حب من ورق
حبك كان تحدياً. تحديت غرورك، وصمّمت أن أروّضك.
هي نفسي تذوي من وجعها السحيق. وهي الريح تحمل أشلاءها وتذريها على جبل تابور. حيث تشرق كالشمس كما أشرق المسيح. وها هم الحواريون يحاولون عبثاً جمع تلك الشظايا الشعواء، فلا يستطيعون!
صدري أيها الإله الصامت. لقد أثلجت غطرستك، فاغتالت الأريز والندى. ستحميك أيها الباشق. ستحميك حتى من الهباء.
احتبس اللسان وأصبحت الكلمات السوداء خرساء. إنها تخاف الكلام. وتأبى الصمت، فتعيش في برزخ أرقط. تجلد بأفيون يتهجد وتصلب على سندان أسقف متمرّد.
الدكتورة "جمانة". يزيدني هذا القناع ضياعاً لأن "جمانة" الإنسان داخلي خائفة. ألج المستشفى.. التمثال المشلول يشدّني إلى الأعلى حتى أراه. يبدو كوثن تهجع داخله خطايا رجال الدين.. إنه المطران الذي يدفن في سريرته بذور الشر.
كنت كباقي الهجاج أحييه كل صباح. مردّدة قسم أبقراط ومونت بوليي.. وشرف الطب. هذا القرف الذي ارتديته مذ حملت وسام الطب. إلا أنه لم ينفعني أبداً، فما معنى أن أكون طبيبة وأنا عاجزة عن شفاء نفسي؟
هذا الإحساس ينحرني. يجعلني موؤدة تحت ركام اليأس. تائهة في قفار الوجود الضرير. أفتش عن جذوة أحطّم بها ديجور حياتي. بعدما هجرني النور وانتحر ليدفن مع بقايا حرب طروادة.
"وحيد" كنت مستلقياً على الأريكة. تمتص الحياة من السيجارة المحتضرة. ثم أطفأتها. أحسستني في تلك اللحظة سيجارة أطفأتني وجعلتني رماداً. لكنني اكتشفت أن وضعي أعظم لأنني كنت مرمدتك!
أطفىء سجائرك. إزرع جذوتها في صدري وأرق دمي المشتعل، فالقلب الرميم ما عاد أسيراً بأصفاد حبك لأنه يحتضر.
حبك كان تحدياً. تحديت غرورك، وصمّمت أن أروّضك. أن أجعلك إنساناً يحيا بمبادئ وقِيَم. ووجدتك تتغيّر وقد أشرق نور المسؤولية ليقتل الشيطان العابث فيك. وسمعت عينيك الصامتتين تنشدان إلياذة الحب الأسطورية. ماذا عساه يقول الكلام الميت؟
ثم فتحت عيني لأجدني مرمية على الكابل أنتظر مصيري. ورأيتك. رأيتك أيها الظل الطويل تقبل نحوي ترتدي صمت الحكمة، وعبق الجلّنار يفوح منك، فعرفت أنك جلادي.
غرفتي. أراك تسبحين داخل اللهب الوهّاج. هكذا أرادك "وحيد" أن تكوني. وأنا "هاديس" طبّقت الحكم عليك. ها قد أحرقتك. أحرقت فيك المهاد البائس. مخمل الأبرسيم بألوانه ورسومه بعد أن نكث بالعهد المقدّس. كسرت المرآة الكاذبة. وحطّمت الأسطورة التي توشك على الغروب!
وعرفت. عرفت أن "سلمى" زميلتي أخذت مني "وحيد". الرجل الوحيد في حياتي، فليس لي أب أحنّ إليه ولا كتف أخ أستند إليه.
الألم يجعلني أذبل كزنبقة جريح جلدتها رياح القسوة. كنت وحيدة في غرفتي الداكِنة. كانت عبراتي تتسابق. وكانت أنفاسي بهيرة، فأطفأت آخر شمعة مشتعلة.
التذكرة في محفظتي. حقائبي جاهزة.. أقصد المطار. لا أحد أعرفه هنا. ومن عساه يودّعني غير ذكرياتي النازفة وآلامي السحيقة؟
ها هو أزيز الطائرة ينبىء عن مستقبل جديد يلوح من بعيد ليعانق آمالاً ستشرق في حياتي.
"وحيد" سأنساك. سأمحو ذِكراك. وسأرميك كالورق في سلّة المهملات. ظننت حبك فرقداً هوى، فسكن غياهب صدري. لكنه أحرقني.
أنا أعرف الآن معنى أن يكون الثلج ناراً تلتهب. تحرق وتحترق.. وأنا "هاديس" أحرقت حبك لأن حبك من ورق!