء واللا منطقية بعد تجربة حضارية طويلة تعود إلى آلاف السنين؟
كيف يبدو المشهد العالمي والتظاهرات تجتاح الولايات المتحدة اعتراضاً على رئيس انتخبوه بأنفسهم؟
قد يحيلنا هذا إلى المشهد المصري في العام 2013 عقب تظاهرات تعترض على محمّد مرسي الذي انتخبه الناس، وهم ذاتهم من نزلوا لخلعه، وهذيان جماعته المستمر "مرسي راجع"، وشعور الناس، بعد مرور عامين على خلعه بأنه تم التلاعب بهم، وتم تمرير مرسي بكل عوراته الذهنية وتصرّفاته الخرقاء عن قصد لخلعه، وإثبات نظرية الراحل عمر سليمان: الشعب المصري غير مستعد للديمقراطية. والمطولات التي يبغبغ بها مؤيّدو النظام الحالي من أن الديمقراطية لا تناسب مجتمعات العرب، وأن العراق قد انهار بعد رحيل صدّام، كما هو الحال في ليبيا وسوريا والسودان واليمن، وأن الديكتاتورية شرط رئيسي لاستقرار المجتمعات العربية، ذلك لأن الشعوب العربية شعوب جاهلة بطبعها، يسيطر عليها الفكر الديني المتطرّف بسبب عقود من عمل الجماعات الإسلامية في المجتمعات عبر الجمعيات الخيرية، وأنها شعوب مشوّشة، تعرف ماذا لا تريد لكنها لا تعرف ماذا تريد، وأن الشباب عملاء وجواسيس ومموّلون، وأن من يقول بمصريّة جزيرتي تيران وصنافير هو خائن للوطن لإنه يشكّك في الجيش، ووقع الناس في حيص بيص: هل ولاؤك للجيش أم ولاؤك للأرض؟ وأخيراً: النشطاء يحبّون تيران وصنافير أكثر مما يحبّون مصر!
طيب.. هذا يحدث في هذه البقعة البائسة من العالم، لإنها دوماً كانت بائسة. نصيبنا.
لكن أن تنقل الولايات المتحدة التجربة المصرية بالمسطرة أو كما نستخدم في التعبير التكنولوجي: copy – paste
ونبدأ في مشاهدة مرسي الأميركي وهو يتصرّف بنفس الأسلوب المُرتبك الجنوني، ومعه مؤيّدون "كلهم مع القرار" قبل أن يعرفوا ما هو القرار. ويتحدّث مؤيّدوه عن "الاستقرار"، وعن أهمية رحيل المهاجرين من الولايات المتحدة الأميركية، التي بنيت بالأساس على فكرة الهجرة، لأنهم يستولون على نصيب "الأصليين" في الوظائف، علماً بأن السكان الأصليين لا يحظون بوظائف وأن من يسمّون أنفسهم بالأصليين هم مهاجرون بالأساس، ثم تبدأ أعداد مهولة في توقيع استمارات لسحب الثقة من ترامب، لنفس السبب الذي وقع الناس هنا في مصر لسحب الثقة من مرسي: خرق الدستور.
الله على الريادة المصرية.. أم الدنيا وحتبقى قدّ الدنيا... والمصحف ده كوانتين ترانتينو مافيش غيره.
الملاحظ أن ترامب قد فرض حظراً على دخول مواطنين ينتمون إلى سبع دول لم تشارك إحداها في أية أعمال إرهاب ضدّ الولايات المتحدة مؤخراً، لا الدول ذاتها مارست أي إرهاب ضدّ الولايات المتحدة، على العكس بعضها مارست الولايات المتحدة ضدّها الإرهاب مثل العراق، ولا أذكر أي مواطن ينتمي إلى هذه الدول قد نفّذ عمليات مؤخرا ضدّ الولايات المتحدة.
السبع دول هي: العراق، إيران، ليبيا، الصومال، السودان، سوريا، وأخيراً: اليمن.
ربما كان واحد من المشاركين في هجوم الحادي عشر من سبتمبر ينتمي إلى دولة اليمن، وهو رمزي بن الشيبة، وقد اعتقلته القوات الأميركية واقتادته إلى معتقل غوانتانامو.
أما باقي الدول فلا أذكر أن أحداً من المشاركين في الهجوم على البرجين كان ينتمي إليها.
كما إنه من الملاحظ مثلاً أن ترامب لم يفرض حظراً على مواطني السعودية، بالرغم من أن هناك دعاوى قضائية في الولايات المتحدة تتهم المملكة بشكل مباشر وواضح بالضلوع في أحداث الإرهاب بشكل عام، وفي حادثة الحادي عشر من سبتمبر بشكل خاص، وذلك بالتمويل وتجنيد العناصر إلى جانب نشر أفكار تكفيرية تقوم عليها المملكة وتدرّسها للنشء في المدارس. هذا هو رأي الناس في الولايات المتحدة... هؤلاء الناس الذين انتخبوا ترامب، هؤلاء الناس الذين يقفون في المطارات يرفعون لافتات ترحّب بالقادمين من العرب والمسلمين إلى الولايات المتحدة في تحدٍ لقرار ترامب التعسفي.
حقيقة أنا أقف حائرة وأودّ فهم المشهد! يعني هل مثلاً الشعب الأمريكي غير مؤهّل للديمقراطية مثلنا في مصر ومن ثم أساء الاختيار؟ أم هل لعب به جهاز السي آي إيه ووضعه في مأزق أن يختار ما بين شفيق ومرسي مثلما حدث معنا؟ هل يعاني الشعب الأمريكي من الجهل والأمية والفقر والمرض وتوغّل الخطاب الديني المتطرّف في مجتمعاته عبر الجمعيات الخيرية مثلنا؟
والله؟ يعني طلع الشعب الأمريكي الشقيق؟
لقد استعار الأميركيون كل شيء من تجربتنا البائسة حتى النكات.
هل سنضطر إلى اللجوء إلى نظرية المؤامرة التي أمقتها ونقول بأن هناك قوى عالمية تحكم العالم تحت الأرض – بالتعبير المجازي لا الحقيقي... معلش الواحد لازم يوضع في المصحة العقلية اللي إحنا عايشين فيها دي – ترغب في القضاء على الحقبة الديمقراطية في العالم من خلال إثبات أن الشعوب غير مؤهلة لاختيار من يحكمها، ومن ثم تتلاعب بمقدّرات الشعوب، وتحسن توجيههم حتى يفقدوا الثقة في خياراتهم ويسلموا بأنهم لا يعرفون شيئاً، وفقط "أنقذونا من أنفسنا" كما حدث عندنا في مصر؟
هل نحن مقبلون على مرحلة سلب الشعوب حرياتها لصالح جهات أو مؤسسات أو رؤوس أموال ما تتحكّم في أقوات الناس ومصائرهم والمعلومات التي تصلهم؟
هل سيركن الناس إلى ذلك؟
هل سيشعرون براحة أكثر حين يتركون الخيار لغيرهم كي يتخلّصوا من عقدة الذنب؟
الأمر محزن ومؤلم ومسبّب للكوابيس والاكتئاب حين تشعر بأن اختيارك نتجت منه التضحية بحياة آخرين. أنت تكره نفسك في هذه اللحظة.
لقد أفلحت التجربة في مصر. نعم. نحن الآن لا نريد أن نختار. لا.. ليس الأمر فقط أننا لا نستطيع الاختيار بسبب القمع، لقد فقد المصريون الرغبة في الاختيار. شعروا باليأس. شعروا بعدم الثقة في أنفسهم. شعروا برغبة في التحرّر من مسؤولية الحرية التي كانوا يتوقون إليها.
فهل سيتم تعميم التجربة على العالم ويكون الدور على أكبر دولة ديمقراطية في العالم؟
في مقال سابق قلت مازحة بأن العالم بدأ بمصر ويبدو أنه سينتهي بها.
ويبدو أنها لم تكن مزحة.