اليوسف للميادين الثقافية: لا قصيدة بلا وزن والجوائز الأدبية ليست نزيهة
كتبت 3 مجموعات قصصية في أدب القاع، وكانت صوتاً صادحاً في الدفاع عن المهمشين والمسحوقين والفقراء. إنها الأديبة الفلسطينية السورية غادة اليوسف التي حلّت ضيفة على الميادين الثقافية وهنا نص الحوار الذي أجراه معها أوس أبوعطا.
كتبت ثلاث مجموعات قصصية في أدب القاع، وكنت صوتاً لأولئك المسحوقين الذين لا صوت لهم، لماذا اخترت الكتابة عن هذه الطبقة؟ وهل عملك في السلك القضائي كان هو المُحرِّض؟
إن عملي كقاضيةٍ مُستشارة لم يكن هو المُحرِّض لاختيار الكتابة عن المقهورين رغم تأثيره كدافع إضافي، لأنني ومنذ بداية كتاباتي وبخاصةٍ المقالات والزوايا الصحفية، كانت موضوعاتي تستسقي مادتها من آلامهم. لا أخفي أنني في الكثير من قصصي تلك أساسها مقال صحفي زاوية كتبته بأسلوبٍ قصصي، سواء كانت مادته سياسية أو اجتماعية.
أنا لم أختر الكتابة عن هذه الطبقة أو الفئات المُهمّشة بقصد، بل كتبت عن الإنسان المقهور، عن الضُعفاء الذين يُمارَس عليهم التنمّر والاستبداد في أكثر من مساحة. مَن اختار هو دافعي للكتابة، فما قيمة أية كتابة إن لم يكن الإنسان مادّتها وهدفها؟ وما قيمة أيّ مجد شخصي لأيّ كاتب خارج مجد الآخر؟
النصّ الجميل هو النصّ الذي تتجلّى فيه الذات في ارتباطها في الآخر/الأنا الجمعيّة/تجلٍّ تشفّ فيه النفس، وتفتح نوافذها على تأمّل الحياة والناس، وبناء اليوم واستشراف الغد، هو النصّ المفتوح على الحراك المجتمعي ذي الموضوع المُحدّد، وأقصد مُعاناة الإنسان، وبخاصةٍ وأولاً مُعاناة المُهمَّشين المحرومين والمقهورين بقهر سببه التسلّط والتنمّر والاستغلال والتخلّف والجهل والفساد، وضعف أداء المؤسّسات المعنية بارتقاء الإنسان وتحقيق العدالة له. المؤسّسات بكل تسمياتها. بدءاً بالمؤسّسات الدولية وليس انتهاء بأصغر مؤسّسة محلية قانونية واقتصادية وثقافية واجتماعية.
لِمَ تعتبرين أن الوزن هو عِماد القصيدة؟ أليس هذا الاعتقاد أشبه برأي مُتأخّر في ظلّ شعر درويش وأدونيس وغيرهما؟
لا قصيدة بلا وَزْن ولتتعدّد القوافي ما شاء لها النَغم. الوزن هو قَيْد الشاعر القاصِر، بدليل ما نراه من آلاف النصوص المحسوبة على الشعر والمُتحرِّرة من الوزن. أقصد ما يُسمَّى قصيدة النثر. هُراء بات يخنق الساحة الأدبية بغثاءٍ لا يحمل من الشعرية ما يجعلنا نتجرّأ على مقام الشعر لننسبه إليه.
إنها تهويمات وادّعاء غموض لإيهام المُتلقّي بأن النصّ (الهُرائي) هو فوق مستوى فَهْمه وإدراكه، والأمر لا يتعدّى التلطّي خلف ذلك الإبهام والسَيَلان اللفظي لإخفاء الضعف. أتحدّى ممّن استسهلوا قصيدة النثر أن يكتبوا نصّاً شعرياً موزوناً له قيمة أو معنى. أمّا عن أدونيس ودرويش وعز الدين المناصرة وغيرهم فإنهم لم يكتبوها عجزاً أو قصوراً، بل نوّعوا وأبدعوا وأين ما نقرأ الآن مما كتبوا.
النصّ الجميل يحمل شعريّته التي لا تُخفى على المُتلقّي. أنا مع الجميل ولا قاعدة تؤطّر الجمال، على ألا نشيع التلوّث بحجّة التفلّت، عجزاً، من كل قَيْد، والمقصود تلويث ذائِقة المُتلقّين الجُدُد.
(سدنة الاغتراب) كتاب جمعت فيه رسائلك المُتبادَلة مع الناقِد الفلسطيني يوسف سامي اليوسف، وهي رسائل غير عاطفية وذات بُعد إنساني ونقدي للنظام العالمي المتوحّش المحكوم بلوردات المال وبارونات الحروب طبقاً لأقوالك، لِمَ تعتبرينها من أهمّ ما كتبت؟
في كل كتابة أكتبها أراها أهمّ ما كتبت. النصّ كفَلْذَة الروح، كالإبن، لا إبن أغلى وأهم من الآخر، ولكن ربما رأى النقّاد في (سدنة الاغتراب) أهمّ ما كتبت وذلك لأنها رسائل أو نصوص شفافية وصدق لا لتنشر، فاكتنزت أهم ما يعتمل بوجدان أديبين إغترابيين في عالمٍ عاصفٍ بالقَهْر والخَلَل، وقيمتها مُتأتّية من أن كل رسالة من تلك الرسائل تشكّل نصّاً أدبياً رفيعاً يترحّل في الذات وفي العالم، ويحمل رؤى في الثقافة والسياسة والفلسفة والتصوّف.
غادة اليوسف السورية التي تعيش في وطنها ويوسف سامي اليوسف اللاجئ الفلسطيني الذي حُرِم حتى من الموت في مُخيّمه، ما الذي جمعكما؟ وكيف تقاسين غربة الوطن وأنت بين أكنافه؟
لم يكن الفلسطيني لاجئاً في سوريا أبداً، بل هو إبن سوريا الجنوب وأنا لا أوافق على هذه التسمية. يوسف اليوسف الذي نشأ وترَعْرَع في سوريا لم تتأتّ غربته من امتهان المكان لمَن حُرِم أرضه وبلاده فلسطين، بل من الحنين إلى تلك الأرض التي ولِدَ فيها والتي شكّلت مصبّاً لحنينه الذي لا يرتوي، حنينه المُعْتَلِج الذي لم ينطفء يوماً إلى حلم جميل يندّ عن التحقّق وهو العودة إلى بلدته (لوبيا). الذي جمع بيننا هو الأدب والفكر وتقارُب الرؤى والنظرة إلى الحياة بكل تجليّاتها. جمعنا الاغتراب عن المحيط بما فيه ومَن فيه، والأديب اغترابي بالضرورة لأنه يرى النقص في الواقع ليس في وطنه فحسب بل في العالم كلّه مادام أنه يتألّم في حَمْأة البؤس والشقاء.
الأديب اغترابي لعَجْزِه عن التكيّف مع الغَثَاثة والبَلادَة والقسوة والظلم، وحين يتكيّف مع واقعٍ كهذا فإنه يفقد الكثير من ضِرام وقلق روحه الذي يزكي حبره ليكون جديراً بأداء رسالته الجمالية والإنسانية.
تدّعين أنه ليس هناك جوائز نزيهة وكنت قد شاركت في مسابقة واحدة فقط ولم تكرّري المحاولة، ما سبب موقفك هذا؟
أنا لا أدّعي ذلك بل أؤمن به. شاركت بمسابقةٍ يتيمة ولم أكرّرها لقناعتي بعدم نزاهة تلك الجوائز. فماذا يعني أن تُستبعد مجموعة قصصية هي من أعلى ما كُتِبَ في فن السرد القصصي وفق رأي النقّاد الكِبار من مسابقةٍ ذات قيمة، فقط لمُجرَّد احتوائها على نصٍّ ينحاز إلى المقاومة؟ في حين تفوز فيه نصوص لا علاقة لها بما يمور في الساحة الفلسطينية؟ ويومئذ في الجنوب اللبناني؟
إن موقفي نابع من لامُبالاة بتلك الجوائز رغم ما تقدّمه من مردودٍ في الشُهرة الأدبية وما تمنح الأديب من قيمةٍ في الأوساط الأدبية، بالإضافة إلى مردودها المادي. لا أخفي أنني بعد أن قطعت هذا الشوط من العُمر لم تعد تعنيني تلك الجوائز شيئاً، ولست على استعداد لأتعب نفسي في سبيلها. أقول إنها ليست نزيهة أو على الأقل ليست خالِصة النقاء في كل مكان. أما بالنسبة للمجد الذي قد تمنحه تلك الجوائز فإنني في غِنى عنه، لأنني أؤمِن ألا مجد بلا حرية ولا حرية بين عبيد، ولا يعنيني المجد الشخصي بين أناس غير أمجاد. أقصد البشرية المُتقلّبة في محارِق العبودية للشُهرة والمال والقوَّة.
تكتبين حالياً رواية السيرة الذاتية، لماذا تعتبرينها من أصعب وأهم وأخطر مشاريعك الكتابية في حياتك؟
أنا أراها الأصعب والأخطر لأنها السيرة الذاتية وما تتطلّبه من صدقٍ وتَعْريةٍ للذات قبل الآخر. لقد أتت هذه الحرب الظالِمة على سوريا لتؤكّد وتظهّر حقيقة الكثير من تلك الشخصيات، عِلماً لحظة الحرب تستدعي القول الناصِع. الحقيقة كما تسطع الشمس.
هل صحيحٌ أنه بعد العام 2011 انشطرت الطبقة الأدبية في سوريا إلى شطرين؟ وهل من المُمكن أن نرى أدباءً يتوسّطون الجميع؟ وأين تقف غادة اليوسف؟
هذا التشظّي والانشطار للطبقة الأدبية كان واضحاً منذ البداية، ويا للعار لأنه ما يزال مُستمرّاً رغم إنجلاء صورة الصراع تماماً. مهوّلٌ حجم الخَيْبَة بأديبٍ أو مُثقّفٍ يُباع ويُشرى. يستبيح شرف الكلمة بالمال المُلوّث المدفوع ممّن يذبحون وطنه، فأية كارثة هذه؟
أمّا عمَّن يقف بين بين؟ يتوسّطون الجميع؟ فهؤلاء الأخطر طرّاً، لأنهم ينتظرون نهاية المعركة لينضمّوا إلى صف المُنْتَصِر. هؤلاء هم الأقْذَر، ففي معركة الصراع بين حقّ ناصِع وباطِل صريح يكون الوقوف على الحياد خيانة ومُناصَرة للباطل، وأنا أقف في صف الحق بالمُطلَق. حق الإنسان المقهور وحق الوطن المُسْتَهْدَف.