القيم الرمزية بين بودريار وبورديو وفوكو
يعتبر بورديو أن التلفاز وسيلة للتلاعب بعقول البشر ونشر أيديولوجية الدولة المهيمنة، وأفكار الطبقة الحاكمة، بحيث يهدّد واقع الحقيقة وينشر زيفاً مصطنعاً مخالفاً تماماً لمبادئ الديمقراطية والحرية والفن أو الثقافة.
تأخذ القيم الرمزية دوراً رئيسا ًكمفهوم فلسفي، فهي معيار حقيقي لفهم طبيعة الأشياء المادية والفلسفية، وهي أيضاً مؤشّر فعّال لتقييم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، ومجال اشتغال وتفاعل الغايات والأدوار والأهداف الثقافية.
(فالرمز) له تأثير واضح في بناء وتشكيل النمط سواء (الثقافي، الاقتصادي، أو السياسي في المجتمع). وهو تعبير عن سلوك اجتماعي يمارسه الأفراد في نطاق محدود من الحريات. ومن خلال هذه الزاوية سنحاول كشف العلاقة القائمة بين بيار بورديو وجان بودريار وميشال فوكو، وتحديداً حول مدى اشتغال الرمز وحضوره معاً في المجتمع والاقتصاد، وأيضاً في البناء السياسي والاستراتيجي وتفاعله عبر مجمل العلاقات الفردية، بحسب تنوّع مصالحها وأهدافها التي تؤسّس لنمط ثقافي محدّد، وترسم حدوده الممكنة كموضوع للقيم المعاصرة. ومن جهة ثانية ارتباط تلك القيم بالإنسان كونه المصدر الأساس لتفاعل تلك العلاقات بين أفراد المجتمع.
تمكّنت المدرسة الفرنسية مع فوكو، بورديو وبودريار من فهم طبيعة القيم المعاصرة وإعادة ترتيبها، فهي قيم مزدوجة تحمل المعاني والأبعاد المعقدة خصوصاً لإرتباطها بمفهوم الرمز، الذي يوظّف حسب الغايات، والأهداف: (اقتصادية، سياسية، ثقافية) وأحياناً فلسفية. ومن خلال هذه المقاربة يمكننا طرح التساؤل الآتي؟
ما علاقة الرمز بالتنوّع الثقافي؟ وماهي المعايير التي تربط الرمز بنسق الحاجات في المجتمع؟ وما هو دور الإنسان في تفاعل القيم الاقتصادية والثقافية؟ وكيف يعمل الرمز من تحويل وتثبيت الغايات والأهداف في (المجتمع)؟
تختلف المقاربة النظرية بين (بورديو/ بودريار/فوكو) حول اختلاف جذري في نظم القيم الغربية المعاصرة، والتي تعكس بنية ثقافية واقعية لدى هذه المجتمعات بفعل تطوّر الثورة التكنولوجية والعلوم ووسائل التواصل الحديثة التي جعلت من الأفراد في تسابق نحو تحقيق المصالح وصراع نحو الغايات في ما بينهم. ثمة إذن تفاعل مزدوج للقيم الثقافية والرمزية والتي ستترتّب عنها قيم استهلاكية وأخرى مصطنعة، نتيجة لإفراط مادي واضح، أو نتيجة للتأثير الثقافي الرمزي الذي يمارسه الأفراد في سبيل تربية السلوك المدني والاجتماعي.
عبر هذه الصورة توظّف الرموز كتقنيات وأساليب مرنة لها تأثير مباشر على سلوك البشر المادي والثقافي، والنتيجة حسب بيير بورديو هي تربية الناس على سلوك محدّد، ينبغي أن تؤسّس عليه تلك الثقافة أو ذاك التوجّه. وهذا الأمر سبق وأثبتته المادية الجدلية التي برهنت عن جدوى بعض القيم والمفاهيم الفردية مثل الحرية والإرادة، بالرغم من سعيها الواضح نحو قيم اجتماعية أساسها الإنسان.
ساهم الإرث الماركسي بدور كبير في كشف دور القيم في المجتمعات الصناعية والرأسمالية. فقد عمل على تحليل مفهوم (رأس المال) الذي لا يقتصر على الإنتاج الاقتصادي، بل صار اليوم إنتاجاً رمزياً متطوّراً وعابراً للموضوع (ذات الإنسان من منظور فوكو). فالقيمة تقاس بمقدار العمل الذي يشغله الإنسان بغضّ النظر عن قيمة العمل.
إلى هذا الحدّ يقتصر البعد النظري لدى الماركسية في إطارها الاجتماعي والسياسي. فنسق الحاجات يحوز قيماً مادية وأخرى أيضاً رمزية ثقافية تنتقل بين أفراد المجتمع، وهذا المضمون ركّزت عليه الفلسفة المعاصرة بدءاً من بارت وبودريار ((Barth، وفي مرحلة سابقة مع فيبلنVeblen)) خصوصاً في الإطارالرمزي لفلسفة القيم التي بلورت مفاهيم جديدة تتفاعل مع غايات وأهداف الكائن الاقتصادي(الإنسان).
فالقيم المادية تجمع بين قيم الاستعمال من جهة، في إطارها الوظيفي، والقيم الرمزية القائمة على استراتيجيات ومصالح وظيفية تتأسّس على قالبها العلاقات الخدماتية والاجتماعية، وهذا المفهوم هو جوهر العلاقة التي تحتل فيها تلك الرموز أدواراً ووظائف يصعب على الماركسية تحديد وفكّ رموزها. ما دفع المفكّر الفرنسي جون بودريار في كتابه مرآة الإنتاج (Le Miroir de la Production) إلى تفسير "هيروغليفية" القيمة عند ماركس، ثم كشف إطارها الرمزي والثقافي.
قدّم بودريار (Baudrillard: 1929-2007) تحليلاً دقيقاً لفهم طبيعة القيم الرمزية خصوصاً في كتابة (المجتمع الاستهلاكي la société de Consommation) والذي يختلف عن تحديد الماركسية التي ركّزت على الإطار الأيديولوجي لعلاقات الإنتاج، أكثر من الإطار التقني الذي يمهّد لثورة حقيقية في منظومة القيم الإنسانية والاجتماعية، نظراً إلى ما تحتويه الرموز من قوّة التأثيرعلى العلاقات الاجتماعية والاقتصادية عبر تقنيات (التعتيم أو تزييف، التشويش، التزيّن...الخ). فالرموز لها قابلية التكيّف والتحوّل والتفاعل. والإنسان بطبيعة الحال يعتبر محرّكاً أولياً لهذه الرموز ليس فقط في الاقتصاد فحسب، بل في باقي الأبعاد الأخرى السياسية والاجتماعية.لأن الاقتصاد أصبح جزءاً مهماً يتفاعل مع كل الأنساق الممكنة نظراً إلى مرونة طبيعته النفعية والسياسة.
اعتبر بودريار (الإنسان) منتجاً ومستهلكاً، وأيضاً مصدراً مهماً في توليد الطاقة الاقتصادية. استلهم بودريار بعداً رمزياً آخر يقبع وراء قيم (التعدّد) التي صارت مبتذلة وفاقدة للواقعية وللروح بعدما فقدت اتصالها بالوجود الإنساني، وهنا تأخذ القيم استراتيجية محاكاة الواقع في تقريب الحقيقة وإخفائها لأن هدف استراتيجية محاكاة الواقع هو التعتيم.
يخضع الواقع لتخطيط رمزي مرن تعجز وسائل الحسّ الفردي عن التمييز بين الحقيقي والمصطنع، أي استعصاء تام بين إدراك وتحديد الواقع والصورة أو النمط الذي يحاكيه، هنا تنصهر الرموز بالواقع ويعجز العقل عن فكّ أثرهما الممزوج. من خلال هذا الانصهار التام تعمل الرموز على تكثيف الدلالات وربطها بعلاقات الواقع لتولّد لنا (الإنتاج)، كموضوع رمزي يعمل على تكوين نمط افتراضي يحمل قيماً قابلة للاستهلاك تتكيّف وفق الحاجات الضرورية للأفراد.
يشير بيير بورديو(Pierre Bourdieu :1930-2002) إلى مفهوم إعادة الإنتاج المتصل بالتربية الأخلاقية والثقافية، فالرمز في نظره يضمر قوّة مثل اللغة في الضبط والسيطرة على أفراد المجتمع، هذا بالإضافة إلى دور القيم الوجدانية والأخلاقية التي تطبّق على الإنسان، وتجعل الفرد خاضعاً لسلطتها عن طريق التربية والتلقين، وهما فعلان أساسيان لتمرير الرمز، فقد ركّز على الإعلام باعتباره أداة خطيرة تمارس العنف ضد الأفراد، إذ تقدّم لهم ما تشتهيه السلطة المهيمنة التي تستغلّ وسائل الإعلام لتحقيق أهدافها ومصالحها واستغلال عقول الناس وسلب حريّتهم الشخصية وحقوقهم الضرورية في الاختيار والذوق وتحقيق أرباح ضخمة.
من هنا يعتبر بورديو أن التلفاز وسيلة للتلاعب بعقول البشر ونشر أيديولوجية الدولة المهيمنة، وأفكار الطبقة الحاكمة، بحيث يهدّد ذلك حقاً واقع الحقيقة وينشر زيفاً مصطنعاً مخالفاً تماماً لمبادئ الديمقراطية والحرية والفن أوالثقافة.
يلتقي كل من بودريار وبورديو تحت مفهوم (الصورة) التي تنقلها وسائل الإعلام وتشحنها بالرموز والرسائل، من أجل بلوغ غايات معيّنة. غير أن الفلسفة المعاصرة سعت إلى تعرية هذا القناع وكشف حقيقة الإعلام، ثم الصورة التي تحرّك تلك الروح بين أفراد المجتمع لكي تتكاثر وتتوالد كإعادة للإنتاج (Reproduction)، وتشبعها بقيم مصطنعة وتوهم الناس بأنها حقيقة الواقع.
تظهير هذه الصورة في مسألة تجاوز الحريات الفردية عن طريق زرع الزيف والوهم من خلال وسائل الإعلام التي تجعل من الأفراد قطيعاً تسهل قيادتهم أو ترويضهم. أو عن طريق الإنكارالقيمي (Dévalorisation)، بإنكار قدرات الأفراد وإنكار لطاقاتهم وكبت مواهبهم وإهمالها. فالإعلام أصبح من الوسائل الفعّالة التي تؤثّر في الأفراد، وتمارس عليهم عنفاً رمزياً على عموم المواطنين من قبل الطبقات المهيمنة.
حاول فوكو (Foucault Michel: 1926-1984) من خلال كتابه "المراقبة والمعاقبة وولادة السجن"، أن يجيب على السؤال الذي يثيره، وهو لماذا تحوّل الإنسان الغربي الى جسد صامد ومروّض وخنوع؟ لماذا هذا التأثير الواضح يظهر على سلوك الإنسان؟
عمل فوكو على تفكيك كل الأبعاد المرتبطة بالجسد بدءاً بالتعذيب مروراً بتجربة السجون ليكشف لنا لغز الجسد والإنسان، عن طريق السلطة التي عمدت إلى إخفاء جانب التسخير السياسي للجسد وتوظيفه لهذا الغرض.
بالنسبة إلى فوكو فإن ما يمكننا استخراجه من الجسد هو إما تعذيبه، أو إجباره وتقويمه، ثم إخضاعه للعمل. فالجسد يمكن أن يصير إنتاجاً اقتصادياً، وسياسياً صامداً، وهذا التسخير مكّن أجهزة الدولة (العنف الناعم)، عبر ما يمكننا تسميته بالتكنولوجية السياسية للجسد، وهي منتشرة في كل بؤرة من بؤر المجتمع، كسلطة تمارس منذ الطفولة في روضة الأطفال، وفي المدارس والجامعات، على العمال والسجناء..، حيث يتعزّز الإطار الرمزي للسلطة في التقويم والتعديل والضبط والإخضاع.
الفكرة التي حاول فوكو إظهارها من خلال مؤسّسات الدولة هي هذا الضبط الوظيفي للجسد والذي يرمز إلى كيفية استثمار الجسد عبر آليات الضبط والقهر كقيمة رمزية، حيث تعمل مؤسّسات الدولة لجعلها تقنية فعّالة لتطويع ذات الإنسان، وقابلة لخدمة الأغراض السياسية والاقتصادية. وهي بذلك تحمل معاني التعدّد والتنوّع حسب إطارها الوظيفي، ووفقاً لهذا التحديد يعتبر فوكو أن القيم الرمزية التي يوفّرها الجسد يمكن استغلالها في باقي المجالات تحت تلك الغاية التي ترغب فيها تلك المؤسّسات، لأن الجسد أصبح أيقونة حاضرة تخدم كل المصالح والأهداف وتريدها السلطة المنصهرة في الغطاء الاجتماعي والاقتصادي.
يشترك بورديو، فوكو، بودريار في هذا الإطار الرمزي لطبيعة (الصورة) سواء الاجتماعية أو الثقافية والاقتصادية للمجتمعات الاستهلاكية التي جعلت من موضوع ذات الإنسان طاقة منتجة وتحمل قيماً متعدّدة بفعل الغايات والأهداف والمصالح. فالإنسان يسعى دوماً إلى تطوير أهدافه، عن طريق إعادة الإنتاج وتطوير قاعدة الاستهلاك، بتعزيز سلطة الرمز التي تتحكّم في ضبط العلاقات الاقتصادية والثقافية في المجتمع.
المصادر والهوامش
- ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة وولادة السجن، ترجمة د. علي مقلد مراجعة وتقديم مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، بيروت لبنان 1990م
- بيار بورديو وجان كلود باسرون: إعادة الإنتاج- في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم، ترجمة د. ماهر تريمش، مؤسّسة راشد آل مكتوم، مركز دراسة الوحدة العربية، ط1، بيروت لبنان، تشرين 2007م.
- بيار بورديو قواعد الفن، ترجمة: إبراهيم فتحي، الهيئة العامة للكتاب، رئيس مجلس الإدارة، د أحمد مجاهد، القاهرة، 2013م
- نظرية الطبقة المترفة، تأليف تورشتاين فيبلن، ترجمة محمود محمد موسى، مراجعة الدكتور إبراهيم سعد الدين، الدار المصرية للتأليف والترجمة، 2003م.
- ميشيل فوكو، المعرفة والسلطة، عبد العزيز العيادي، المؤسّسة الجامعية للنشر والتوزيع، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى،1994م.
Baudrillard Jean, Le Miroir de la Production, ou l’illusion critique du matérialisme historique,- Deuxième Edtion Casterman,1973.
Baudrillard jean, La Société de Consommation, Edition Denoël,1970. -
Veblen Thorstein, Théorie de la Classe de loisir, traduit de l’anglais par Louis Evrard. Edit, - Gallimard 1970.
Debord Guy, Commentaires sur la société du spectacle. Editions Gallimard, Paris, 1992.