بيروت في ظل الوباء: سيارات إسعاف وعُمَّال "دليفيري"
بيروت المُنْكَفِئة إلى حياة مُخْتَصَرة وشحيحة تعيش خريفاً مُتمدّداً في طولها وعرضها من دون أية إشارة إلى نهاية قريبة.
يحبّ اليمام رائحة الناس. أحياناً لا يستأنس شغبهم وشرّهم حين يُلاحقونه أو يرميه الأطفال بالحصى، لكنه لطالما استأنس لسعيهم إلى رزقهم فينال من خبزهم فتاتاً أو بضع نثرات يلقونها له في الهواء.
أما وقد انحسر الناس إلى منازلهم خوفاً من عدوى الوباء، وزجرتهم أوامر الحَجْر وإجراءات الإقفال، فقد تراجع حضور اليمام في الفضاء أو عند نواصي الشوارع والساحات.
تجمَّد الدم في أوصال بيروت التي لم تكن تنام قبل الجائحة الكاسِحة. الصباحات ما عادت تتدفّأ على وَقْعِ حركة أجساد العاملين والموظَّفين المُتوجِّهين إلى أعمالهم، ولا أشجار الأرصفة تبتسم للتلامذة الراكِضين إلى مقاعدهم الدراسية. تفكَّكت دورة الحياة واضطربت أنشطتها الحياتية رويداً رويداً، ووصلت إلى مُلامَسِة شَلَلٍ تامٍ يُخيِّم على أحياء وشوارع العاصمة.
الأسى يبدأ عند شروق الشمس، وينهمر كشلالٍ من الحزن حين يهبط الليل بصمتٍ وخوفٍ ويتحوَّل إلى قشعريرةٍ باردةٍ تُفْرِغ كل شيء من معناه.
ها هي أرصفة البحر شاحِبة. في الشاطئ المُقابل لم تعد ترى مصابيح مراكب الصيَّادين. وعلى الصخور القريبة لا وجود لصيَّادين كانوا يطاردون السمك بسنانيرهم الصغيرة. الرصيف البحري يتنفَّس هواء البحر وحيداً ملء حجارته فيما مقاعده المُسطَّحة مُغطاة بملح الذكريات. يفرغ المشهد من رياضيين ومُتنزِّهين تفتقدهم تلك النسمات العليلة بعد أن تراجعوا إلى متاريس المدينة الإسمنتية للحماية من عدوى تتجوَّل بضراوة.
الحياة مُغْلَقة بالحديد
الجراّرات الحديدية مُسْدَلة على مداخل المتاجر والمطاعم والمقاهي بعنجهيّة شرطي لا يعرف الرحمة. الشوارع التجارية تصفِّر فيها أدخنة سيارات قليلة مُسْرٍعة خشية أن تلمحها دوريات الشرطة والرقابة على التجوّل، فيما عيون بعض المُتسوِّلين المُغامرين ترصد عابراً من هنا أو هناك لعلَّ رحمة تنزل عليهم في هذا الجفاف المُقيم.
بعض الدكاكين المسموح لها بالعمل أقام على مداخله حواجز بلاستيكية لمنع الاتصال بالزبائن، فيما بعض الدكاكين أنزل جرارات مداخله مُكتفياً ببعض العاملين لخدمة مَن يودّ الحصول على البضائع عن بُعد.
في شارع الحمرا الرئيسي، كنموذجٍ للشوارع الرئيسية الأخرى، قُضيَ على الحركة بالكامل. عشرات المطاعم والمقاهي والملاهي تحت درجة الصفر.
الثقافة مطوية على نفسها
لم تكن بعض المراكز الثقافية من معارض ومسارح تحتاج إلى جائحة "كورونا" لتنطوي على نفسها. أزمة البلاد العاصفة ضربت أسسها من قبل ووضعتها في مواجهة مصير مُتَدَهوِر بالتدرّج. لكن فروض الإغلاق والحَجْر ضيَّقت الخِناق عليها وعصفت ببرامجها ونشاطاتها كلياً. هكذا خيَّم الفراغ على الحياة الثقافية في الحمرا وطوى أيّ أمل باستعادة العافية. "مسرح المدينة" يُعبِّر بأسى عما آلت إليه الثقافة، ويبدو مدخله المُلاصِق للطريق مسرحاً لنفايات تركها المُتسوّلون فتراكمت وأضفت عليه مسحة من الكآبة والمرارة.
سيارات إسعاف و"دليفيري"
مستشفى "الجامعة الأميركية" القريب يبثّ وحيداً شيئاً من حياة مُلتَبِسة. لا يعرف إن كانت سيارات الإسعاف الداخلة والخارجة منه تحمل أحياء أو أمواتاً. حركة حافلات الصليب الأحمر والجمعيات الطبية الكثيرة تنشط على خط المستشفى باعثة عاصفة من التوتّر من خلال أبواقها الصاخِبة.
كان عُمَّال خدمة التوصيل "الدليفري" يستغلّون سيارات الإسعاف ليشقّوا لأنفسهم طريقاً سريعاً خلفها لإيصال "الطلبيات" إلى المنازل والمكاتب على وجه السُرعة والفعالية.
أما وقد أفرغ الوباء المدينة وأزاح الازدحام عن طُرقاتها، فقد أخذت الدراجات النارية، بحقائبها المليئة بالأطعمة الساخنة أو المواد الغذائية، تجوب الشوارع بحريةٍ مُطْلَقةٍ وسائقوها يبتسمون ابتسامة النصر والرضى.
تكاثر عمال "الدليفيري" ونمت مهنتهم حين سُجِنَ الناس في بيوتهم وباتوا بحاجةٍ إلى مساعدةٍ يوميةٍ لا فكاك منها. أصبح هؤلاء جنود المدينة لا يهدأون ولا يتعبون في رِهانهم على كَسْبِ مزيدٍ من المال لقاء خدماتهم الحيوية للمحجورين في أبنيتهم بلا حول ولا قوَّة.
بيروت المُنْكَفِئة إلى حياة مُخْتَصَرة وشحيحة تعيش خريفاً مُتمدّداً في طولها وعرضها من دون أية إشارة إلى نهاية قريبة. حديقة الصنائع التي لم يمض على تجديدها وزراعتها بالأشجار والنباتات اليانعة وقتاً طويلاً، تختصر صمت المدينة وحزنها.
الأسوار المُزَخْرَفة والقناديل المرفوعة عليها تبدو ككائناتٍ وحيدة لا أنس أو نبض يُلامسها، ولا بهجة أطفال كانوا ذات يوم هنا، ثم فرّوا كعصافير مذعورة إلى أحضان عائلاتهم ومنازلهم.