فكره موسوعي وشامل.. لماذا لا يزال إبن خلدون حياً؟
فقد عائلته بالكامل بعد غرق سفينتهم، ونجا من القتل والمكائد، ويقال إنه المؤسس لعلم الاجتماع.. من هو ابن خلدون؟ ولماذا لا يزال إنتاجه حياً إلى اليوم؟
إنّ الاهتمام بإبن خلدون ينطلق من التأثير الكبير الذي أحدثه هذا المُفكِّر لا في العالم الإسلامي فقط، بل في الفكر العالمي برمَّته. خاصة وأنّه يتَّصف بفكرٍ عَقلاني أهلَّه أن يكون أحد أكبر المؤسِّسين لعِلم التاريخ وعِلم الاجتماع.
ولعلَّ المسائل التي طرحها إبن خلدون تبدو لنا نحن اليوم راهنة بفضل واقعية التحليل الذي اعتمده لفَهْمِ الظاهرة الاجتماعية، حيث عايَن الواقع وفَهِمَ الطبيعة البشرية وميولها، وقدَّم مُقاربات عملية للمشاكل من دون وثوقيّة أو ركون إلى الحلول الجاهزة.
صحيح أنّه عاش في القرن الــ 14 ولا يستطيع أن ينفصل عن واقع عصره ومشاكله، لكن المسائل التي طرحها يمكن أن نطرحها نحن انطلاقاً من واقعنا الخاص. فكتاب المُقدِّمة مثلاً يبدو وكأنه مُقاربة لتاريخ التخلّف، لأنّه يتناول مشاكل الحضارة ومرض الثقافة، وهو بذلك يُحدِّد ولادة التاريخ بوصفه عِلماً ويضعنا أمام مرحلة جوهريّة من ماضي ما يُسمَّى "العالم الثالث"، وهي مرحلة انحطاط الحضارة في حيِّزٍ كبيرٍ من العالم (1).
من جهةٍ أخرى، فإنّ ما يجلب الانتباه عند إبن خلدون هو فكره السياسي الذي يسعى إلى تشخيص حال الدول وأسباب قوَّتها وضعفها، كما يرسم معالم ظهور الدولة عموماً وصيرورة وجودها.
عقلانيّة إبن خلدون تبلورت في نقده للأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة بطريقةٍ موضوعيّةٍ مكَّنته من الوقوف على مكامن الضعف في كل أمَّة مقبلة على السقوط، من دون أن يستند في ذلك إلى تفسيرات أو تبريرات مسقطة خارجة عن إطار الواقع الاجتماعي والطبيعي الذي يحدِّد الكائن في وجوده.
وأهمّ ما يستوقف القارئ للنصوص الخلدونية، في هذا السياق، هو لحظة ضعف الدولة، حيث يسري المرض في جسدها فتتمظهر الأعراض في حال المذلَّة والانقياد التي ستكون عليها الأمَّة، فيصبح زِمام أمرها بيد غيرها وتفقد استقلالها في جميع المجالات اقتصاديّاً وسياسيّاً وثقافيّاً. وفي هذا الاتجاه فإنّ ما يُفسِّر حال التّبعيّة هو الكسل والامتناع عن العمل والخلق والإبداع، وهي حال نفسيّة مُحبطة تصيب الشعوب المغلوب على أمرها، ربّما نتيجة الظلم الذي لحقها من جرَّاء فساد الساسة وأصحاب النفوذ في الدولة.
وهكذا، فإنّ "الأمّة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء، والسبب في ذلك والله أعلم: ما يحصل في النفوس من التكاسُل إذا ملك أمرها عليها وصارت بالاستعباد آلة لسواها (...) تناقص عُمرانهم وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم (...) فأصبحوا مغلبين لكل متغلّب وطعمةً لكل آكل (2)".
من هنا نفهم أنّ عقلانيّة إبن خلدون تبلورت في نقده للأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة بطريقةٍ موضوعيّةٍ مكَّنته من الوقوف على مكامن الضعف في كل أمَّة مقبلة على السقوط، من دون أن يستند في ذلك إلى تفسيرات أو تبريرات مسقطة خارجة عن إطار الواقع الاجتماعي والطبيعي الذي يحدِّد الكائن في وجوده.
لفَهْم فكر إبن خلدون ينبغي الربط بين آثاره وحياته الخاصة، لأنّ هناك تشابكاً غير مجاني بين تجارب المُفكِّر الشخصيّة وثراء حياته، وخاصّة أنشطته السياسيّة من جهةٍ، وبين آرائه وأفكاره التي استقاها من رَحْم الملاحظة والمُعاينة اليومية للواقع من جهةٍ أخرى، وهو بالأساس واقع المجتمع العربي الإسلامي في القرن الــ 14، وما ستتبعه من آثار حضارية وثقافية تمتدّ إلى يومنا هذا.
وإذا كان إبن خلدون قد حاز شهرة عالميّة واسعة، فإنّ ذلك لم يمنعه من أن يكون عُرضة للنّقد وحتى التشويه من بعض مُفكّري الغرب، الذين همَّشوا دوره في تأسيس العلوم على غرار عِلم الاجتماع وعِلم التاريخ.
ورغم هذا التحدّي فإنّ إبن خلدون تمكَّن من شدّ انتباه العالم الحديث والمعاصر من خلال ما طرحه من مواضيع ومسائل تهمّ مجتمع معيّن في حُقبة تاريخية معيّنة. لكنها قد تنسحب على مجتمعاتنا الخاصّة، لكون القضايا التي طرحها تمسّ من قريبٍ مشاكل الإنسان الإجتماعيّة في جميع المجالات الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة... واستطاع بمنهجه الخاص أن يلمَّ بكل فنون عصره، ويتوسَّع قَدْر الإمكان في معارف زمانه فأنار لنا خفايا مجتمعه.
ومهما يكن من أمر، فإنّ هذا الانشغال العالمي بالفكر الخلدوني دليل على ما أحدثه هذا المُفكِّر من تأثيرٍ بالغٍ في الفكر الإنساني، ذلك أنّ عبقريّة هذا الرجل أهَّلته لابتداع أُسُس العِلم الجديد، وهو عِلم الاجتماع، الذي يُنْسَب خطأ وكذباً إلى علماء الغرب.
ولفَهْم فكر إبن خلدون ينبغي الربط بين آثاره وحياته الخاصة، لأنّ هناك تشابكاً غير مجاني بين تجارب المُفكِّر الشخصيّة وثراء حياته، وخاصّة أنشطته السياسيّة من جهةٍ، وبين آرائه وأفكاره التي استقاها من رَحْم الملاحظة والمُعاينة اليومية للواقع من جهةٍ أخرى، وهو بالأساس واقع المجتمع العربي الإسلامي في القرن الــ 14، وما ستتبعه من آثارٍ حضاريةٍ وثقافيةٍ تمتدّ إلى يومنا هذا.
نقول هذا لنُبيِّن أنّ موضوعيّة المنهج الخلدوني في البحث الاجتماعي لا تخلو مع ذلك من بعض الذاتيّة القابلة للنقد، فهو كأيّ فكر، تؤثِّر فيه العوامل الذاتيّة وتنعكس على آرائه الفكرية والسياسيّة، خاصّة ونحن نعلم أنّ إبن خلدون قد مارَسَ الحياة السياسيّة وتقلَّب في مناصب عديدة وعايَش مؤامرات ومكائد كثيرة. كل ذلك من شأنه أن يؤثِّر بطريقةٍ أو بأخرى، في مواقف بن خلدون ويرسم بعض معالمها، فالمُفكِّر إبن بيئته أوّلاً وبالذّات.
تتجلّى عبقريّة إبن خلدون أساساً في قُدرته الخارِقة على صنع المفاهيم العلميّة الكفيلة بدراسة المجتمعات البشرية دراسة موضوعية. وهذا ما لم يتوافر لغيره من المُفكِّرين، في عصره خاصّة، لأنه استقاها من الواقع الذي خبره وعايَش أحداثه. وهذا الواقع تحدَّث عنه إبن خلدون من خلال عرضه لسيرته الذاتيّة في كتاب "رحلة إبن خلدون" حيث برز الامتزاج بين الفكر والممارسة. ولكنّ المُفارَقة البارزة تتمثّل في الفَرْق بين ما يرويه إبن خلدون بنفسه، وما يراه عليه شُرَّاحه.
ولذلك فإنّ محقّق كتاب "الرّحلة" بن تاويت الطّنجي يعلِّق قائلاً: "وكانت معرفته عن طريق حديثه عن نفسه من أهمّ ألوان هذه المعرفة وأوكّدها، ومن هنا قرأت هذا الكتاب طلباً لمعرفة إبن خلدون، فعرفته منه على الصورة التي أراد أن يتصوّره عليها الناس. ثم قرأت بعد ذلك ما كتبه عنه معاصروه ومَن تبعهم، فوجدت صورة أخرى غير التي عرفتها منه(3)".
ويكفي أن نقول بأنه لولا الآثار الضخمة التي تركها إبن خلدون لما أمكننا اليوم أن نتعرّف على حقبة تاريخية هامة من مجتمعنا الإسلامي في القرن الــ 14 ميلادي، وكنّا سنكتفي بالركون إلى فرضيّات غير علمية هي أقرب ما تكون إلى الخيال. ولذلك نجد مثلاً أنّ كل المؤرِّخين الذين كتبوا مؤلّفات تخصّ هذه الحُقبة من القرون الوسطى في المغرب الإسلامي، قد اقتبسوا جوهر مادتهم من آثار إبن خلدون.
حياة إبن خلدون
إنّ معرفة حياة إبن خلدون ضروريّة لفَهْم آثاره فَهْماً عميقاً، لأنّها حياة حفلت بأحداثٍ ثريّةٍ ومتنوّعةٍ اختلطت فيها الحياة العسكرية بالحياة السياسيّة في عصره. فهو ليس فقط عالِماً نظرياً في قطيعة مع واقع عصره الملموس، ولكن على العكس تماماً، فهو مُنْغَمس داخل المجال العملي، يسعى إلى إدراك الحقيقة ويثبتها انطلاقاً من الحياة نفسها (4).
هو وليّ الدين أبو زيد عبد الرحمان إبن محمّد إبن خلدون مولود في تونس في 27 أيار/مايو سنة 1332 ميلادي (الفاتح من رمضان سنة 732 هـ). ينحدر أجداده من حَضْرَموت في شبه الجزيرة العربيّة، وكان أحد أجداده وهو خلدون إبن عثمان قد هاجر إلى الأندلس في نهاية القرن الثالث للهجرة واستقرّ في إشبيلية. ويروي إبن خلدون أنّ أحد أجداده كذلك كان من صَحابة الرسول محمّد، ودُفِنَ بجوار الإمام علي إبن أبي طالب.
هاجرت عائلة إبن خلدون من إشبيلية إلى سبتة في المغرب الأقصى التي سرعان ما غادرتها نحو تونس. وفي جامع هذه المدينة، المعروف بجامع الزّيتونة، درس إبن خلدون الفقه والحقوق والفلسفة والعلوم الطبيعيّة وغيرها من العلوم المختلفة.
وفي سنة 1352، في سنّ العشرين، شغل منصب ديوان السلطان أبو إسحاق، إلا أنه سُرعان ما سئم من تحمّل هذه المسؤوليّة فقرَّر أن يهجر السلطان في أوّل فرصة تسنح له. ولم يدم انتظاره طويلاً بما أنّه في نفس السنة اندلعت الحرب بين أمير تونس وأمير قسنطينة، فاغتنم إبن خلدون هذا الوضع ليتوجّه إلى بسكرة طلباً للرّاحة.
وفي سنة 1354 عندما رجع إلى تونس تزوَّج من امرأة تنتمي إلى عائلة مرموقة. غير أنّ هذا الحدث السعيد لم يحفّزه على البقاء في مدينته ومسقط رأسه، إذ بعد مرور بضعة أشهر انتقل إلى فاس حيث أتمّ تحصيله العلمي. وكان الجو العام ملائماً إلى حدٍّ بعيد في العاصمة المرينيّة ليُعيَّن، بفضل ذكائه الفائق، كاتباً خاصا للسلطان أبي عنان. ولكنّ السلطان انقلب عليه بتأثير بعض الحاشية التي تكنّ العداوة لإبن خلدون، فحبسه سنة 1356.
بعد وفاة أبي عنان أُطلِق سراحه من السجن ومُنِحَ رتبة قاضي المالكيّة.غير أنّ الوضع السياسي زاد في التأزّم، ما جعله يغادر إلى غرناطة سنة 1362، وهناك استقبله السلطان الأندلسي إبن الأحمر بحفاوة كبيرة. وفي غرناطة ارتبط بعلاقة صداقة مع إبن الخطيب (1313 - 1374) الفيلسوف الشهير والوزير عند الأمير محمّد الخامس.
بالرّغم من تعيينه في منصب مرموق، فإنّ إبن خلدون غادر الأندلس نحو بجّاية في سنة 1365 حيث استولى أحد أصدقائه على الحُكم، وهو الأمير الحفصي أبو عبد الله. في هذه المدينة، وإلى جانب اضطلاعه بمنصب الوزير الأوّل انشغل كذلك بمهام فقيه الجامع الكبير في القصبة.
ألَّف إبن خلدون المُقدِّمة بهدف فَهْم الوضع الاجتماعي للإنسان كما يقرّ ذلك بنفسه، وليس من أجل رواية الأحداث، ولكنّه مع ذلك يحتاج إلى هذه الأحداث ليستخلص منها القوانين العامة. ولأجل ذلك فهو ينتقي الأحداث ويُرتّبها مُستبعداً أساساً كل الجزئيّات السطحيّة.
بعد مدّة وجيزة تعفَّنت الأجواء بسقوط بجّاية في يد السلطان الحفصي أبو العبّاس، ما دفع بإبن خلدون إلى الهروب واللجوء إلى تلمسان عند الأمير أبي حمّو الثاني الذي كلّفه بالذهاب إلى بسكرة قصد استمالة القبائل العربيّة (الذّواودة)، فأنجز هذه المهمّة كأحسن ما يكون.
وفي سنة 1370 رجع من جديد إلى تلمسان ليشغل خطة الوزير الأوّل، ولكنّ ذلك لم يدم طويلاً، لأنّ الحرب اندلعت بعد مدّة وجيزة بين تلمسان وفاس. وعندما أراد إبن خلدون أن يعود إلى بسكرة ليكون في حماية صديقه أحمد إبن مزني، أُلقِي القبض عليه في الطريق من قِبَل العساكر المرينيّة المُقتفين لآثاره.
وقد أمكن له أن ينقذ نفسه بقبول الذهاب مرّة أخرى إلى بسكرة لاستمالة المقاتلين لصالح فاس. غادر إبن خلدون الجنوب في سنة 1372 في اللحظة ذاتها التي اندلعت فيها أزمة خلافة لتتغيّر كل المُعطيات، وفي الواقع فإنّ أبا حمّو الثاني المعزول عن عرشه استعاده من جديد وأرسل أنصاره لتعقُّب إبن خلدون والانتقام منه، غير أنّه تمكّن من الوصول إلى فاس بسلام. في فاس بقي الوضع مضطرباً، ووجد إبن خلدون نفسه مرميّاً في السجن، ولكن لحُسن حظّه أنّه لم يبق به طويلاً بفضل تدخّل صديقه أمير مراكش.
أمام التعكّر السريع للوضع، قرَّر التوجّه إلى غرناطة في سنة 1374، وما إنْ وطأت قدماه أرض الأندلس حتى تنكّر له محمّد الخامس وتناسى خدماته التي قدّمها له منذ عهد قريب، فسلّمه إلى الأمير أبي حمّو الثاني، وكان ونزمار صديقاً حميماً لإبن خلدون، فتدخّل لصالحه.
اغتنم أمير تلمسان مرّة أخرى هذه الفرصة ليرسل إبن خلدون في مهمّة جديدة إلى بسكرة. ولكن أثناء الطريق قرَّر مفكّرنا التخلّي عن هذه المهمّة وأقام في قلعة تابعة لحاميه ونزمار، وهي قلعة بني سلامة بالقرب من تغزوت في جهة فرندة (الجزائر حالياً)، وهناك كتب المُقدِّمة وهي المؤلَّف الأهمّ من "تاريخ البربر"، وقد أقام فيها من 1375 إلى 1378.
في نهاية سنة 1378 عاد إلى تونس قَصْد الإطّلاع على كُتُبٍ ضرورية لتدقيق مؤلّفه الضخم. وكان لمّا نزل في تونس وجد الإجلال والتكريم من كل سكّان البلاد. بالتوازي مع مواصلة كتابة "تاريخ البربر" اشتغل بالتدريس، وكانت دروسه من العُمق والثراء ما جعل طلبته يتعلّقون بها ولا يتردّدون في الهروب من دروس منافسه الكبير إبن عرفة لينضمّوا إلى حلقته، ما أثار حفيظة الإمام وجعله يكيد له. ولمّا أرهقته المؤامرات والدسائس والجَدَل العقيم، غادر المغرب في سنة 1382 مُتّجهاً نحو مصر (5).
هناك لاقى ترحاباً كبيراً من الناس لأنّ شهرته سبقته. وقد عيّنه الملك برقوق في رتبة القاضي الأعظم للمالكيّة التي كانت قد سُحِبت منه. فهو فَقَد هذه الوظيفة ثمّ استرجعها ليحتفظ بها إلى مماته.
الطابع الموسوعي والشمولي لفكر إبن خلدون لم يمنعه من أن يكون دقيقاً وصارماً في التعامل مع المفاهيم الاجتماعية والعلمية كذلك، بل إنّه أبدع مفاهيم خاصة بعِلمه الاجتماعي على غِرار مفهوم العصبيّة الذي جعل منه القاعدة الأولى لفَهْمِ المجتمع والسياسة.
وتأكّد هذا التناوب بين التعيين والعَزْل سببه الحقيقي تكاثُر أعدائه من الطبقة الراقية للمجتمع المصري التي كانت أغلبيّة أعضائها فاسدة. ولم يكن صاحبنا ليقبل أبداً أن يقف إلى جانب مَن ينتهك القانون مهما كان، وقد صوَّر هذا الوضع في كتاب الرحلة، فقال: "قد اتخذوا الناس هزؤاً، وعقدوا المجالس مثلبة للأعراض، ومأبنة للحرم، فأرغمهم ذلك منّي وملأهم حسداً وحقداً عليَّ (...) فقطعتُ الحبل في أيديهم، وأمضيتُ أحكام الله فيمن أجاروه، فلم يغنوا عنه من الله شيئاً، وأصبحت زواياهم مهجورة، وبئرهم التي يمتاحون منها معطّلة، وانطلقوا يراطنون السفهاء في النَيْل من عرضي، وسوء الأحدوثة عنّي بمختلف الإفك، وقول الزور، يبثّونه في الناس (...) فكثُر الشغب عليَّ من كل جانب، وأظلم الجوّ بيني وبين أهل الدولة (6)".
ووفاءً لارتباطه العائلي طلب إبن خلدون من عائلته الالتحاق به في القاهرة. ولكن، للأسف، فإنّ كل أفراد العائلة ماتوا غَرََقاً قرب السواحل الليبيّة، وقد صرَّح أنّ هذه المأساة هي الضربة الموجِعة التي لم يشعر بمثلها في حياته، فيقول: "ووافق ذلك مُصابي بالأهل والولد، وصلوا من الغرب في السفينة، فأصابها قاصف من الريح فغرقت، فذهب الموجود والسكن والمولود، فعظُم المُصاب والجَزَع، ورجع الزُّهد (7)".
ولعلّ الحدث الآخر الهام والجدير بالإشارة، هو اللقاء بين إبن خلدون وتيمورلنك في شهر كانون الثاني/يناير 1401، وكان ذلك في آخر حياته الحافلة والنشيطة. فتيمورلنك المعروف بوحشيّته هاجم سوريا وكان يستعدّ لاقتحام العاصمة دمشق.
وقام الملك المصري فرج إبن برقوق بالذهاب إلى عين المكان لصدّ العصابات التركيّة المغوليّة مُصطحباً معه ثلّة من الشخصيّات من بينهم إبن خلدون، لكن جميعهم وقعوا في أَسْر جنود تيمورلنك الذي، بنوعٍ من الدهاء، أجبر إبن خلدون ورفاقه على حضور وليمة عشاء بهدف إعدامهم جميعاً في أعقابها.
لكن إبن خلدون فَهِمَ جيّداً المكيدة فانتصب قائماً بعد الانتهاء من العشاء وقطع الصّمت الرهيب متوجِّهاً بخُطبةٍ إلى تيمورلنك مُفْعَمة بالمديح أظهر له من خلالها معارفه الخارِقة والشاسعة والدقيقة حول فتوحاته ومسيرة حياته. فما كان من تيمورلنك إلا الانبهار والدهشة إلى درجة أن عرض على إبن خلدون الانضمام إلى بلاطه. ولكنّ صاحب المُقدِّمة بذكائه المُفْرط قِبَلَ العرض لكن بشرط أن يرجع إلى القاهرة ليجلب معه كتبه التي لا يستطيع مُفارقتها على حدّ تعبيره. ولم يستطع تيمورلنك رفض مطلبه فسمح له بالذهاب مع رفاقه المصريّين المذهولين بهذا المَغْنَم، والسُعداء بإنقاذ حياتهم. إذ لولا برودة دم إبن خلدون وعبقريّته لما كان أحد منهم سينجو من الموت.
في الأثناء وبعد أيّام قليلة، سقطت دمشق في أيدي العصابات التركيّة المغوليّة التي ارتكبت فيها أشنع المجازر التي لم يُعرَف لها مثيل في التاريخ (8).
وبمُجرَّد وصوله إلى القاهرة استعاد إبن خلدون مهمّته بصفته القاضي الأعظم للمالكية التي سيبقى يراوح بين خسارتها واستعادتها إلى أن يدركه الموت يوم الأربعاء في 19 من آذار/مارس سنة 1406م الموافق لـ25 رمضان 808 هـ.
كتاب المُقدِّمة
يُعْرَف إبن خلدون أساساً بكونه مؤلِّف المُقدِّمة. هذا الكتاب هو تمهيد ضخم لمؤلّف جامع هو كتاب العِبَر، ويتألّف إلى جانب المُقدِّمة، من 6 كتب أخرى أشهرها "تاريخ البربر". وبالتوازي ألَّف إبن خلدون أعمالاً أخرى عددها 5 وهي: شرح قصيدة لإبن الخطيب، وكتاب في الحساب، وكتاب شرح البُردة، وكتاب شفاء السائل (في التصوّف)، ومُلخَّص أعمال إبن رشد. "كتاب العِبَر" متوافر في طبعات عديدة باللغة العربيّة، ويرجع تاريخ الطبعة الأولى الكاملة إلى سنة 1857.
أمّا النسخ المُتَرْجَمة فتوجد في 4 لغات هي التركية والفرنسية والإنكليزية والبرتغالية. ولعلّ الترجمة الأكثر دِقَّة ووفاءً هي الترجمة الإنكليزيّة التي أنجزها روزنتال سنة 1958.
ويؤكِّد فنسون مونتاي صاحب الترجمة الفرنسية الثانية بخصوص الترجمة الإنكليزيّة إنّها: "قريبة دائماً من النصّ، تتّبع منهجه، في الحالات الخلافية في ألفاظه وفقراته، وفي هذه الدقّة المُتناهية شرف للمؤلِّف (9)".
وممّا يُذْكَر من الكتابات الأخرى لإبن خلدون، كتاب "تلخيص المحصّل" لفخر الدين الرازي، وكتاب الرحلة، وشرح قصيدة إبن عبدون، وطبيعة العُمران (10)".
هذا المؤلّف هو بلا رَيْب العمل المركزي في "كتاب العِبَر"، ولم يكن ترتيب المسائل المتناولة فيه من قبيل الصدفة، ولكنّ اختير بحسب منطق صارم. يتألَّف هذا العمل من قسمٍ أوّل يحتوي على مدخلٍ وتوطئة، ومُقدِّمة من 6 أبواب. في الباب الأوّل يقدِّم رؤية عامّة للحضارة (العُمران)، ويُخصِّص الباب الثاني لدراسة مُقارنة بين نمطين من الحياة هما العُمران البدوي والعُمران الحَضَري، مع التأكيد على أولويّة الأوّل على الثاني.
ويهتمّ الباب الثالث بالسياسة.أمّا الباب الرابع فيبحث في عِلم الاجتماع الحَضَري(العُمران الحَضَري)، ويُعْنَى الباب الخامس بعِلم الاجتماع الاقتصادي (الكَسْب والمعاش)، وأخيراً فإنّ الباب السادس يتناول العلوم والمعارف عامّة، وهذا الباب يؤسِّس، بمعنى ما، لعِلم اجتماع المعرفة.
أكَّد إبن خلدون أنّه بنى عمله على ذِكْر تاريخ إثنين من الأجناس المُعمّرة للمغرب (تونس والجزائر والمغرب الأقصى حالياً) والمؤسِّسة لبلدانه ومدنه، فيقول: "بنيته على أخبار الأمم الذين عمَّروا المغرب في هذه الأعصار، وملأوا أكناف الضواحي منه والأمصار، وما كان لهم من الدول الطوال أو القصار، ومن سلف لهم من الملوك والأنصار، هما العرب والبربر (11)".
نقد إبن خلدون للمؤرِّخين
قبل أن يعرض علينا إبن خلدون منهجه ويُخبرنا عن فحوى عِلمه الجديد، فإنّه ينقد المؤرِّخين القُدامى الذين سبقوه. لكن نقده ليس بالنقد السلبي والعقيم، لأنّه لا ينقد لمتعة النقد، بل من أجل الإصلاح.
ولكي ندرك جيّداً ما جاء به إبن خلدون من جديد، لا بدّ من أن نحاول معرفة ما يتّصف به التقليد. فالتاريخ الذي كان رائجاً من قبل، وفي عصره، سواء كان في العالم الإسلامي أو خارجه، هو تاريخ بسيط لأنّه يكاد يكون وصفيّاً وسرديّا بصفةٍ مُطْلَقة.
يعترف إبن خلدون مع ذلك صراحة أنّه من بين المؤرِّخين العرب الذين يجب أن نُفرد جانباً 6 مؤلِّفين أعمالهم جديرة بالذِكر، وهؤلاء هم الطبري وإبن إسحاق والواقدي والأسدي وإبن الكلبي والمسعودي. وكلّهم مؤرِّخون ينتمون إلى ما بين القرن الثامن والقرن العاشر، وأشهرهم بلا شكّ المسعودي صاحب كتاب "مروج الذهب"، والطبري الذي ترك مؤلَّفاً ضخماً في التاريخ.
أوضح إبن خلدون أنّه مهما كان لهؤلاء الكُتَّاب من نفوذٍ وتأثيرٍ في القارئ، فإنّ مؤلَّفاتهم لا تُعْتَبَر مؤلَّفات جيّدة إلا في أجزاء منها.
أمّا البقيّة فيقول عنهم صاحب المُقدِّمة: "وكثيراً ما وقع للمؤرِّخين والمُفسِّرين وأئمّة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مُجرَّد النقل غثّاً أو سميناً ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار فضلّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوَهْم والغلط (12)".
مهما يكن من أمر، فإنّ إبن خلدون يشير إلى الكثير من الأخطاء لدى سابقيه، وهذه الأخطاء ناتجة من 7 أسباب هي عقليّة الموالاة، والثقة العمياء في المُخبرين، وعدم معرفة المعنى الحقيقي للأحداث، وادّعاء امتلاك الحقيقة، والتزييف، والتحريفات الكبرى للنصوص، والجهل.
وفي الحقيقة فإنّ أسباب الأخطاء هذه تُخْتَزَل في 3 أنواع هي الثقافة التي ينتمي إليها الباحث، ونزاهته الشخصيّة، ومستوى المعرفة. وهذا النوع الثالث أهمّ من الأنواع السابقة، فهو في الواقع يسمح لإبن خلدون بتجاوز التاريخ بالمعنى المُتَداول ليجعل من فعل الملاحظة مُجرَّد مرحلة في البحث في القوانين الاجتماعية والاقتصادية، وهي وحدها التي تسمح بالفَهْم الحقيقي لمعنى الأحداث (13).
فقد ألَّف إبن خلدون المُقدِّمة بهدف فَهْم الوضع الاجتماعي للإنسان كما يقرّ ذلك بنفسه، وليس من أجل رواية الأحداث، ولكنّه مع ذلك يحتاج إلى هذه الأحداث ليستخلص منها القوانين العامة. ولأجل ذلك فهو ينتقي الأحداث ويُرتّبها مُستبعداً أساساً كل الجزئيّات السطحيّة.
عِلم الاجتماع الخلدوني والواقعية
لم يحاول إبن خلدون أن يكتب كتاباً في المدينة الفاضلة كما فعل أفلاطون والفارابي والكندي والماوردي. كما لم يقترح القوانين لنموّ المجتمعات من مَحْضِ خياله الخاص، بل إنّ القوانين التي صاغها في المُقدِّمة تستمدّ جذورها من الواقع العيني. إنّه يعلن بوضوح أنّ الهدف الرئيسي للعِلم الذي يؤسّسه هو "خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عُمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العُمران مثل التوحّش والتآنس والعصبيات وأصناف التغلّبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر ومساعيهم من الكَسْب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العُمران بطبيعته من الأحوال (14)".
إنّ البرنامج الذي يُقرُّه إبن خلدون بالغ الأهمّيّة في ثرائه وشموليّته. ولعلّ الفكرة الأساسيّة التي تتركّز في أذهاننا عند قراءة التعريف الذي يقدّمه لنا إبن خلدون للعِلم الجديد، هي فكرة الكليّة (أي الشمول)، فهو يُدمج في بحوثه كل ما يتعلّق بالحياة الاجتماعيّة من دون أن ينسى شيئاً.
بهذا المعنى فإنّ الواقع الاجتماعي مهما كان، سلطة أو فئة اجتماعيّة أو تربية أو حتى زواجأ و غيره من الوقائع، لا يمكن أن يُفْهَم أو يُصنَّف في عزلته وإنّما في ارتباطه بالوقائع الأخرى للمجتمع، لأنّ إبن خلدون يعتبر أنّ المجتمع ليس أبداً قطعة معزولة ولكنّه مجموعة مُتجانِسة حيث كل عنصر يلعب دوراً مُحدَّداً ويرتبط بعلاقة خاصّة مع بقيّة العناصر، ويمكن أن نمثّل ذلك بمختلف أعضاء الجسم البشري.
يقوم عِلم الاجتماع الخلدوني على قانون الحتميّة. ومفاده أنّ كل ظاهرة سواء كانت تابعة للطبيعة أو للمجتمع لا تأتي من العدم. فظهورها ناتج إمّا من تطوّرها العادي والضروري، وإمّا عن تأثير ظواهر أخرى، وهذا ما نسمّيه السبب.
إذا كان الكون بترتيب عناصره البسيطة والمُركّبة يتّبع سنّة طبيعيّة، كما يؤكّد ذلك إبن خلدون، فذلك يعني أنّ هذه السنّة تخضع إلى تحوّلاتٍ عميقة. إنّ قانون التغيّر هو النقطة الثانية التي تحدِّد جوهريّاً عِلم الاجتماع الخلدوني، وفي ذلك يقول: "أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونِحَلهم لا تدوم على وتيرةٍ واحدةٍ ومنهاجٍ مستقرّ إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حالٍ إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول (15)".
هذا الإعلان وحده يسمح لنا بأن نعتبره مؤسِّس عِلم الاجتماع. غير أنّه، بالنسبة إلى إبن خلدون، لا تحصل التغيّرات في خطّ مستقيم وبطريقةٍ اعتباطيّة، فالظاهرة في بدايتها بطيئة وتدريجية ثمّ تتحوّل إلى ثورةٍ وانقلابٍ عندما يصل التغيّر إلى مستوى معيَّن، حيث نصل إلى مرحلة إعداد نموذج جديد على مستوى الشكل والمضمون، ويقول في هذا السياق: "وإذا تبدّلت الأحوال جملة فكأنّما تبدّل الخلق من أصله وتحوّل العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مُستأنفة وعالم محدث (16)".
يكشف إبن خلدون بواسطة هذا الفكر العميق، الذي لم يُشر إليه الشُرَّاح الأوروبيون أبداً، عن القانون الخاص بمراحل التطوّر، وهو قانون يخصّ كذلك الحيوان والنبات إلى جانب البشر والمجتمعات.
ويقوم عِلم الاجتماع الخلدوني على قانون الحتميّة. ومفاده أنّ كل ظاهرة سواء كانت تابعة للطبيعة أو للمجتمع لا تأتي من العدم. فظهورها ناتج إمّا من تطوّرها العادي والضروري، وإمّا عن تأثير ظواهر أخرى، وهذا ما نسمّيه السبب. يُقدِّم إبن خلدون أسباب تطوّر المجتمعات على أنّها مستقلّة عن إرادة الإنسان. فكل ما ينتج في العالم مُحدَّد مُسبقاً، وهذا هو معنى الحتميّة. والتيّار المُناقِض يُسمَّى اللاحتميّة، ويدافع عن فكرة أنّ الإنسان نفسه يخلق الأسباب لأجل حاجياته الخاصّة. في حين أنّ هذا يبدو غير صحيح، فهل أنّ الإجرام والبطالة والفساد وُجِدَت بإرادة الإنسان في الدول الرأسماليّة الغنيّة؟ لا طبعاً.
وهل أنّ مجتمعات العالم الثالث هي التي صنعت فُقرها؟ فمَن الذي يتمنّى أن يكون فقيراً؟ ولكن رغم ذلك ينبغي أن نُقرّ بأنّ الحتميّة عند إبن خلدون ليست ساذجة أو تبسيطيّة وميكانيكيّة، لأنّه يترك مكاناً هاماً للفعل الإرادي للإنسان.
فإذا كان يعتبر أنّ المجتمعات هي التي تصنع الأبطال وليس العكس، فليس كل الناس بإمكانهم أن يصبحوا أبطالاً، فوحدهم الذين يصارعون ويكافحون آخذين في الاعتبار القوانين الموضوعيّة (الحتميّة) للتحوّلات الاجتماعية والاقتصادية، لهم الحظوظ في تحقيق ذلك.
وفي كلمة، فإنّ عِلم الاجتماع الخلدوني يقوم على فكرة التفاعُل بين الفرد والمجتمع، وفي هذا السياق يقول إبن خلدون: "فالبدو أصل للمدن والحَضَر وسابق عليهما... ولهذا نجد التمدّن غاية للبدوي يجري إليها، وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها (17)".
هذا التأكيد يُبيِّن لنا بوضوح أنّ المجهود الواعي للإنسان ضروري للمرور من مرحلةٍ اجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ إلى مرحلةٍ أخرى. فالبدوي لن يبقى على تلك الحال بصفةٍ دائمة، لأنّه لو حصل ذلك لانعدم التطوّر الداخلي بصفته قانوناً اجتماعياً.
أهميّة مفهوم العصبيّة في فَهْمِ الواقع الاجتماعي والسياسي
إنّ مفهوم العصبية يُعدُّ مركزياً في الفكر الاجتماعي والسياسي لإبن خلدون. فالعصبيّة بمثابة المُحرِّك للتاريخ بأكمله. ولو تأمّلنا في نصوص المُقدِّمة نجد أنّه يربط ربطاً لا يكاد ينفصل بين هذا المفهوم وألفاظ من قبيل "النَسَب" و"الأرحام" و"ذوي القربى" و"القريب"، ما يؤكّد أنّ العصبيّة هي نوع من العلاقة القوية التي تبني التماسك والالتحام بين المجموعة الواحدة ذات القرابة الدمويّة، وعلاقة القرابة هذه تبدو طبيعيّة في الجنس البشري، إذ أنّ المجموعات المُتلاحِمة بفعل النَسَب وصلة الرّحم مدفوعة طبيعياً إلى الإبقاء على تماسكها ودفع كل عدوان عنها، وفي هذا السياق يقول إبن خلدون: "إنّ العصبيّة إنّما تكون من الالتحام بالنَسَب أو ما في معناه. وذلك أنّ صلة الرّحم طبيعيّة في البشر، إلا في الأقلّ، ومن صلتها النعرة على ذوي القُربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضَيْم أو تصيبهم هلكة (18)".
وتبعاً لذلك، فبقدر ما تكون قرابة النَسَب أشدّ وأوضح تكون المجموعة أكثر التحاماً وأشدّ اندفاعاً في الدفاع عن بعضها البعض. وبقدر ما يتباعد النَسَب أو يختفي يتضاءل حجم الشعور بالإنتماء لدى الأفراد، فتضعف عصبيّتهم. إذ أنّ العصبيّة تُبنى على القرابة التي تولِّد الشعور بالاندفاع الغريزي للدفاع عن أهل الأرحام من أن يصيبهم أو يلحقهم ضَيْم، فهي إذن تعمل على نطاق ضيِّق هو نطاق النَسَب المتواصل أي العشيرة أو القبيلة، ويظهر أثرها في التضامن خاصة، فهي عبارة عمّا يمكن أن نُسمّيه "روح الجماعة"، ويكون موطنها الأوّل في البادية.
ويتبلور مفهوم العصبيّة في معاني التعاضُد والتضامن الدفاعي والتناصُر والذَود عن الديار، أو في معنى التكاتُف بين أهل النَسَب، فتشتدّ الشوكة ويُخشى الجانب، الأمر الذي يمنع العدوان بوجود مثل تلك العصبيّة.
والعصبيّة الأقوى لدى البشر، في تصوّر إبن خلدون، هي تلك التي نجدها لدى ذوي الأنساب الخالصة وتكون أضعف لدى الأنساب المُختلطة، ومادام النَسَب الخالص يوجد لدى "الأمم المتوحّشة"، كما يقول، (لا يقصد إبن خلدون بالتوحّش المعنى السلبي بل يقصد نمط عَيْش القِفار والصحاري والبادية) أمكننا أن نعتبر أنّ العصبيّة قرينة التوحّش. وفي هذا الاتجاه يبدو لنا إبن خلدون قد كشف عن ميلٍ خاصٍّ وتقديرٍ تُجاه الحياة البدائيّة حيث تغيب العلاقات الاجتماعية المُتشابكة والمُعقَّدة التي توجد في الحضارة المدنية.
هناك علاقة ضرورية بين العصبيّة والتغلّب، فالعصبية القويّة هي تلك التي تبني الملك الشاسع والمُتماسك، وبضعف العصبية تنهار الدولة والممالك. إنّ العصبية القوية التي تكون عريقة في البداوة وأكثر توحّشاً هي التي تكون الأكثر تغلّباً، ولذلك فهي التي تبني الدول بواسطة المطالبة والتغلّب، إذ بالتعاضُد والتناصُر تعظم رهبة العدوّ. ولذلك يرى إبن خلدون أنّ إقامة الملك والدعوة إلى النبوَّة لا تنجح في الغالب من دون عصبيّة مُتغلّبة، ذلك أنّ "بلوغ الغرض من ذلك كلّه إنّما بالقتال عليه لما في طبائع البشر من الاستعصاء، ولا بدّ في القتال من العصبيّة".
ولا غرابة في ذلك ونحن نعلم أنّه يربط العصبيّة بجملة الصفات الأخلاقية على غرار الشجاعة والشوكة والدفاع والنعرة والألفة واللحمة. فالعصبيّة تحيل على جملة الروابط الديناميكية التي تربط أفراد المجموعة بحُكم قرابة الدم، إنّها القوّة المُحرِّكة للمجتمع القَبَلي، وهي تشترط الالتفاف حول القائد العسكري والعائلة القويّة ولأجل ذلك فإنّ تصوّر وجود الدولة ككيانٍ سياسي من دون وجود عصبيّة أمر غير جائز عند إبن خلدون (19).
وهكذا فإنّ السلطة السياسية هي المجال الخاص للعصبية، إذ أنّ الملك هو الغاية الأساسيّة التي تنزع إليها تلك العصبيّة التي تقوم بدور الحماية أو "المُدافعة" عن حياة الناس وممتلكاتهم، فالحاجة إلى الحاكم السياسي هي حاجة مرتبطة بالطبيعة الإنسانية، لما في طباع الناس من الظلم والأنانية التي تُحتِّم ظهور "الوازِع" الذي يمثّل القوّة والغَلَبة، إذ أنّ "الآدميين يحتاجون في كل اجتماع إلى وازعٍ وحاكمٍ يَزَع بعضهم عن بعض. ولا بدّ من أن يكون مُتغلّباً عليهم بتلك العصبية وإلا لم تتمّ قدرته على ذلك. وهذا التغلّب هو الملك...فهو التغلّب والحكم بالقَهْر، وفي ذلك يقول إبن خلدون: "ولمّا كانت الرياسة إنّما تكون بالغلب، وَجَبَ أن تكون عصبيّة ذلك النصاب أقوى من سائر العصائب ليقع الغلب بها وتتمّ الرياسة لأهلها (20)".
يمكننا القول بأنّ هناك علاقة ضرورية بين العصبيّة والتغلّب، فالعصبية القويّة هي تلك التي تبني الملك الشاسع والمُتماسك، وبضعف العصبية تنهار الدولة والممالك. إنّ العصبية القوية التي تكون عريقة في البداوة وأكثر توحّشاً هي التي تكون الأكثر تغلّباً، ولذلك فهي التي تبني الدول بواسطة المطالبة والتغلّب، إذ بالتعاضُد والتناصُر تعظم رهبة العدوّ. ولذلك يرى إبن خلدون أنّ إقامة الملك والدعوة إلى النبوَّة لا تنجح في الغالب من دون عصبيّة مُتغلّبة، ذلك أنّ "بلوغ الغرض من ذلك كلّه إنّما بالقتال عليه لما في طبائع البشر من الاستعصاء، ولا بدّ في القتال من العصبيّة (21)".
وهكذا، فإن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك، لأنّ العصبية هي التي تكون بها الحماية والمُدافعة والمُطالبة، على حدّ تعبير إبن خلدون، ذلك أنّ البشر بالطبيعة والفطرة يحتاجون في اجتماعهم إلى حاكمٍ يحميهم ويمنع عدوان بعضهم على بعض ويُنظّم شؤون حياتهم اليومية، ولكي يكون قويّاً وعادلاً في نفس الوقت، ينبغي أن يكون كذلك مُتغلِّباً عليهم بتلك العصبية.
ولعلّ ضعف العصبية أو انحلالها بعد قوّتها وتماسكها، هو السبب الرئيس في انهيار الدول عموماً وقيام دول أخرى على أنقاضها تكون عصبيّتها أقوى. ويشير إبن خلدون إلى أنّ التَرَف والانغماس في النعيم هو السبب في ذهاب العصبيّة وتلاشيها، حيث يقول في المُقدِّمة: "من عوائق الملك حصول التَرَف وانغماس القبيل في النعيم.. وعلى قدر تَرَفِهم ونعمتهم يكون إشرافهم على الفناء فضلاً عن الملك، فإن عوارض التَرَف والغَرَق في النعيم كاسِر من سورة العصبية التي بها التغلّب. وإذا انقرضت العصبيّة قَصُرَ القبيل عن المُدافعة والحماية فضلاً عن المطالبة، والتهمتهم الأمم سواهم (22)".
ننتهي في ختام هذه الورقة البحثية إلى التأكيد على التأثير البالغ الذي أحدثه المؤرِّخ وعالِم الاجتماع إبن خلدون في تاريخ الفكر البشري انطلاقاً من العصر الوسيط. ذلك أنّ النقد العميق والمنهج العلمي الموضوعي الذي استخدمه في البحث مكّناه من أن يكون المؤسِّس الحقيقي لعِلم التاريخ بالمعنى الإبستيمولوجي الدقيق، بحيث وضع قطيعة معرفيّة واضحة بين التاريخ بالمعنى الكلاسيكي باعتباره رواية ووَصْف، والتاريخ بوصفه عِلماً قائماً على التحرّي والتمحيص والموضوعية والحياد.
من جهةٍ أخرى، فإنّ الفكر الخلدوني، بنفس هذا المنهج العِلمي السَبَبي، كانت له رؤية ثاقبة لقوانين المجتمع الذي يعيش فيه وحتى المجتمعات السابقة له، الشيء الذي أهَّله لوضع أُسُس ما يُسمَّى اليوم بعِلم الاجتماع وهو عِلم العُمران البشري عند صاحب المُقدِّمة.
ولعلّ الطابع الموسوعي والشمولي لفكر إبن خلدون لم يمنعه من أن يكون دقيقاً وصارِماً في التعامل مع المفاهيم الاجتماعية والعلمية كذلك، بل إنّه أبدع مفاهيم خاصة بعِلمه الاجتماعي على غِرار مفهوم العصبيّة الذي جعل منه القاعدة الأولى لفَهْمِ المجتمع والسياسة.
كما يمكن أن نعتبر أنّ فكر إبن خلدون بكل فروعه الاجتماعية والتاريخية والسياسية وحتى الاقتصادية (باعتبار أنّ إبن خلدون له نظرية في الاقتصاد أوردها في كتاب المُقدِّمة)، هو فكر لا يمكن فصله، بأية حال من الأحوال، عن حياة الرجل وسيرته الذاتية الخاصة، وبالأخصّ حين نطّلع على علاقاته مع ساسة عصره من ملوك وسلاطين وأمراء من الغرب والشرق الإسلاميين، وكذلك ما تقلَّده من مناصب عُليا في الدولة، وما عايَشه نتيجة هذا النشاط السياسي من مكائد ودسائس أرهقته ولكنها كشفت له عن قوانين سياسية واجتماعية دقيقة.
بقي أن نشير في نهاية الأمر إلى أنّ الفكر الخلدوني ينطوي على راهنية قصوى، باعتبارنا اليوم مازلنا في حاجةٍ إلى القوانين العلميّة التي وضعها هذا المُفكِّر الإسلامي الفذّ من أجل إصلاح مجتمعاتنا المعاصرة التي نخرتها الأمراض الاجتماعية والأخلاقية والسياسية التي، نبَّه إليها إبن خلدون ووضع لها حلولاً منذ ما يناهز سبعة قرون.
الهوامش
(1) Ibn Khaldûn, Discours sur l'histoire universelle, Vincent Monteil, traduction nouvelle, 3ème édition revue, Sindbad, Paris 1967, P.XXXIV.
(2) إبن خلدون، المُقدِّمة، الكتاب 1، الباب 2، الفصل 24، مؤسَّسة الكتب الثقافية، بيروت 2005، ص157.
(3) إبن خلدون، رحلة إبن خلدون، تحقيق محمّد بن تاويت الطنجي، الطبعة الثانية، دار الكتب العلمية، بيروت 2009 (مقدِّمة المُحقّق) ص11
(4) Abdelghani Magherbi, Ibn Khaldoun, Sa vie et son œuvre, S.N.E.D, Alger 1970, P.7.
(5) Ibid, P.10.
(6) إبن خلدون، كتاب رحلة إبن خلدون، ص207 ــ 208.
(7) المرجع نفسه، ص208.
(8) Abdelghani Magherbi, Ibn Khaldoun, Sa vie et son œuvre, P.12.
(9) Ibid, P.16.
(10) رحلة إبن خلدون، ص4.
(11) إبن خلدون، المُقدِّمة، ص9.
(12) المُقدِّمة، فصل في فضل عِلم التاريخ، ص13.
(13) Ibn Khaldoun, Sa vie et son œuvre, P.12.
(14) المُقدِّمة، الكتاب 1، فصل في طبيعة العُمران، ص37.
(15) المرجع نفسه، الكتاب 1، ص31.
(16) المرجع نفسه، ص35.
(17) المرجع نفسه، الكتاب 1، الباب 2، الفصل 3، ص 130.
(18) المُقدِّمة، الكتاب 1، الباب 2، الفصل 8، ص137
(19) Lahbabi Mohamed-Aziz, Ibn Khaldûn notre contemporain, L'Harmattan, Paris 1987. P.43.
(20) المُقدِّمة، الكتاب 1، الباب 2، الفصل 11، ص140.
(21) المرجع نفسه، الكتاب 1، الباب 2، الفصل 16، ص 147.
(22) المرجع نفسه، الكتاب 1، الباب 2، الفصل 18، ص 149.
قائمة المراجع باللغة العربيّة
- إبن خلدون، المُقدِّمة، مؤسَّسة الكتب الثقافية، بيروت 2005.
- إبن خلدون، كتاب رحلة إبن خلدون، دار الكتب العلمية، بيروت 2009.
قائمة المراجع باللغة الفرنسيّة
- Ibn Khaldûn, Discours sur l'histoire universelle, Sindbad, Paris 1967.
- Lahbabi Mohamed-Aziz, Ibn Khaldûn notre contemporain, L'Harmattan, Paris 1987.
- Magherbi, Abdelghani, Ibn Khaldoun, Sa vie et son œuvre, S.N.E.D, Alger 1970.