عن "كورونا"واللقاحات والحجر.. هل أصبحنا أسرى التحكّم البيولوجي؟
هل يمكن اعتبار "الحق في عدم تلقّي اللقاح" قاعدة للحرية الفردية؟ تحاول هذه الورقة البحثية الإجابة عن هذا السؤال وغيره، في ظل التظاهرات العارمة ضد فرض تلقي اللقاحات المضادة لــ "كورونا"، والإجراءات الاحترازية التي تتخذها السلطات ضد الجائحة.
إنّ التفكير في الإنسان داخل العلوم بأنواعها، من العلوم الصحية إلى العلوم الإنسانيّة، ليس له من هدف غير تحصيل معرفة شاملة بجوهر الكائن البشري في علاقته بالهدف من الحياة عموماً. وفي هذا الاتجاه تندرج البحوث العلميّة الحديثة من أجل تطوير الحياة البشريّة، ورفع الحواجز التي تعيق مسيرتها.
بشكل عام، فإنّ هدف العلم يبقى في جوهره نبيلاً وإنسانياً ينشد المصلحة الفضلى للإنسان. لكن رغم هذه الغاية الإيجابية، فإنّ البحوث العلمية، وخاصة منها البيولوجية والطبية، اصطدمت بتحدّيات متنوّعة في مستوى التجارب على الإنسان، أو في مستوى البحوث الدوائية، وهي تحدّيات ترتبط بنوع من تضارب المصالح بين المجموعة العلمية وأهدافها من جهة، وبين المصالح الذاتية والشخصية للأطراف الاجتماعية المتداخلة من جهة أخرى.
كل ذلك يطرح علينا مسائل عويصة في الميدان العلمي تتعلّق أساساً بالأخلاقيات العلمية، والحقوق الفردية والشخصية، خاصة عندما يقترن الأمر بالحديث عن التجربة على الذات البشرية. إذ يجد المجتمع العلمي نفسه ممزّقاً بين الهدف الأسمى المتمثّل في تطوّر العلم وتحقيق المصلحة العليا للمجتمع، وبين القوانين الملزمة لحقوق الإنسان والخضوع القسري للأخلاقيات الطبية المُصاغة في أشكال قانونيّة معيّنة.
يمكن القول إنّ أكبر التحدّيات التي واجهها العلم على امتداد تاريخه، بعد الأوبئة العديدة التي عصفت بالبشرية، هو انتشار جائحة "كورونا" كوباء عالمي مميت، فرض على العلم وخاصة العلوم الطبية والدوائية، تكثيف البحوث والتجارب لاختراع دواء ناجح أو لقاحات مفيدة لوقف الموجات المتتالية لهذا الفيروس.
إنّ المشكل الأساس هنا هو مشكل أخلاقي وفلسفي في نفس الوقت، بحيث علينا أن نجد المعادلة الصعبة بين تطبيق الإجراءات الصارمة للوقاية وحماية الذات البشرية، وبين ضرورة حماية الحقوق الأساسية للأفراد، وخاصة ضمان حرياتهم الشخصيّة التي هي جوهر وجودهم الطبيعي والاجتماعي.
لا بدّ من أن ننطلق من هذه المفارقة بين توجّه السلطات المحليّة في الدول المعنية إلى حصر آثار "كورونا" والحد من انتشارها عبر أراضيها، ما ينتج منه التضييق على حرية الفرد في الدولة من حيث التنقّل والترفيه والسفر، بما تتّخذه السلطات من قرارات صارمة تفرض التباعد الجسدي وإغلاق أماكن الترفيه والحد من حرية العمل والأنشطة الاقتصادية، وبين الحفاظ على الكرامة الشخصية للأفراد وضمان حقوقهم الأساسية كمواطنين، وأهمّها هي تلك التي يكفلها "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" في المادة 12 بأنّه "لا يجوز تعريض أحد لتدخّل تعسّفي في حياته الخاصة أو في شؤون أسرته أو مسكنه".
لا يمكن اختزال الحياة في ما هو "حيّ" فقط (Le vivant)، بل هي اختبار متواصل للذات في التصاقها بالمعيش، ومن النتائج المذهلة لهذا الاختبار أنّه يبيّن لنا أنّنا نتألّم، ولكن بإمكاننا كذلك أن نشعر بالألم الذي يعانيه كائن آخر يحيا.
اليوم، يمكن أن نلاحظ ونحن على أبواب موجة جديدة من انتشار "كورونا" وتطوّر الفيروس في شكل طفرات جديدة، أنّ القيود المفروضة على شعوب العالم أصبحت خانقة إلى درجة أثارت معها احتجاجات واسعة النطاق بالأخصّ في الأراضي الأوروبية. ففي فرنسا مثلاً، وانطلاقاً من 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، سيكون عل كل راغب في زيارة البلاد من غير الملقّحين الوافدين من لوكسمبورغ وبولونيا وسويسرا بأن يستظهر بنتيجة اختبار كوفيد سلبية قبل 24 ساعة من السفر. وهذه الدول الثلاث تلتحق بعدّة بلدان أخرى وُضعت "تحت المراقبة" من قِبَل السلطات الفرنسية، وهي ألمانيا والنمسا وبلجيكا وبلغاريا وكرواتيا وأستونيا واليونان والمجر وإيرلندا وليتوانيا وهولندا وجمهورية التشيك وسلوفاكيا والمملكة المتحدة.
إذ على القادمين من هذه المناطق تقديم نتيجة اختبار (P.C.R) سلبية قبل 24 ساعة فقط عوضاً عن 72 ساعة كما كان معمولاً به. وهذا القرار صار واقعاً بفعل إدراجه في الجريدة الرسمية الفرنسية بتاريخ 19 تشرن الثاني/نوفمبر 2021.
وإزاء مثل هذه التضييقات والقوانين التي تحدّ من حرية المواطن في الدولة التي ينتمي إليها، والتي تؤثّر كذلك في المجالات الاقتصادية والاجتماعية وحتى النفسية، يمكن أن نبحث عن مبرّرات موضوعية لهذه القرارات. وهي مبرّرات يمكن أن نلخّصها في ضرورة ضمان الصحة العامة للأفراد، إذ إن الدولة هي المسؤولة عن حماية مواطنيها من الجوائح والأوبئة بأن توفّر لهم ظروف المناعة، فبإسم حقوق الإنسان نفسها التي ندافع بها عن حرية الفرد وحماية حياته الشخصية، يمكن أن ندافع كذلك عن واجب الدولة في أخذ القرارات الحازمة للقضاء على الوباء أو التقليل من دائرة انتشاره.
ففي المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نجد أنّه: "لكل شخص الحق في مستوى معيشة يكفي لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته، وخاصة على صعيد المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية وصعيد الخدمات الاجتماعية الضرورية".
لكن مع ذلك، فإن تلك القرارات لا زالت تلاقي معارضة من شريحة كبيرة من الناس، لأنها في نظرهم مسقطة وتستهدف حقّهم في الحرية.
والمشكلة الرئيسة أن فرض هذه القرارات على غير المقتنعين بها، يضعنا أمام حَرَج أخلاقي يتعلّق بالكرامة الإنسانية للأشخاص.ذلك أن السلطات الفرنسية ما زالت عاجزة إلى الآن عن إيجاد الحلول للتعامل مع 16% من الفرنسيين الرافضين لتلقّي اللقاحات المضادّة لفيروس "كورونا"، فهل يمكن في هذا السياق أن نتحدّث عن "الحق في عدم تلقّي اللقاح" كقاعدة للحرية الفردية؟ وهل يمكن تبرير الحرية الفردية ضدّ المصلحة العليا للمجتمع؟ ألا يكون الفرد في هذه الحال مهدِّداً لسلامة المجموعة وللقوانين التي تحمي الجماعة برمّتها؟
إنّ من واجبات الفرد الأساسية عدم التعدّي على سلامة المجموعة أو تهديد أمنها العام أو صحّتها، لأنه لا يمكنه العيش وإثبات الكيان خارج المنظومة الاجتماعية السليمة، ولذلك فوفق القانون العالمي لحقوق الإنسان في مادته التاسعة والعشرين، "على كل فرد واجبات إزاء الجماعة التي فيها وحدها يمكن أن تنمو شخصيته النمو الحر الكامل"، وأنه كذلك "لا يخضع أيّ فرد في ممارسة حقوقه وحرياته، إلا للقيود التي يقرّرها القانون مستهدفاً منها، حصراً، ضمان الاعتراف الواجب بحقوق وحريات الآخرين واحترامها...".
نعيش اليوم عصراً تتحكّم فيه التقنية في الأخلاق. فالحكم الأخلاقي هو الحكم الذي يتطابق مع مبادئ التقنية ومقتضياتها، والتقنيات الطبية هي التي تقرّر ما هو نافع بالنسبة إلى الأخلاق، وعلى الأخلاق نفسها أن تتأقلم معه!
إنّنا واقعون تحت ضغط الخسائر الفادحة في الأرواح البشرية التي خلّفتها جائحة "كورونا"، إلى جانب انعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية التي خلّفت حالات جديدة من الفقر وزادت في تفاقم عدد المهمّشين واستفحال مظاهر المرض النفسي بكل تجلّياتها، الأمر الذي دفع بالسلطات في كل الدول، وبإيعاز من "منظّمة الصحة العالمية"، إلى فرض مثل هذه الإكراهات على مواطنيها، وآخرها فرض الجواز الصحي لدخول الأماكن العامة والتنقّل بين الجهات أو للترفيه، والذي قابلته الشعوب بتظاهرات عارمة رافعة شعارات الحرية الشخصية وعدم التدخّل في الخصوصيات.
إننا نتصوّر أنّ هناك تبريرين أساسيين لموجة الرفض لتلقّي اللقاحات أو لفرض جواز التلقيح:
الأول: عدم اقتناع البعض بجدوى اللقاحات مستنداً في ذلك إلى فكرة شبه ميتافيزيقية ترمي المسؤولية للقدر، وأنّ ما سيصيبنا سيصيبنا حتماً، ولا مفرّ من مواجهة مصيرنا. هذه الفكرة نفسها يمكن أن تجد جذورها في فكرة الانتخاب الطبيعي التي تحدّد لنا من سيكون الناجي من الوباء، بفضل المناعة الطبيعية للجسم البشري. حيث أن البقاء سيكون للأقوى والأكثر لياقة بدنية.
كما تجد جذورها كذلك في الفكر الفلسفي الرواقي الذي يدعو إلى العيش وفق قوانين الطبيعة، وهذا النوع من العيش هو هدف أساسي للإنسان لأنٌه يمثّل الفضيلة الحقيقية. فالطبيعة تقودنا إلى الفضيلة، ولأجل ذلك اعتبر الفيلسوف الرواقي زينون أنّ الخير الأعظم يتمثّل في الحياة المتوافقة مع الطبيعة، فكل ما يكون متماشياً معها نقبله وكل ما يتعارض معها نرفضه.
هذا القانون الطبيعي هو قانون أخلاقي وإلهي في الوقت نفسه، والقدر هو حركة أبدية موجّهة لحياتنا، ولا ينبغي أن نتدخّل فيه. فالسلوك المناسب للكائن الحيّ هو الذي يكون موافقاً لطبيعته (1).
الثاني: المبرّر الثاني للرفض يتمثّل في اقتناع فئة من هؤلاء الرافضين أنّ هناك تلاعباً بصحة الإنسان واستهتاراً لا أخلاقياً من طرف شركات تصنيع الدواء واللقاحات بدافع الربح المالي. أي أنّ هناك تضارباً في المصالح، بين المصلحة الاجتماعية والمصلحة الاقتصادية. فظاهرة تضارب المصالح تضرّ بالبحوث الجادّة والنافعة في المجالات الطبية، وقد أكّد ترودو ليمانس (Trudo Lemmens) المختصّ في البيوتكنولوجيا في مركز البيوإيتيقا في جامعة تورونتو (Toronto)، أنّ تضارب المصالح ينتج عندما يكون القرار المهني المتعلّق بالبحث أو بعلاج المرضى متعارضاً مع مصلحة ثانوية مثل الربح المادي أو الهيبة الشخصية.
ولا بدّ من اعتماد استراتيجية لمواجهة هذا التضارب تتأسّس على ثلاث مراحل هي الكشف عن هذا التضارب وفضحه، وتأسيس نظام للاختبار والمراقبة، ومنع الأنشطة التي تؤدّي إلى هذا التضارب.
ولعلّ مسألة تضارب المصالح تطرح علينا كذلك المسألة الأخلاقية بكل إلحاح. أي الأخلاق الطبية خاصة في ما يتعلق بالتجارب على الإنسان أو حتى على الحيوان أو على كل كائن حي. وعادة فإنّ الدراسات الطبية لا تهتمّ بأسئلة فلسفية على غرار الموت والحياة برؤية ميتافيزيقية أو فينومينولوجية.ذاك أن العلاقة الطبية في جوهرها هي علاقة عنصرين لا واعيين بالمرض، وهما الألم والموت.
وعليه، فإنّ المسائل الأخلاقية والبيو إيتيقية يجب أن تكون في قمّة اهتمامات طب المستقبل. وفي غياب المعايير الأخلاقية تتحوّل التجارب العلمية والطبية إلى نوع من العَبَث بالمصلحة العليا للبشرية، وتُفتح الأبواب للاعتداء على الكرامة البشرية باسم التقدّم العلمي أو الجدوى المالية والاقتصادية.
ففي تجارب الاستنساخ مثلاً يُمكننا أن نضمن الربح المادي وتنمية الثروة ونزيد في الإنتاج، وذلك باستنساخ حيوان وإدخال تغييرات كبيرة عليه إلى حد التشويه بتسمينه وتوفير كمية كبيرة من اللحوم. لكننا في المقابل لا نفكّر في الانعكاسات السلبية لهذه التجارب العلمية. فنحن قادرون بفعل هذه التجارب البيولوجية على إنتاج عالم جديد فيه كل مواصفات الرغبة البشرية، إلا أننا لا نكون واعين بما سيخلّفه ذلك من فوضى وتشويهات بيولوجية أو ظهور أمراض جديدة (2).
إنّ الهدف من تأسيس الأخلاقيات الطبية يتمثّل في إخضاع التحكّم التقني في الكائن الحيّ إلى قانون أخلاقي، أو إلى مجلّة واجبات خاصة بمهنة الطب من أجل تلافي كل نوع من الانزلاق الممكن نحو الاستغلال أو الاعتداء على الكرامة البشرية.
كتب باستور (Pasteur) إلى حاكم البرازيل: "لو كنتُ ملكاً أو إمبراطوراً أو رئيس جمهورية، سأطلب من محامي المتّهم ليلة إعدامه، بأن يختار بين الموت أو الخضوع لتجربة نقل للكوليرا، وبمجرّد ظهور أعراض المرض على المحكوم نسارع بالبحث عن دواء أو لقاح للمرض بعد التأكّد من درجة المقاومة لدى المريض".
بالعودة إلى أحد فلاسفة الأخلاق بإطلاق، وهو الفيلسوف كانط، نلاحظ أنّ الكائنات العاقلة هم أشخاص لا يمكن اعتبارهم وسائل لقضاء أغراضنا، بل هم في الأصل غايات في حد ذاتهم يتمتّعون بإرادة مستقلّة. فاستقلالية الإرادة هي المبدأ الأسمى للأخلاق، وبهذا المبدأ ترتبط فكرة أرقى، هي فكرة الغايات، التي تقرّ بارتباط الكائنات العاقلة بقوانين مشتركة، أي أنّ هناك نوعاً من الاتحاد الذي يجمع الكائنات العاقلة بالغايات في حدّ ذاتها، وهي الغايات الموضوعية التي ينبغي عليهم إتّباعها، وكذلك الغايات الخاصة التي لكل أحد منهم الحق في إتّباعها. ففكرة الغايات هذه التي يطرحها كانط، تذكّر بفكرة روسو حول علاقة الإرادة بالقانون في ما يخصّ مساهمة كل شخص في تأسيس "الجمهورية".
إنّ أية تجارب أو بحوث تهدف إلى التحكّم البيولوجي في الكائن الحيّ لا بدّ من أن نقيّمها انطلاقاً من إرادة أصحابها، لأنّ الإرادة الطيّبة هي أساس القانون الأخلاقي، والحكم على عمليات التحكّم البيولوجي هذه يرتبط أوّلاً بمعرفة الدوافع الواعية التي تحرّك الفاعلين، ولِمَ لا كذلك، الدوافع غير المعلنة. وهذا الحكم لا يمكن أن يكون فقط حكماً تقنياً، ولكنه كذلك حكم أخلاقي يسائل الأسباب، يساندها أو يعارضها (3).
هناك من يستغرب من إخضاع الأبحاث البيولوجية والطبية إلى القوانين الأخلاقية بدعوى إعاقة المسار العلمي وتعطيل تطوّره. نعم، إنّه وضع غريب في الحقيقة، ولكن يجب في بعض الأحيان أن تدفعنا الأحداث اليومية إلى الوعي بأهمية القرارات الأخلاقية والسياسية تجاه القدرات التقنية، وتحديد ما يخضع فيها إلى الإرادة الطيبة باعتبارهذه الإرادة هي الشرط الضروري والكافي للقيمة الأخلاقية، فهي طيّبة ليس لنتائجها بل لأنّها نابعة من إرادة داخلية، وهي تبقى كذلك حتى لو لم تحقّق مقاصدها على أرض الواقع، وهي إرادة تتصرّف بالتوافق مع الواجب. فكل فعل أخلاقي هو فعل متطابق مع الواجب، أي أنه لا يستمدّ قيمته من الهدف الذي يرنو إليه ولا من الموضوع الذي يحقّقه ولكن من المبدأ ذاته، وهذا المبدأ يكون في شكل قواعد صوَرّية للفعل. إذن، فالرغبة هي ضرورة القيام بالفعل فقط من أجل احترام القانون الأخلاقي.
إنّ الواجب هو ما يجب أن يكون، وعندما تتأسّس الأخلاق على التجربة فهي تنكسر بسرعة، ولكنها تبقى وتدوم عندما لا تتأسّس على ما هو موجود بالفعل، بل على ما يجب أن يكون. كما أنّ القانون الأخلاقي له خاصيّة كونه ليس له قيمة فقط بالنسبة إلى الإنسان، بل لكل كائن عاقل في العموم، ولذلك فإنّ مصدره لا يكون غير العقل، فنستطيع أن نعبّر عن القانون الأخلاقي كما يلي: "افعل كما لو كان المبدأ الذاتي لفعلك نابعاً من الإرادة" (4).
كل شيء في حقل الغايات له ثمن، أوّله كرامة خاصة. فالأشياء التي تتعلّق بحاجياتنا أو أذواقنا لها ثمن، ولكنه مجرّد ثمن فقط، بمعنى يمكن أن تكون متبادلة بأشياء أخرى توازيها. أمّا الأشياء التي هي غايات في حدّ ذاتها أو التي تتعلّق بمفاهيم غائية مثل الإنسانية والأخلاق، فلها كرامة خاصة، أي أنها فوق كل نوع من الأثمان وغير قابلة للمبادلة.
هل التحكّم البيولوجي في الكائنات الحيّة فعل أخلاقي؟
لا بدّ من التأكيد أنّ التقنية تعدّ شكلاً من أشكال الفعل الإنساني، وأنّ كل فعل يُنظر إليه بحسب الحافز الذي يدفع إليه. ولا شكّ أن الحافز يقيَّم بمقياس الخير والشر، وهكذا فالتقنية لا تقيّم خارج حدود الأخلاق، بحيث لا يكفي أن نقول بأنّنا نستطيع تقنياً القيام بهذا التحكّم أو غيره، بل ينبغي أن نتساءل دوماً: هل من المشروع القيام به من الزاوية الأخلاقية؟
في التصوّر الديمقراطي على الأقلّ، ينبغي أن نطرح في الفضاء العام ما يقوم به العلماء والباحثون، وذلك بغاية أن ينتبهوا هم أنفسهم لما يقومون به، فمن الضروري أن يقف كل واحد منهم أمام مشكل المعرفة ليطرحه طرحاً أخلاقياً.
لكننا اليوم نعيش عصراً تتحكّم فيه التقنية في الأخلاق، فالحكم الأخلاقي من هذه الزاوية هو الحكم الذي يتطابق مع مبادئ التقنية ومقتضياتها، والتقنيات الطبية هي التي تقرّر ماهو نافع بالنسبة إلى الأخلاق، وعلى الأخلاق نفسها أن تتأقلم معه! ومن هنا فإنّ المبدأ الأساس هو ألا نوقف مسيرة العلم.
ينبغي على الباحثين في المجالين العلمي والطبي خاصة، أن ينتبهوا إلى أنّه ليس هناك معنى للحكمة من دون معنى واضح للخير والشر، وأن نختار من الأفعال المطوّرة للحياة ما يتطابق مع الخير: فأية حكمة هذه التي تسمح لنا بأن نعتبر الجسد سلعة نتاجر بها، أو مجرّد مادة نتحكّم فيها في حقل التجارب؟ أية حكمة نعني عندما تكون غاياتنا القصوى متعلّقة بالجدوى الاقتصادية وبإنتعاشة التجارب؟
إنّ أوّل خطوة نقوم بها في المجال الأخلاقي تتمثّل في تأكيد الطابع الموحّد وغير القابل للتجزئة للفرد وللكرامة الإنسانية للشخص. من ذلك أنّ الكائن الإنساني لا يمكنه بأية حال من الأحوال أن يبيع جسده أو أعضاء جسده، والتصرّف فيها أو سرقة أعضاء البشر، فكلّ هذه الممارسات مرفوضة أخلاقياً وقانونياً.
إنّ التجارب الطبية اليوم، خاصة في ظلّ الانتشار الواسع لوباء "كورونا" وسعي العلماء إلى البحث عن دواء ناجح وأنواع من اللقاحات، يفرض استعادة المقاربة الأخلاقية، وهي مقاربة ليست وليدة الحاضر بل إن جذورها ضاربة في التاريخ العلمي للشعوب.
وأمام انتشار ظاهرة التجارب البيولوجية نستطيع أن نضع على الأقل نوعين من المحاذير أمام العلماء والبيولوجيين بصفة خاصة والباحثين عموماً:
أولاً: يجب منع التجريب المباشر على الإنسان ووضعه بمعزل عن كل تعدّ على خصوصيّاته البيولوجية، حتى ولو كانت الأهداف من ذلك علمية بحتة. فلا بدّ من حمايته وعدم السماح إلا بالتدخّلات العلاجية الضرورية لصحته.
ثانياً: ينبغي أن نحمي أيضاً الموروث الحيّ كتراث إنساني، وكذلك حماية الحيوانات والنباتات المهدّدة. فالموروث الحيّ لكوكب الأرض جدير بالعلاج والحماية تماماً مثل الموروث الثقافي والمتاحف. ويمكن أن يشمل منع التجريب الذات الباحثة نفسها، لأنّ بعض العلماء أصبحوا مشهورين لأنّهم أخضعوا أنفسهم إلى محاولات تجريب وبحث "من أجل تطوّر العلم". فهل من المشروع للباحث أن يضع صحّته وحياته موضع خطر من أجل الأبحاث الطبية والصناعات الدوائية؟
يمكن أن نعتبر إخضاع الباحث نفسه للتجربة من قبيل الشجاعة التي تجعله يبدو بطلاً يضحّي من أجل العلم. ولكن من جهة أخرى، فإنّ الطبيب يجرّب على نفسه ما لا يسمح به للآخرين. صحيح أنّه ليس مسموحاً له أن يطبّق ذلك على الآخرين، لكن ألا يمكن له أن يتأمّل الحكمة القائلة: "لِمَ تطبّق على نفسك ما تكرهه للآخرين؟" (5).
وفي هذ السياق نستطيع كذلك أن نتساءل عن الوضع الخاص للمحكومين بالإعدام الذين تُعرض عليهم نوعاً من "الإسعاف" بأن نستبدل لهم العقوبة ليتحوّلوا إلى "خنازير تجارب". لقد كتب باستور (Pasteur) إلى حاكم البرازيل في هذا المعنى ما يلي: "لو كنتُ ملكاً أو إمبراطوراً أو رئيس جمهورية، سأطلب من محامي المتّهم ليلة إعدامه، بأن يختار بين الموت أو الخضوع لتجربة نقل للكوليرا، وبمجرّد ظهور أعراض المرض على المحكوم نسارع بالبحث عن دواء أو لقاح للمرض بعد التأكّد من درجة المقاومة لدى المريض".
يمكن أن نقول، من وجهة نظر أخلاقية، إنّ هذه الممارسة هي نوع من الاتّجار بمبادئ الأخلاق وذلك باستغلال حال اجتماعية خاصة باسم العلم، إلى درجة أنّ بعض الدول تعطي مقابلاً مالياً لهذه التجارب.
إنّ فكرة التحكّم البيولوجي في الكائنات الحيّة هي فكرة مضادّة للطّبيعة، وقبولها يعني قبولنا بجواز التعدّي على القوانين الطبيعية، وهي قوانين تهدف إلى تطوير الحياة في مجملها. ففكرة استنساخ أب العائلة لإعادة إنتاجه في جسد أحفاده، هو بهذا المعنى، فعل مضادّ للرغبة الطبيعية للحياة التي تبحث بطبعها عن التنوّع وليس عن التوالد المتشابه. إنّ أوّل خطوة نحو المصالحة مع الطبيعة حسب تعبير "ميشال سار" هي أن نفكّر في الفعل الإنساني بصفته وحدة إجمالية.
لا شكّ أن البحوث العلمية والتجارب في مجال البيولوجيا والطب ترسم لنفسها أهدافاً موضوعية ترتبط أشدّ ما يمكن الارتباط بالعلم، وبالنجاعة المرتبطة به. ولكن القاعدة العامة تقول بأن من يطمح إلى الهدف عليه أن يأخذ بالوسائل والأسباب. ولكن هل كل الأهداف العلمية والطبية أهداف أخلاقية في جوهرها؟
إنّ مثل هذه البحوث والتجارب ترتكز في الأصل على أهداف جزئية لا تأخذ في الاعتبار معنى الحياة عموماً وبصفة إجمالية. فهدفنا يبقى مشخّصاً، بمعنى متعلّقاً بالتوصّل إلى دواء أو لقاح يمنع انتشار الأمراض والأوبئة وينقذ عدداً لا بأس به من أرواح الأشخاص، ويقي شريحة هامة منهم خطر العدوى مثلاً. لكن مع ذلك، ينبغي أن ننتبه إلى أنّ الأخلاق تجعل البحث العلمي ينفتح على حقل جديد يتجاوز الشخص الإنساني في بعده الضيّق نحو احترام كل مَن يحيا، وكل مَن هو بصدد الحياة. صحيح أنه من غير الممكن أن نجعل من الحيوان أو من بقيّة الكائنات الحيّة أشخاصاً، ولكن نستطيع في المقابل أن نوسّع في معنى الاحترام لنكتشف معنى الأخلاق المؤسّسة على التعاطف.
فإذا كان الفعل الخيّر يتوجّه نحو الشخص الإنساني ككيان مُحدَّد، فإنّ التعاطف ينزع نحو كل من يحيا، في المعنى الواسع لكلمة "حياة" التي نسيناها في أوج انشغالنا بمصالح الكائن البشري. إنّ الحياة لا يمكن اختزالها في ما هو "حيّ" فقط (Le vivant)، بل هي اختبار متواصل للذات في التصاقها بالمعيش، ومن النتائج المذهلة لهذا الاختبار أنّه يبيّن لنا أنّنا نتألّم، ولكن بإمكاننا كذلك أن نشعر بالألم الذي يعانيه كائن آخر يحيا.
تجعلنا أخلاق التعاطف نتأثّر من الألم الذي يكون بادياً في نظرة فرس تتلقّى الضربات من راكبها، تماماً مثلما نتأثّر بألم الطفل الذي يبكي من العقاب البدني لأحد والديه. فالمعنى الأخلاقي لا يكون حاضراً في المثال الثاني فقط ومغيّباً في المثال الأول، بل هو القاسم المشترك لشعورنا بالتعاطف مع الحالين. ومجمل القول هنا إننا مدعوون إلى النظر إلى كلمة "حياة" بمعنيين إثنين: ففي المعنى الأوّل نجد نظرة البيولوجي، المادية البحتة، وفي المعنى الثاني تتبلور النظرة الفينومينولوجية التي تتلخّص في دلالة "المعيش". وبهذا المعنى فإنّ كلمة "حيّ" مُشيّئة لأنّها لا تعني إلا "المادة الحيّة"، وهذه هي اللغة "الموضوعيّة" للعلم. أمّا كلمة "المعيش" فهي تتعلّق بالذات، وتحيل على الوعي، وعلى ذاتية تُثبت ذاتها، فالحياة في جوهرها هي أيضاً حساسية (sensibilité)، فحيث تكون هناك حساسية تجاه الذات، تكون هناك حياة (7).
إنّ الأرض والنجوم والبحار تبدو في التصوّر العادي بلا حياة، لأنها تظهر لنا فاقدة للحساسية، ولكن الشجرة والوردة والحيوان تكتسب معنى الحياة لأنها اكتسبت هذه الحساسية بالمعنى المتعالي، أي القدرة على إثبات الذات والإحساس بها. ولأجل هذا كله، فإننا ما دمنا لا نرى في الحياة إلا المادة الحيّة، فنحن لن نتعامل معها إلا على أساس المصلحة الاقتصادية، أي على أساس أنها موضوع ذو جدوى وخاضع لرغبتنا.
وهكذا يمكن أن نعتبر أن حدود التحكّم في الكائن الحيّ عبر الأبحاث والتجارب العلمية المباشرة هي حدود أخلاقية، ولكنها لا تتعلّق فقط بالمخاطر التي يمكن أن تلحق بالكائنات البشرية، بل تلتزم كذلك بأن تهتمّ بتطوير الحياة على الأرض ضمن رؤية إجماليّة موحّدة، وهذه الحدود الأخلاقية ضرورية ولازمة لمنع الانحرافات الممكنة في مسيرة البحث العلمي عموماً، وهي انحرافات يمكن أن تؤدّي إلى تدمير كل ما هو طبيعي في الحياة وتُخلّف للأجيال القادمة فوضى لا يمكن إصلاحها.
إنّ التجارب الطبية اليوم، خاصة في ظلّ الانتشار الواسع لوباء "كورونا" وسعي العلماء إلى البحث عن دواء ناجح وأنواع من اللقاحات، يفرض استعادة المقاربة الأخلاقية، وهي مقاربة ليست وليدة الحاضر بل إن جذورها ضاربة في التاريخ العلمي للشعوب.
ذلك أن قَسَم الطبيب أبقراط هو إقرار من الأوساط الطبية والعلمية عموماً بضرورة أن تقترن الأبحاث والتجارب على الإنسان بتصوّر أخلاقي يحمي الكرامة الشخصية للذات البشرية، حيث ينصبّ كل الاهتمام على حماية المريض بصفته الإنسانية قبل أيّة غايات نفعية أخرى، حتى ولو تعلّقت المنافع بأهداف علمية يرمي من ورائها العلم إلى التقدّم والنجاح في الاكتشافات والاختراعات، ولذلك نرى أبقراط في قَسَمه يشدّد على هذه الأبعاد الإنسانية والأخلاقية في ممارسته لمهنة الطب، وهو يلخّص كل ذلك في قوله: "ألتزم بأن أصف للمرضى النظام الغذائي المناسب بحسب أنوار المعرفة التي اكتسبتُها، وأعمل جاهداً على الدفاع عنهم من كل أنواع الظلم والإجحاف الذي يمكن أن يلحق بهم. كما أمتنع عن توجيه أيّ شخص للمعالجة بالسموم ولا أعطيها لمن يطلبها مني، وأمنعها عن النساء الحوامل الراغبات في الإجهاض. وسأسعى إلى الحفاظ على حياتي نقيّة وسليمة تماماً مثل فن الطب الذي أمارسه (...). وأقسم أنني عند دخولي على مريض في مقرّ إقامته لا يكون هدفي إلا مساعدته وحمايته من دون تمييز بين الرجال والنساء والأحرار والعبيد. وكل ما أشاهده أو أسمعه بخصوص المرضى وحياتهم الشخصية وعلاقاتهم الخاصة في نطاق ممارستي لمهنتي وخارجها، أحتفظ به سرّاً لا يمكن البَوح به لأيّ كان، بل أعتبره كذلك أمراً مقدّساً. بهذه الطريقة أستطيع العيش سعيداً لأمد طويل، وأحقّق النجاح في ممارسة فني، وأكتسب شهرة واسعة على مدى كل العصور".
يمكن أن نعتبر إذن أنّ هذا القَسَم الطبي هو أول دعوة إلى إيلاء الأخلاقيات الطبية المكانة الجديرة بها في حقل الممارسة المهنية، كما يمكن أن نستلهم منها بعض التأثيرات الإيجابية في منحى التجارب والبحوث البيولوجية والدوائية على الكائن البشري، بحيث تكون الغاية الأساسية لهذه التجارب هي مساعدة الإنسان وتطوير حياته نحو الأفضل، وألا تكون الاعتبارات الاقتصادية والمادية هي الطاغية، بالإضافة إلى العمل المتواصل على صون الكرامة البشرية.
وهذا بالضبط ما فهمته المجامع العلمية الطبية لاحقاً بحيث سعت إلى الانطلاق من هذا التوجّه الأبقراطي وتدعيمه، من ذلك أنّ الجمعية الدولية الطبية (AMM) المحدثة سنة 1947 قامت بصوغ قَسَم طبي مستوحى من قَسَم أبقراط، وهو ما يُعرف بـ"قَسَم جنيف"، وفحواه يتعلّق بضرورة أن يضع الطبيب نفسه في خدمة الإنسانية وأن يحترم السرّ المهني تجاه المريض الذي استنجد به حتى بعد موته. كما يحدّد هذا القَسَم العلاقات بين الأطباء أنفسهم التي ينبغي أن تكون علاقات أخوية قائمة على التعاون، ويحثّ الطبيب على أن يحترم الحياة الإنسانية احتراماً مطلقاً حتى ولو كان تحت وضع التهديد، وألا يستعمل أبداً معارفه الطبية ونتائج أبحاثه وتجاربه ضدّ قوانين الإنسانية.
وهذا الإعلان بما فيه من مقاربة أخلاقية لمهنة الطب، وقع تطويره بملحق يخصّ الأبحاث التجريبية والبيولوجية، والذي أكّد على أخلاقيات البحث العلمي والتجارب على الإنسان في صيغة مبادئ عُرفت في ما بعد بـــ "إعلان هونغ كونغ" عام 1989. ومن بين هذه المبادئ أنّ البحوث البيولوجية الطبية المتعلّقة بالإنسان، ينبغي أن تكون متطابقة مع المبادئ العلمية المعترَف بها، ومؤسّسة على التجريب المُجرى في المخبر من قِبَل كفاءات متشبّعة بالمعرفة العميقة للأدبيات العلمية (6).
إنّ فكرة التحكّم البيولوجي في الكائنات الحيّة هي فكرة مضادّة للطّبيعة، وقبولها يعني قبولنا بجواز التعدّي على القوانين الطبيعية، وهي قوانين تهدف إلى تطوير الحياة في مجملها. ففكرة استنساخ أب العائلة لإعادة إنتاجه في جسد أحفاده، هو بهذا المعنى، فعل مضادّ للرغبة الطبيعية للحياة التي تبحث بطبعها عن التنوّع وليس عن التوالد المتشابه. إنّ أوّل خطوة نحو المصالحة مع الطبيعة حسب تعبير "ميشال سار" هي أن نفكّر في الفعل الإنساني بصفته وحدة إجمالية.
ومن جهة أخرى فإنّ التجربة على الكائن البشري لا تكون مشروعة، إلا حين تكون أهمية الأهداف المرجو تحقيقها تفوق بكثير الخطر المحدق بالتجربة أو إمكانية فشلها. كما أن الأولوية تكون دائماً مضمونة لمصلحة الإنسان موضوع التجربة على حساب البحث العلمي أو مصلحة المجتمع. وفي هذه النقطة بالذات فإن "إعلان هونغ كونغ" يمكن أن يضفي نوعاً من المشروعية على مقولة "الحق في الامتناع عن تلقّي تلقيح كورونا" لدى الفئة الرافضة. فمبرّرات الرفض متوافرة، بما أن أغلب اللقاحات الموجودة اليوم هي في طور التجربة ولم يتمكّن العلماء إلى حد الساعة من حسم أمر نجاحها من عدمه، خاصة في ظلّ مزيد انتشار الوباء واستفحاله رغم تلقّي عدد كبير من البشر للتطعيم بجرعات متفاوتة. ولما كانت مصلحة الشخص وكرامته الإنسانية هي من أولويات البحث حتى على حساب الهدف العلمي المجتمعي، فإن فرض التلقيح الإجباري على الناس يمكن أن يُعدّ، من هذه الزاوية، خرقاً للاتفاقيات الدولية الطبية في هذا الصدد.
إنّ أغلب المقاربات الأخلاقية في مجال الممارسة الطبية، البحثية خاصة، ركّزت على حق الإنسان في الحرية الشخصية، وحقّه في الاختيار، أي اختيار العلاج المناسب، ورفض كل ما يراه من قبيل الأشياء المفروضة عليه والتي لا تتماشى مع وضعه الخاص.
من هذا المنطلق يمكن تفسير ردود الأفعال الرافضة للإجراءات الخاصة بمقاومة وباء "كورونا"، التي اتّخذتها عديد الدول في العالم، هذه الردود التي اتّخذت أشكالاً عديدة أغلبها تدين الاعتداء على الحريات الشخصية، من ذلك أنّ الشعارات التي رفعها المتظاهرون ضد "فرض الجواز الصحّي"، كانت معظمها تنادي بالحرية من قبيل: "أوقفوا الدكتاتورية الصحية" و"من أجل الحرية" و"ارفعوا أيديكم عن حياتنا الشخصية"... إلخ.
يمكن أن نقول في نهاية الأمر إن المقاربة الأخلاقية لمجال البحوث العلمية في الطب والبيولوجيا تطرح العديد من الإحراجات النظرية والعملية، تتعلّق أساساً بالمفارقة بين التطوّر العلمي والتقني الذي يذهب في اتجاه العمل على إيجاد حلول صحية للبشرية، وبين الخطر الذي يمكن أن يهدّد الإنسان بفعل التدخّل التكنولوجي والتحكّم البيولوجي في الذات البشرية، وهو خطر يضعنا أمام نقاش مثير لعلاقة العلم بالأخلاق!
المراجع
1 - Brun, Jean, Les stoïciens, P.U.F, Paris 1980
2 - Baertschi, Bernard, La valeur de la vie humaine et l'intégrité de la personne, P.U.F,
Paris1995
3 - Kant, Emmanuel, Fondements de la métaphasique des mœurs, traduction, Delbos Ed.
Cérès 1994
4- المرجع نفسه.
5 - Vayer, Gilles, Qu'est-ce que l'éthique clinique?, Ed. Frides, Collection Catalyses,
Québec1996
6- المرجع نفسه.
7 - Merleau-Ponty, Maurice, Phénoménologie de la perception, Ed. Gallimard, Paris 1945