مشهد من طبيعة تونس الخضراء
كان لي شرف الدراسة الجامعية في مغرب الأمة العربي وفي أجمل بلدانها المتوسطية تونس. تونس لأكثر اهلنا في وادي خالد كانت تعني الهلاليين، ومن منهم لم يسمع عن بطولات أبي زيد الهلالي وعن سيرته التي تعدت الواقع في بعض الأحيان نحو الخرافة والخيال.
تونس في تلك الحقبة من القرن الماضي كانت ترزح تحت حكم نظام أمني، ومع ذلك لم يكن التونسيون بعيدون عن إخوانهم العرب وعن قضاياهم وعن نضالات إخوانهم الفسلطينيين تجاه الاحتلال الإسرائيلي.
التونسي ليس كمثله أحد من الشعوب العربية، إنه طينة فريدة جبلت على حب المشرق العربي وعلى التعلق بالقيم الإسلامية وبالثقافة الغربية (نوعاً ما)... ربما للعلمانية باع بتلك العقلية، فعلى سبيل المثال ممنوع تعدد الزوجات، وأيضاً تساوي الرجل والمرأة معللين ذلك بتكملة الأية الكريمة، الرجال قوامون على النساء: بما فضل الله بعضهم على بعض … والكثير الكثير ..
هي تونس جامع الزيتونة، منه ومن علمائه تأسس الأزهر الشريف في مصر الحبيبة. تونس عليسة (اليسار) وقرطاج ، تونس عقبة إبن نافع، تونس القيروان والمهدية وسوسة، تونس الفاطميين، تونس إبن خلدون، تونس أبو القاسم الشابي… تونس بكل بساطة، عشق نزار قباني، وإن لم تكن متيم الفؤاد بها فما عليك إلا أن تقرأ لشاعر العشق والغرام نزار:
يا تونس الخضراء جئتك عاشقاً *** وعلى جبيني وردة وكتاب
إني الدمشقي الذي احترف الهوى*** فاخضوضرت بغنائه الأعشاب
أحرقت من خلفي جميع مراكبي*** إن الهوى ألا يكون إياب
هي تونس التي احتضنت الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات حين اشتد الحصار عليه فآثر الرحيل من مخيم البارد في شمال لبنان إلى تونس. هي تونس التي طارت إليها طائرات العدو لتضرب القائد لفلسطيني أبو جهاد في العام 1988 بعد إندلاع الإنتفاضة الفلسطينية الأولى … هي تونس أخت فلسطين، فتجد في قلب كل تونسي، مكان للعروبة ومكان لفسلطين، إن لم يكن قلبه كله للعروبة ولفلسطين .
إن اردنا التحدث عن تونس وعن فضائل أهلها فالقائمة تطول والحديث سيتشعب. سأختصر الحديث بالصورة التالية:
التونسيون، كحبات القمح التي تنثر في أرضٍ خصبة، تلك الأرض هي العروبة. من حبة قمح تنبت سنابل وفي كل سنبلة حبات من العطاء والأمل والنقاء والكثير مما هو جيد.
أكثر ما شدني في تونس، أن في كل مدينة تاريخها المتمثل بالبلاد العربي كما يسمّيه أهلها. هي المدينة القديمة، فيها تشتم، وفي كل شارع من شوارعها روائح الماضي وعظمته. من تونس العاصمة ليس بعيداً عن شارع بورقيبة، إلى سوسة إلى صفاقس إلى …، المدينة القديمة شاهد على روعة العمران والتصميم.
من جهة ثانية، يعصرني الندم أنني لم أزر الجنوب التونسي، توزر ونفطة وقبلي في شط الجريد وحتى تطاوين وما أبعد من ذلك إلى رمادة. وإن كنت لم أزر الجغرافية المتمثلة بالمدن فإنني – ومن حسن حظي – حظيت بكثير من الأصدقاء من تلك المناطق، وتمكنت من معرفة معدن الجنوبيين وأدبهم وأخلاقهم وبساطتهم وأيضاً ذكاءهم وفطنتهم.
زرت في يوم من الأيام القيروان، من ضمن ما زر ، تلك المدينة الشاهد على عظمة هذه الأمة، حتى اللسان يعجز عن ذكر محاسنها وجمالها وروعة الهندسة فيها. هنالك، ليس بعيداً من جامعها، نبع من الماء، لا يزال يدور على الطريقة البدائية بنظام ميكانيكي بدائي يجره حصان بطريقة تقليدية. وقفت حينها، وأمام عظمة المشهد وبساطته في آن، أشاهد الحصان يدور في دوائره وأغمضت عيناي لأحس عبق التاريخ فيه. ارتشفت ماء القيروان وليس كماء القيروان ماء.
قال لي الصديق الذي دعاني إليه، أن من يشرب من مياه القيروان لا بد له أن يعود إليها. شربت من مياه القيروان ولم أعد إلى القيروان، ومنذ تركت تونس في العام 2006 لم أعد إليها كذلك. ولكن القلب الذي إرتشف من مياهها في صفاقس وتونس وفي المهدية وسوسة وفي المنستير والكاف لا بد له أن يقع مغرماً بأهلها الطيبين العرب الأصيلين.
فلكل أهلها من دون إستثناء، من برج الخضراء في أقصى الجنوب، إلى بنزرت في أقصى الشمال، ومن صفاقس في أقصى الشرق إلى نفطة في أقصى الغرب، سلام وأشواق.
حماكم الله أهلي وأحبتي من نار الحقد عند تلك الحدود القريبة في بن قردان، وحمى كل بلداننا العربية من المحيط إلى الخليج.