طيورٌ إلى الشمس

كنتُ طفلةً، والطفلُ لا يعرفُ قصّتَهُ.

  • طيورٌ إلى الشمس
    طيورٌ إلى الشمس (Shari Buelt)

أنا ابنتُكَ يا أبي. أنا ابنةُ رجلٍ ريفيٍّ يجاوزُ السّتين من عُمره. من هنا بدأَت الحكايةُ. لا أعرفُ شكلَ تلك البداية، رأيْتُ نفسي وسطها ولم أسألْ كيف بدأت. أفكّرُ أنني آلامُ أمّي. لا بدّ من أنّ الولادةَ اشتغالٌ على الجسد وكان جسدُ أمّي لم يزلْ طريّاً.

كنتُ طفلةً، والطفلُ لا يعرفُ قصّتَهُ. كبرْتُ ولم أعرفْ كيف أروي حكايتي. وعندما نضجْتُ لم أعدْ أؤمن أنّ قصتي تُروى. آمنْتُ كما يؤمنُ الجميع. لا شيءَ قبل الحكاية، لا شيء بعدها.

لم أسألْ كيف بدأتْ. وجدْتُ نفسي وسطها. حاولْتُ مرةً أن أسألَ فأشغلونني بالنهاية. اعتقدْتُ أنني سأعرفُ النهاية فوجدْتُ بعد ستةٍ وعشرين عاماً أنّ النهاية هي نهاية ولا شيء بعدها تماماً، كما الحكاية.

مشيْتُ كثيراً. أعرفُ أنّها كانت امتداداً لبقايا امرأةٍ تداعى جسدُها النحيل في التراب بعد أن سَكنه النوم. الترابُ يصلحُ لكل شيء، أعرفُ ذلك تماماً. لا بدَّ أنّ وجهها قد أتعبَته التجاعيد والغبار وأنّ ديداناً تخرجُ من أحشائها.  أعتقدُ أنها في الأسفل وحيدة إلاّ من ديدان، لأنّ ثمنَ السماء ليس رخيصاً.

أنا ابنتك يا أبي. 

أذكرُ أنه عندما ولدتني أمّي اختلطَ صوتي بأصواتِ الأطفال الباكين، ومن وقتها لم يعدْ أحدٌ يُميّزُ صوتي فصرتُ أختبأ في ثوب أمّي من كل صوت غريب، وأبحث عن ظلّها في كل وجه غريب. جزءٌ من الحكاية أنني لا أعرفُ كيف أبكي. لكنّ البكاءَ ليس صوتي، إنه صوتٌ آخر أحملُه في عُنقي يُحاولُ أن يخرجَ ليسترجعَ صداه.  

أنا ابنتك يا أبي. وأكثرُ ما أحتاجهُ أن تمشي إلى جانبي وتمسك يدي، لنرسلَ طيوراً إلى السماء فأنام بشهيّة تُشبه شهيّتي وأنا طفلة.

كبرْتُ يا أبي وبدأت أرى النقاط تكبر، فقلت لقد وصلت، فمشيت أسرع. صغُرَتِ النقاطُ يا أبي فتابعتُ، فكبُرَتْ من جديد.

كبرتُ يا أبي وأنا أريد أن أقول ما أقول، أن أفتحَ أبواب المدينة، أن أهدمَ الأسوار العالية، أن أنظرَ كالعميان إلى وجوه العابرين وهم يهربون إلى مكانٍ مجهولٍ لا يعرفونه.

كبرتُ يا أبي وأنا أريد أن أمشي وأتوقّف وأنحني وأصرخ.

كبرْتُ يا أبي وأنا أعرف أنها ليست سوى كلمات. لكنها كلماتي. فماذا أفعلُ بكلماتٍ لا تمشي إلاّ بجانبي؟