فيروز.. العمر كله
في حياتها أنجزت فيروز ما يُسمى الضمير الجمعي، ووحدت ما لم توحده الدساتير والتفاهمات والتحالفات. وحدها قادت اللبنانيين في معراج الإحساس الراقي والكلمة العميقة الملتزمة.
في أحاديث زمن الأوبئة والأزمات الاقتصادية والمعيشية، يتبادل اللبنانيون كلمة سر متفائلة وواثقة: الست فيروز.
الست فيروز وفي كل سنة، في عيد ميلادها الذي يطل في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني، تأخذ من حياة اللبنانيين حصة وازنة تُلقي فيها بصوتها على أكتفاهم المُتعبة؛ عباءة صوتها الشافي، وتستخرج من صدورهم الآهات وأثقال الحياة. وهي من دون غيرها، تملأ الأيام بالبهجة والسرور والعنفوان والأمل، كما لو أنها تلك الأيقونة الفنية - الإنسانية التي لا ملجأ سواها ولا نجاة إلا بصوتها.
لا ضرورة لاستعادة ألقاب فيروز وصفاتها، فهاجس اللبنانيين والكثير من العرب والأجانب يتمحور حول بقائها على قيد الحياة، ليس انتظاراً لأغنية جديدة أو مُوّال أو حفلة، فكل ما في ضمير محبيها يعمل على ساعة أيام السيدة وحياتها. فالسنة الماضية وقبلها أيضاً، لم تتوقف الشائعات والأقاويل المفبركة والعشوائية والبلهاء أحياناً عن وفاتها أو مرضها الشديد. شائعات تُبث كما لو أنها أوامر بالتخريب وبث القلق والخوف، لتتويج اليأس المقيم بسبب انسداد أفق التغيير والإصلاح في نظام يلتهم أبناءه ببطء موجع. والحال أن ما يطال السيدة فيروز من فبركات يعكس في ما يعكس ردات فعل لافتة تشي بأن عشاقها يتمسكون ببقائها في عرشها، وإن كانت الأعين لا تطالها إلا في ما ندر من إطلالات تختارها هي لتمسد جراح أهلها، على غرار ما فعلت حين بثت صلاتها للرب أن يرأف باللبنانيين ويزيل عنهم غم الوباء وشروره.
في حياتها أنجزت فيروز ما يُسمى الضمير الجمعي، ووحدت ما لم توحده الدساتير والتفاهمات والتحالفات. وحدها قادت اللبنانيين في معراج الإحساس الراقي والكلمة العميقة الملتزمة، وأهدتهم ذلك الحلم بوطن وأمة من بيروت إلى زهرة المدائن وبغداد والشام وعواصم العرب، كأن صوتها هو الجسر الذي أراد أن يجمع ويوحد ويقرِّب، في زمن البغضاء وتفجير الحروب الأهلية والتخاذل وبيع الأوطان والتطبيع والتخلي.
ولأنها جارة القمر وأحلام البسطاء من الرباط إلى بغداد، ولأن صوتها يُمطر فوق جراح القدس، زهرة المدائن المنهوبة بالاستيطان الإسرائيلي وطعنات ذوي القربى، يستيقظ اللبنانيون والعرب في يوم ميلادها ليقولوا لها: العمر كله.