الشيخ سيّد درويش، تلك المُكابدة العاطفية القصيرة
أنا أحبّ الشيخ سيّد، لعذوبته، لإيغاله في مسّرات الحياة حتى أقصاها، في العشق وفي حبّ مصر . لن أتوّقف طويلاً عند مفهوم الثورة الموسيقية التي أحدثها الشيخ سيّد درويش، ولن أبجّلها. لنقل تبسيطاً، إن عدم انسجامي الصادق والفعلي مع بعض نتاجه ذي النكهة الغربية، ومنها الأوبريتات التي شاءها الرجل متقدّمة على قواعدنا وثوابتنا وثقافتنا، وموروثاتنا النغمية .
أحبّ كل الأدوار التي لحّنها وغنّاها درويش، ويكفيه أنه لحّن: " الحبيب للهجر مايل" و "في شرع مين يا منصفين" و "ضيّعت مستقبل حياتي" ، إلى دوره الرائع الخالد: " أنا هويت وانتهيت " في تعبيراته الدرامية الأكثر حداثة في الغناء العربي، غير المُتأثر بطموحات الشيخ سيّد درويش إلى دراسة الموسيقى في إيطاليا – حال دون حلمه هذا موته المُبكر في الحادية والثلاثين من عمره إثر أزمة قلبية أو لا أدري تماماً لأيّ من الأسباب مات – وإطلاعه على آداء الفرق الأجنبية التي كانت تفِد إلى الإسكندرية والقاهرة لتقديم عروضها، خصوصاً الأوبرالية منها، التي حضرها درويش وتوقّف عند بعضها من مثل: توسكا ومدام باترفلاي لبوتشيني، والبلياتشو لليونكا فالو. أدوار السي سيّد التي غنّاها كانت إسكندرانية بحتة، مصرية وشرقية بالكامل، تكتنز تلك اللواعج الحارّة والنشيج المبالغ الذي يتمظهر عند العشّاق عموماً، والعرب منهم خصوصاً. في أدواره العشرة التي غنّاها ولحّنها، جعل المقام الأساسي – على ما يقول الناقد فكتور سحّاب – واحداً من المقامات التي كانت تستخدم نادراً في الغناء آنذاك ، وذلك لتلوين المقامات المُعتمدة والمُهيمنة ، كالراست والبيّاتي والصبا والعجم.
قبل درويش، جاء من عمل على تطوير شكل المقام الذي ذكرنا، كعبده الحامولي في دور "الله يصون دولة حسنك" وأيضاً في "عشنا وشفنا". هناك أيضاً محمّد عثمان في "ياما انت واحشني" و "أصل الغرام نظرة" ، خصوصاً الدور الأشهى برأيي: "كادني الهوى" بصوته ، وبصوت ماري جبران. سيّد درويش نسج على منوال أكثر حداثة. الموسيقيون العِظام يخونون "السيستام" أي النظام ، من أجل عيون الموسيقى نفسها، الموسيقى – على ما يقولون – التي قلما يمكن ترويضها. موسيقى حرّة من تقاليدها، منطلق ثورة سيّد درويش على القديم. فالموسيقى الثابتة والمُتعفّفة التي حدثت قبل درويش، والطريق الذي لايزيح إليها، إنما هي أسطورة بالنسبة لدرويش، لاتتّفق مع الجديد والمحرّض والملهم.
سيّد درويش رأى في الاتكاء على الموسيقى ممن أتى قبله ومن منابعها الأصلية إن صحّ التعبير، ضرباً من الدوغماتية، إذ يستحيل الوصول إلى قرارها ونموذجها، بل هو الاشتغال والأكتشاف اللا مُتناهي الذي سعى إليه درويش، في سبيل جوهر الموسيقى، عربية كانت أم غربية. أُحبّ أدواره وبعض أغنياته "خفيف الروح بيتعاجب / برمش العين والحاجب" ، وليس كل موسيقاه ونتاجه. هي لوثتي الخاصة إلى الفن للفن إذن، وليس بوصفه شعاراً أو رسالة أو بياناً أو أيّ شيء من هذا القبيل.
قد يبدو هذا الخوض جريئاً من جهة مُستمِعة عادية، وأقّل طموحاً مما يريده جمهور الشيخ سيّد، قديمه وجديده. أنا من جمهوره ومُريديه، ولكن في أدواره التي لم يأت بمثلها أحد، لاقبله ولا بعده. كما أتفكّر في ذلك الشيخ الغضّ الذي مضى باكراً، وترك لنا هذه الثروات الفنية، ما الذي كان أضافه لو طال به العمر قليلاً؟ في أدواره العشرة على ما أحسب، احتفظ شيخ سيّد وحده بمفاتيح الآه. كان زعيم اللوعات التي يستنهضها في مستمعيه، لكن من دون الأوبريتات والهرج الذي لم يلامس قلبي.
ما عدا أدواره، لم يتحقق الكثير الآ بمقدار، والباقي كان تظاهرة صوتية حاولت تقليد الغرب فلم يبق منها سوى محاولة آلاتية وغباراً موسيقياً عارماً.