العنصرية فيروس
العنصرية فيروس يأتي دائماً من مكان آخر. إذا احتدمت البطالة فجأة، نوجّه أصابع الاتهام إلى الوافدين الجدد الذين يحتفظون، كما يبدو، بجينات البؤس الذي يسمح للعنصرية بالإخصاب. بمشاهدة المريض، نعلم بوجود الفيروس، وهذا ما يؤسس لفكرة أن المريض مسؤول عن المرض.
أثارت التغطية الإعلامية الغربية للأزمة الأوكرانية مسألة العنصرية الأوروبية تجاه غير الأوروبيين. التصريحات التي أطلقها إعلاميون ومراسلون ومسؤولون حول موجات اللجوء الأوكراني، ومقارنتها باللجوء من دول الشرق الأوسط وأفريقيا، تعيد إلى الواجهة مسألة الإزدواجية الأخلاقية في أوروبا، والإنسانية التي تقف عند حدود اللون والدين. لهذا السبب وجدنا من المفيد استعادة مقالة للكاتب داني لافريير نشرها في العام 2020 بعنوان "العنصرية فيروس" في صحيفة "لو دوفوار" الكندية. المقالة ترجمتها إلى العربية بثينة الزغلامي وهذا نصّها.
***
حسناً،لنكن واضحين، العنصرية تولد تعيش وتستطيع أيضاً أن تموت يوماً ما. إنها معدية وتنتقل من إنسان إلى آخر، ومع ذلك فإن سرعة العدوى تختلف حسب المكان والوضعية.
يمكننا في الواقع خلق مواقف من العدم. أوضاع تفاقم سرعتها وقوتها وأخرى تخفضها. أحياناً يقع الاعلان عن موجات جديدة في الأفق، ونتعجب لأن الإشارات التحذيرية تنذر باقتراب حدوث الخطر. البطالة، البؤس، والعنف الحضري، وانعدام اللياقة، هي عوامل قادرة على تسريع ظهور العنصرية في مكان كان وجودها فيه جنينياً.
لكن للعنصرية هذه الخصوصية. ألا تولد أبداً في المكان الذي نكون فيه. إنها فيروس يأتي دائماً من مكان آخر: إذا احتدمت البطالة فجأة نوجّه أصابع الاتهام إلى الوافدين الجدد الذين يحتفظون، كما يبدو، بجينات البؤس الذي يسمح للعنصرية بالإخصاب. بمشاهدة المريض نعلم بوجود الفيروس، وهذا ما يؤسس لفكرة أن المريض مسؤول عن المرض.
إذا كان الرجل الأبيض يعتقد أن هذا الفيروس جاء إلى الولايات المتحدة مع الرجل الأسود، فإن هذا الأخير يؤمن أن جشع الرجل الأبيض لاستغلال طاقته هو ما يبقيه على قيد الحياة. ليس هناك أسود من دون أبيض، كما لا وجود للأبيض من دون الأسود. كل منهما أمام كينوته قبالة الآخر. هذا منتج هووي جديد تماماً. أميركي كما الهمبرغر. إنها هوية خلقها الفيروس. أما الهنود الحمر فلا يزالون محتجزين في المحميات.
اللحظة التاريخية
نتساءل متى بدأ كل شيء في الولايات المتحدة؟ منذ 400 عام مع تجارة الرقيق. السفن الأولى للعبيد رست في ذلك الوقت على سواحل أميركا. يبدو ذلك بعيداً، لكن على الصعيد التاريخي كأنه بالأمس.
أحفاد العبيد يفعلون كل شيء ليتذكروا تلك القرون الدامية، بينما أحفاد المستعمرين يقومون بكل شيء لنسيانهم. نحن لا نفكر دائماً في ذات الشيء في اللحظة نفسها. يمكننا إرجاع مفهوم الفيروس إلى وقت بدأت فيه أوروبا تخيل هذه الطاقة المجانية التي لا تنضب: قوة عمل العبيد. الهدف هو المال. جعل الآخرين يشتغلون مجاناً مع امتلاك الحق في حياتهم وموتهم . ما زلنا نجد في الولايات المتحدة أشخاصاً يفكرون في تلك اللحظة بحنين إلى هذا الماضي.
أقول الولايات المتحدة لأن الاحداث الأخيرة حصلت فيها. لكنني ابتسم عند رؤية أوروبا تتعجب من عنف العنصرية الأميركية متناسية أنها كانت أصل كل هذه الحكاية. إنها أول طاعون، لأن ثلاث قارات على الأقل كانت متورطة: أوروبا أفريقيا وأميركا.
اللغز
هناك نقطة تظل غامضة. العنصرية قادرة على أن تظهر في الاماكن الأكثر بعداً. هناك حيث لا بؤس ولا بطالة ولا حتى شخص أسود، ومع أننا نعرف طريقة عملها، فهل أراضيها غير محدودة؟ هل زمنها لا نهائي؟
هناك أشياء كثيرة نجهلها في سلوك الفيروس. نحن نتبع الاتجاه من دون استباقية اليقين الوحيد. المعاناة التي تسببها مجموعة واحدة. السود. ونحن نستغرب لتنوع الدراسات التي أجريت على سلوك هذا الفيروس.
مثلاً، هل ينتقل من الإنسان إلى الحيوان؟ نستطيع أن نصدق ذلك عند مشاهدتنا جنوب الولايات المتحدة. فمنذ زمن قريب كتب في أماكن عامة "يمنع على العبيد والكلاب". قد نعتقد أنها نزوة في مختبر، ولكن في الواقع ذلك جزء من مسار لا إنساني.
اللانسانية
حتى يتمكن العبد من قبول وضعيته كماشية كادحة، فإن ذلك يتطلب مشاركة جميع قطاعات المهن التي لها تأثير مؤكد في المجتمع.
النخبة السياسية والفكرية والدينية لذلك العصر التزمت بإقناع العبد أنه في مكانه, في المؤسسة الصحيحة ضمن المجتمع الاستعماري. فمن هو؟ مجرد بضاعة نسعى لبيعها لمن يدفع أكثر. الكنيسة أقنعته أن الالم الكثير سيجازى عليه بمكان مؤكد في الجنة.
فصل من القانون الأسود يضبط كل مظاهر حياة العبد وينص على أن الرقيق ملكية منقولة. نحن في أوج "عصر الانوار"، ومع ذلك ستزهر العبودية على امتداد تلك الفترة للفلسفة الراقية والتطور العلمي، وعلى الرغم من ذلك كان يتم التساؤل هل إن للرجل الأسود روحاً!
نلاحظ إذن أنه كلما استوطن الفيروس، كلما تفاقم اعتقاد النظام القمعي أنه أكثر سلطة. فهو عندما يكون هناك، من الصعب طرده من الجسد. نحن نتظاهر بالبحث عن لقاح لقتل الفيروس.
ذلك اللقاح اقترحه "عصر الأنوار" مع فكرة التقدم في جميع المجالات. فالثورة الفرنسية حاولت في لحظة خاطفة أن تدق عنق العبودية (تتعفن المستعمرات عوضاً عن المبدأ!- روبسبير عن العبودية). لكن في الحقيقة من دون حسبان القطعة الاساسية. المال. لأن الجميع يسعى إلى الاثراء بتجارة الرقيق. الفلاسفة أيضاً، وعلى رأسهم فولتير، كانوا يملكون أسهماً في شركة الهند الشرقية.
المال
المال هو من سمح للفيروس بالانتشار. فهو يتغذى من رغبة الإنسان النهمة للغنى بتكاليف قليلة. عمال لا ندفع لهم مالاً.
ففي الولايات المتحدة اعتقد أبراهام لنكولن أن العبودية لا تتماشى مع مشروعه لأميركا جديدة. كانت حرب الانفصال والشمال يربح، وبصورة مكثفة ذهب السود إلى هناك ليصبحوا موظفين وسريعاً يصابون بخيبة أمل. العبيد القدامى الذين صاروا عمالاً، غدا عندهم راتب. إنهم يعملون تقريباً كالماضي وعليهم أن يعيشوا في أكواخ جرذان وأن يدفعوا ثمنها باهظاً. إكتشفوا أن العامل عبد يدفع فواتيره وحده، ولكن وضعيته ليست مختلفة عن سابقتها. يبقى المشكل برمته قائماً.
العبودية قاسية، لكن الرأسمالية ليست مزحة أيضاً. فالشمال هو جنوب خال من الشعور بالذنب، والفيروس تكيّف بسرعة مع الوضعية الجديدة. فلنضع الإصبع على المشكلة، إذ علينا أن نضع الرجل الأبيض (شمالاً وجنوباً) على أريكة الدكتور فرويد، لأن الفيروس اختبأ في ثنايا الجسد الاجتماعي بحيث يستحيل التخلص منه إلى حد أن العنصري يتساءل عمّا يتهم به. فالامر يشبه قليلاً حين يعتقد المغتصب أن الفتاة الصغيرة هي من استفزته.
التباعد الاجتماعي
إذا كانت جنوب أفريقيا قد أنهت الأمر مع التمييز العنصري، فإن الولايات المتحدة فهمت ذلك من زمن قديم قبل أن تحدث المسافة الاجتماعية، وبغرابة هذه المرة فإن التباعد الاجتماعي قد سمح للفيروس الاحتفاظ بقوته.
وقد وضعت الولايات المتحدة نظاماً صحياً يبعد الابيض عن الاسود في كل مجالات الحياة. فلا ينبغي أن يكونا في نفس الغرفة وألا يمرا من باب الدخول ذاته إلى مكان عام أو خاص (السود من الباب الخلفي والبيض من الباب الأمامي)، ولا يجب ارتياد نفس الحانات إلا عند وجود بابا دخول وقاعتين منفصلتين، وعدم الأكل والرقص والنوم في نفس المنزل (منزل السادة في الباب الأمامي وفي نهاية الفناء توجد أكواخ العبيد).
لقد تم التقيد بالقواعد بدقة في ذلك العهد، لأن العقوبات كانت ثقيلة وكان على السود أن يحافظوا على المسافة، بينما الابيض يمكنه أن يتنقل في كل مكان حتى في خانة الرجل الاسود، والامر متروك لهذا الاخير لتجنب الوجود في طريقه حتى وإن وجده مع زوجته.
فيروس خاص
لا أدري بأي منطق غريب استطاع البشر استنتاج أن فيروس العنصرية لم يكن في الإنسان الأبيض بل في الأسود، ولم يوجد في السيد بل في العبد ، مثلما كان هناك اعتقاد بأن المرأة مسؤولة عن اغتصابها. ولهذا السبب تم تكليف الشرطة بحماية الرجل الأبيض من الرجل الاسود، لأن خطيئته أن الابيض عنصري. فهو لا يلام على أي شيء آخر عدا كونه أسوداً.
وقد أكد مفكرون أن أي شخص يمكنه أن يكون عنصرياً ونذلاً وقاتلاً، لكن العنصرية فيروس خاص. فهو يحتاج إلى ناقل يعتقد أنه متفوق على كل فرد آخر يختلف عنه. فبينما لا يزال معتقداً أن الرجل الاسود في أسفل السلم، عليه أيضاً أن يكون عضواً في مجموعة قوية وطاغية، وعليه قبل كل شيء أن يؤمن بأن تفوقه يعود إلى زمن سحيق.
من ناحية أخرى، كان يجب على النظام أن يجعل الرجل الاسود يقبل بطريقة ما أن كافة هذه الامتيازات بديهية. والنتيجة أنه عندما يتقابل الابيض والاسود في هذه "الأميركا"، فإن عليه أن يعرف أنه كان منذ بضعة قرون من أملاكه المنقولة. أما بالنسبة للاختبار فإذا فشلت في الاجابة عن هذه الاسئلة فانت لست مصاباً بالفيروس.
حاملو الفيروس الأصحاء
لفترة طويلة كان الإنسان يعتقد أن العنصري يشبه أولئك الرجال الذين يضعون أقنعة مدببة، ويلبسون أردية بيضاء طويلة ليتلاقوا ليلاً تحت أشجار ضخمة حاملين مشاعل وصليباً ملتهباً، ويلقون خطابات تحث على الكراهية وتؤكد تفوق البيض.
في وقت لاحق ساد الاعتقاد أيضاً أن الجيل الجديد كان يتكون من شباب "بينك " عنصريين برؤوس حليقة مدببة، مثل سكاكينهم التي تحاكي لهجة صنعت من قرقرة تحيات نازية ترافقهم وهم يبيعون نسخا قديمة من "كفاحي".
نعلم اليوم أن الفيروس أصاب الجميع تقريباً بعد 4 قرون، وأن أغلبية حامليه أصحاء. ما يعني أنهم ينقلونه لكن لا يتألمون والأسوأ أنه يمكنهم حمله.
لنفترض أننا جميعاً مصابون بالفيروس. أولئك الذين يعانون منه والمرضى وليس هناك شفاء ممكن من دون مجهود جماعي. فهل رأيتم الطاقة والمال المبذولين للفيروس الآخر من دون أمل، رغم ذلك، في استئصاله كلياً؟ فإذا قمنا بنفس المجهود، وان اضطررنا لحجب النظام واقتلاع هذا الفيروس دفعة واحدة من الجسد البشري . فقط مجهود لتدمير الفيروس من دون ربطه بعرق بشري أو حتى بماض دموي، وإن كان ذلك غير صحيح، فسيكون مساراً بطيئاً للغاية. لكن إن نجحنا سنشعر بأننا أقل غباء، ويمكننا أن نضحك ونحن نحكي لابنائنا لاحقاً أنه منذ بعض العقود فقط، كان العالم منقسماً إلى أعراق وأن الإنسان يمكن ان يموت بسبب لون بشرته.