موت صانع الأوهام

اشتهرت منذ شبابي برغبتي في حمل الجثث وحبي لتأمّلها وشمّ رائحتها، إلى أن أصبح أهالي المنطقة يطلقون عليّ لقب "حامِل الجثث" وأصبح الصِغار يخافون الاقتراب مني. 

  • موت صانع الأوهام (Pedro De La Montaña)
    موت صانع الأوهام (Pedro De La Montaña)

صمت أول الطريق إلا من أصوات بكاء ترتفع في محاولة لجعل المشهد أكثر ريبة. الحواجز كثيرة، والجيش ينتشر في كل مكان مصوّباً بندقيته المُهترئة على الأرض مُستعداً لأية فوضى يمكن أن تحصل، على الرغم من الاستعدادات اللازمة التي أحاط نفسه بها. القوة حاضرة دائماً معهم للحفاظ على هشاشتها.

في المقابل، غضب مكتوم في عيون أصحاب الذين اكتظّ بهم الشارع، وتوتّر كبير يتسرّب وسط هذه الحشود والفوضى، فموت الرئيس كان منذ زمن مُنتظراً من واهب الحياة. أما الحديث عن الكرامة والكبرياء في هذه الأثناء، في بلد يتقاسم شعبه أقل القليل الباقي فأمر يدعو للرثاء.

 لطالما كانت تعجبني مهارات الرؤساء الجديدة في المحافظة على حياتهم وشبابهم لكن الموت سيمسك بأعناقهم جميعاً مهما حاولوا استجداء عاطفته في ألا يقترب منهم.

مات الرئيس، لكن ما يُثير التعاطف حقاً ليس موت الرئيس بل شكل الجنود المزروعين منذ ساعات على جوانب الطرقات حمايةً لجثة ستهترىء بعد قليل. أحدهم ينظر إلى ساعته متأفّفاً، وأحدهم تخلّى عن خوفه ووضع يديه في جيبه، وأحدهم يفرغ غضبه في امرأة، طلب منها السكوت رغم أنها لم تقل شيئاً. أما الضابط المسؤول فينفث دخانه ببطء مُنتظراً انتهاء يومه بخير. أكاد أجزم أن لا شيء يعنيهم مما يحصل. 

وصلت الجثة أخيراً يرافقها صوت رجل يصرخ بمُكبّر صوت وبعبارات غاضبة "افتحوا الطريق للرئيس الآدمي". بقيت عيناي مُعلّقتين بالرجل الذي يحمل مُكبّر الصوت حتى غاب عن نظري، وأنا أفكّر بعدم استطاعتي الهروب من الموت. فكّرت أنني لم أكن أكترث قبل عشر سنوات لكنني الآن أخاف منه، فكّرت أيضاً بعظامي التي سترتاح بعد زمن قرب الرماد. هل تبقى رائحتها؟ هل يحتفظ الموتى برائحتهم؟ فكّرت أنها ستحاول الطيران كفراشة وأنها ستكون أكثر خفّة وشجاعة عندما أموت لكنني لم أكن حازماً.

أعادتني صرخة الرجل الثانية إلى المشهد السريالي في ما كنت أنظر إلى الناس كموتى مقبلين. وبما بقي لديّ من قوّة حملت التابوت الذي يحمل إسمه، وقد أصبحت قريباً جداً من لحظة تحاشيتها طوال سنوات. جثّة الرئيس ليست كغيرها من الجثث. لقد اشتهرت منذ شبابي برغبتي في حمل الجثث وحبي لتأمّلها وشمّ رائحتها، إلى أن أصبح أهالي المنطقة يطلقون عليّ لقب "حامِل الجثث" وأصبح الصِغار يخافون الاقتراب مني، أما الكبار فيشيحون بوجههم بعيداً عني كي لا يزيدوا من إحراجي. 

كنت رجلاً وحيداً ومهجوراً –أخاف من ظلّي- أعيش كجرذٍ في مدينة هشّة، ترمي عليّ بكامل أحمالها، إلا أنني مع الوقت اعتدت عبور هذه اللحظات بعاطفةٍ أقل، وكنت منذ طفولتي قد حفظت أقوالاً مأثورة وحكماً وآيات قرآنية وأحاديث نبوية عن الموت أستخدمها في أحاديثي اليومية وعند الحاجة أو عند أداء مهمّتي في حمل الجثث ودفنها. 

كثير من الورد رافق تابوت الرئيس في مسيرته داخل المدينة، ومعزون قلائل مشوا خلفه في ياقاتهم المنشّاة. كان على الأغلب فرضاً عاطفياً يؤدّونه لتقاسُم المصاب والألم مع أهل الفقيد، وقد فضحهم خلوّ عيونهم من التعاطف الحقيقي وغياب اللحظة الأكثر حرارة في وداع ميت عن وجوههم، أما المعزّون في الصالة فكانوا يتهامسون بصوتٍ مُنخفضٍ، رتيب ومتواصل. المقعد الخشبي في زاوية الصالة أخذه رجل ستيني، غائم العينين، مُرتخي العضلات، لم يكن في مزاج رائق لتبادل القصص من المنتظرين المُتململين لكنه كان يتمتم في شفاه، طالباً الرحمة إلى الجثة كما جرت العادة. لا بد أنه رجل محترم مثقل بالمثاليات ينتمي إلى زمن الأناقة والقِيَم الكُبرى، فطريقة كلامه المُقتضبة تؤكّد أنه مازال متمسّكاً بتفاصيل ذلك الزمن.

الكل كان مشغولاً بأمر ما، ومنهم من اصطنع حدثاً لينقذ نفسه من المتاهة التي أسقط نفسه فيها، ومنهم من مالَ إلى الثرثرة وتأليف بطولات وهمية عن حياة لم يعشها. لم يكترث أحد من المعزين إلى الجثة المُحاطة برعاية أبنائها. إبنة الرئيس تمنّت للحظة التمدّد قرب أبيها كما كانت تفعل عندما كانت صغيرة لكن الخوف منعها من النوم قرب رجل ميت. ماذا تعني جثة الأب؟ سؤال قاسٍ لكنه حقيقي ولا أحد يملك جواباً واضحاً. كان صوتها ضعيفاً وخائفاً مما أعاق قدرتها على قول كلام كثير عالق في حلقها يجب أن تقوله لأبيها قبل أن يصدأ أو يفقد أية قيمة. تمنّت حينها لو أنها تستطيع أن تبكي، فوالدها الذي من أجلها فعل الكثير من سيتحوّل إلى رماد والمنزل الذي حضن أشياءهما الكثيرة لن يوحي إلا بالفقدان من بعده. 

هواء حار تسلّل إلى الغرفة زاد رغبتها بالتقيؤ. ولأن أشياء صغيرة تعيد اعتبار الكرامة للإنسان، ولأنها أرادت صورته في الموت أكثر جمالاً على اعتبار أنها الصورة الأخيرة التي لا يمكن محوها من الذاكرة، ولأن نظرات الناس لهذا الكائن العجوز المُتهالك بدأت تتراكم بصمتٍ مهلك بعدما أربكه فائض العُمر، ولأنها أرادت أن تنتقم من فقده لكبريائه الذي اشتهر به حين كان رئيساً، طلبت أن يتوقّف العزاء الصامت وأن يأخذوا والدها إلى مثواه الأخير. ماذا يهمّ الميت في النهاية؟ ربما ينهش الذباب الجثة، ربما يأتي أحد فيحرقها أو يبيعها، أو حتى ربما يعتقلها كرهينة! فماذا يهمّ الميت في النهاية؟