مدينة الجزائر: من "إكوزيم" إلى "المحروسة بالله"

"هل كانت هناك أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي؟"، هذه الورقة البحثية تجيب عن سؤال الرئيس ماكرون.

  • مدينة الجزائر: من إكوزيم إلى المحروسة بالله
    مدينة الجزائر: من إكوزيم إلى المحروسة بالله

لعبت مدينة الجزائر، العاصمة الحالية للجزائر، دوراً محورياً في غرب المتوسّط ابتداءً من القرن 16م في سياق المواجهة المفتوحة التي دارت رحاها بين القوى الإيبيرية الصاعدة آنذاك، وبين الجزائر التي بنت كيانيتها الحديثة في نفس تلك الفترة. لكن للمدينة تاريخ عريق ارتبط بالإمبراطوريات التي عرفتها المنطقة، والتي طبعت كل منها البنية العمرانية والديموغرافية للمدينة. هذه الورقة البحثية تضيء على أهم تلك المحطات التاريخية.        

الجغرافيا في خدمة الطموح الإمبراطوري القرطاجي...تأسيس "إيكوزيم"  

  • آثار بونيقية مكتشفة في الجزائر
    آثار بونيقية مكتشفة في الجزائر

اعتمدت خطوط التجارة في العالم القديم أساساً على الذهب والرقّ المجلوب من السودان الغربي (منطقة الصحراء الكبرى أو دول الساحل الأفريقي حالياً)، وعلى فضّة شبه الجزيرة الإيبيرية وقصديرها المنتشر في شمال غربها، والذي يصل طريق نقله إلى مصب نهر الوادي الكبير في مرفأ طارطيسوس Tartessos في جنوب إسبانيا الحالية (1). 

من أجل ضمان السيطرة على هذه الخطوط، وكذا للهيمنة التجارية على غرب المتوسّط، عمد القرطاجيون (2) إلى بناء شبكة من المحطات على امتداد السواحل الجنوبية للبحر الأبيض المتوسّط بمسافات تتراوح ما بين 25 و45 كيلومتراً، من قرطاجة (في تونس الحالية) شرقاً إلى مصب نهر ملوية (في المملكة المغربية الحالية) غرباً (3)، مروراً بالسواحل الجزائرية الحالية، تتمكَّن من خلالها السفن القرطاجية من التوقف للراحة وللتزوُّد بالمؤونة، وقد كان بالأصل وجود الفينيقيين سابقاً في سواحل شمال أفريقيا، أو ما سيُعرف لاحقاً ببلاد المغرب، مرحلة ضرورية للوصول إلى معادن إسبانيا.

لم يكن بناء القرطاجيين لتلك المحطات عبثياً كما يؤكّد المؤرّخ الفرنسي المختصّ في التاريخ الروماني مارسيل لوڨلاي، وإنما كان عليهم دراسة الجغرافيا لاختيار مواقع تضمن لهم رُسُوّاً مريحاً على جزيرة أو مَصَبّ أو رأس (كتلة أرضية متقدّمة داخل البحرCAP). 

وفق هذا المنطق وقع اختيارهم على موقع لبناء محطة توقّف قرطاجية بين شاطئ باب الواد - حيث الحيّ الشعبي المعروف في مدينة الجزائر حالياً- وما يُعرف بخليج الجزائر، حيث تتواجد 4 جزائر صغيرة غير بعيدة عن اليابسة مُشكّلة حرف T تضمن رُسُوّاً مريحاً للسفن مع وجود كتلة صخرية مرتفعة قريبة مطلّة على الخليج أكسبتها موقعاً دفاعياً مثالياً. 

ضمن السياق نفسه أيضاً وقع الاختيار على خليج تونس من قبل لتأسيس قرطاجة نفسها، فبغضّ النظر عن تفاصيل أسطورة الأميرة أليسار وقصة فرارها من أخيها من صور، التي ترتبط بتأسيس المدينة، ولكل الإمبراطوريات أساطيرها المُؤَسِسة، فإن الجغرافيا بلا أدنى شك، هي التي لعبت دوراً حاسماً في اختيار المدينة، لا لتكون محطة تجارية فحسب وإنما مدينة إمبراطورية سرعان ما تحوّلت إلى واحدة من أعظم مدن العالم القديم. 

كل العوامل الجغرافية والطبيعية إذن ساعدت لتحوُّل هذا الموقع الفينيقي بامتياز، كما سمَّاه عالم الآثار الفرنسي المتخصّص في شمال أفريقيا الرومانية ستيفان فزال (4)، لمدينة مرفئية آهلة ومزدهرة.

يقين المؤرّخ الفرنسي بفينيقية مدينة الجزائر دعمته الاكتشافات البونيقية على غرار نصب يُمثِّل واجهة لضريح برموز دينية خاصة بالآلهة القرطاجية، وقطع نقدية من الرصاص والبرونز مضروبة في القرن الثاني ومنتصف القرن الأول قبل الميلاد.

أطلق القرطاجيون تسمية "إِكوزيم" على المدينة المرفئية الجديدة، والكلمة مُركَّبة من شقّين، ال"إِ" التي أجمع المختصّون أنها تعني بالبونيقية الجزيرة، ونجدها تتكرَّر في طوبونيميا (علم تسمية الأماكن) العديد من المناطق التي عرفت الوجود الفينيقي في غرب المتوسّط، على غرار جزيرة إبيزا في إسبانيا وإيومنيوم (مدينة تيڨ زيرت الساحلية في وسط الجزائر)، إيجيجيلي (جيجل الحالية في شرق الجزائر) وغيرها، بينما تعدَّدت النظريات حول معنى الشق الثاني وهو"كوزيم". 

العوامل الجغرافية والطبيعية ساعدت لتحوّل هذا الموقع الفينيقي إلى مدينة مرفئية آهلة ومزدهرة سميّت "إِكوزيم"

يذهب المؤرّخان الفرنسيان جوزيف كانتينو ولويس ليشي إلى أنها تعني طيور البوم أو الأشواك فيصبح المعنى جزيرة البوم أو جزيرة الأشواك، لكن فيكتور بيرار المختصّ في التاريخ الهيليني، ومن بعده المؤرّخ المختصّ في تاريخ روما القديمة جيروم كاركوبينو، رجَّحا أن يكون معناه طيور النورس أي جزيرة النورس (5)، و"الجزيرة" في كل الحالات تُحيل إلى الجزائر الأربع قبالة المدينة، وهي التسمية التي سترتبط بهذه المدينة في كل العصور اللاحقة.

رغم ذلك فإن العالم النحوي الروماني فايوس يوليوس سولينوس الذي عاش في القرن الثالث الميلادي، أورد قصة، يبدو أن الرومان أرادوا من خلالها ربط تأسيس المدينة بأسطورة يكون الهدف الأساس منها ترسيخ الرَوْمَنَة التي عرفتها المدينة والتسمية على حد سواء. تقول الأسطورة إن هرقل في رحلة مروره من هذا الموقع تخلَّى عنه 20 رجلاً، وأسَّسوا فوق أرضه مدينةً، وأطلقوا عليها إسم إيكوزي  eikosi والتي تعني "عشرين" باللغة الإغريقية، ثم اشتقّ منها بعد ذلك "إكوزيوم" وهو الإسم الذي ستُعرف به المدينة في العهد الروماني(3).

فينيقية مدينة الجزائر دعمتها الاكتشافات البونيقية ومنها نصب يُمثِّل واجهة لضريح برموز دينية خاصة بالآلهة القرطاجية

كانت إكوزيم واحدة من مدن كثيرة وضع القرطاجيون أُسُسَها في غرب البحر المتوسّط، في ضفته الجنوبية أي شمال أفريقيا على غرار بجاية وعنابة وجيجل في الجزائر الحالية، وفي ضفته الشمالية في أوروبا كقادش وغرناطة في إسبانيا ومدن صقلية وسردينيا في إيطاليا.

ما بعد سقوط قرطاجة.. من "إكوزيم" القرطاجية إلى "إكوزيوم" الرومانية 

  • لوحة تمثّل هجوم البحرية الرومانية على قرطاجة
    لوحة تمثّل هجوم البحرية الرومانية على قرطاجة (146 - 149 قبل الميلاد)

واجه القرطاجيون في مشروعهم التوسّعي في غرب المتوسّط عقبة كأداء تمثَّلت في قوة روما الصاعدة، فدخلوا معها في سلسلة حروب دامية سُمِّيت بالحروب البونيقية بدأت عام 264 قبل الميلاد، وامتدت لأزيد من قرن من الزمان وكان ميدانها غرب المتوسّط وشمال أفريقيا. نهاية هذه الحروب كانت مفصلاً هاماً في تاريخ المنطقة والعالم القديم. إذ لم تكن سنة 146م قبل الميلاد سنة انتهاء ما عُرف بالحروب البونيقية فحسب، بل عام سقوط قرطاجة وتدميرها على يد القائد الروماني سكيبيو، حيث بدأ فعلياً التـأريخ لتحوُّل القوة الرومانية البرية الصاعدة تدريجاً، بعد أن خلت لها الساحة، إلى إحدى أعظم إمبراطوريات العالم.

مع تدمير قرطاجة شهد التاريخ اندثار واحدة من أكبر الحضارات التي عرفها العالم القديم تجاوزت الحدود والثقافات، وقدَّمت للبشرية زيادة على "ثورة الأبجدية" كمّاً هائلاً من الإنجازات ليس أقلّها أن مدناً عديدة آهلةً وعامرة على امتداد ضفتيّ المتوسّط، تدين بالفضل للفينيقيين لوضع لبناتها الأولى.  

من آثار هذا التدمير أيضاً محت روما تراث البونيقيين الثقافي والديني، وأضحت هذه الحضارة العظيمة لا تُعرَّف إلاَّ بدلالة التاريخ الروماني. يكفي أن نعرف أن تسمية الفينيقيين أو البونيقيين نفسها، لم يطلقوها هم على أنفسهم في التاريخ، وإنما يكمن الفرق الوحيد بين الكلمتين الدَّالَّتين على شعب واحد، في اللغتين الإغريقية واللاتينية حيث يُحيل المعنى إلى اللون الأرجواني الذي برعوا في استخراجه من الأصداف البحرية لصبغ منسوجاتهم به.  

لم تكن الهيمنة الرومانية على شمال أفريقيا ووراثة الإمبراطورية القرطاجية سريعة ومباشرة، بل مرّتَ بمراحل تدريجية اقتضاها السياق التاريخي الذي عرفته المنطقة خلال تلك الفترة. فالقرطاجيون لم يسيطروا فعلياً إلا على مواقع محدّدة في السواحل الأفريقية التي أسَّسوا فيها محطات ومستوطنات تجارية، ولم يتوغَّلوا في المناطق الداخلية الجبلية أو السهلية تاركين سكانها يتمتَّعون باستقلال نسبي مع تبعية للمركز في قرطاجة. كان التبادل التجاري والثقافي بين القرطاجيين والنوميديين (الذين سيُطلق عليهم لاحقاً البربر) في أَوْجِه، حيث انتشرت معه الثقافة القرطاجية إلى حد الاندماج الثقافي التام في المدن القرطاجية التي كانت إكوزيم من ضمنها. فقد كانت البونيقية هي اللغة المكتوبة المتداولة بين النخب في التجارة والإدارة والحياة اليومية.

في هذا السياق شكَّلت قبائل المنطقة، ثلاث ممالك؛ موريطانيا إلى الغرب من وادي ملوية في الحدود الشمالية للمملكة المغربية الحالية تقريباً، ومملكة مسيسيليا أو نوميديا الغربية التي امتدت غرباً من وادي ملوية في شرق المغرب حالياً إلى الشرق الجزائري الحالي وتقع ضمنها مدينة إكوزيم الفينيقية، ثم مملكة ماسيليا أو نوميديا الشرقية التي ضمَّت شرق الجزائر الحالية.

كانت قرطاجة تعتمد في تكوين جيوشها على المرتزقة الذين تجلبهم من شعوب ومناطق عديدة، لكن دور النوميديين وخصوصاً الفرسان منهم كان كبيراً، وقد ذاع صيتهم من خلال دورهم الحاسم في انتصارات قرطاجة ضد روما حيث أضحت فرقة الخيَّالة النوميدية الفعَّالة من أهم أعمدة الجيش القرطاجي مثلما ينقل لنا المؤرّخان اليونانيان بوليبيوسPolybe وسترابو Strabon والمؤرّخ الروماني تيتوس ليفيوس  Tite-Live .

دمّرت روما قرطاجة وقضت على تراث البونيقيين الثقافي والديني، ولم تعد تعرف حضارتهم العظيمة إلاَّ بدلالة التاريخ الروماني

لكن الحروب البونيقية شهدت انقلاباً فعلياً في موازين القوى عند خروج الماسيل (في نوميديا الشرقية) من الحلف القرطاجي والتحقوا بجيش روما، بقيادة القائد النوميدي الطموح ماسينيسا، الذي كان يقود الفرسان النوميديين لحساب قرطاجة في شبه الجزيرة الإيبيرية، فيما قاتل غريمه صيفاقس ملك ماسيسليا (نوميديا الغربية) مع القرطاجيين. شكَّل انقلاب الخيَّالة النوميديين على قرطاجة وقائدها هنيبعل ضربة قاصمة عجَّلت بسقوط قرطاجة لاحقاً وتدميرها إلى الأبد.

وقد تمكّن ماسينيسا من توحيد النوميديتين الشرقية والغربية في مملكة واحدة عاصمتها سيرتا (قسنطينة في شرق الجزائر الحالية) قضمت المستوطنات القرطاجية الساحلية وضمَّت الجزائر وأجزاء من تونس وليبيا الحالية، حافظت نوميديا المُوحَّدة، إلى وفاة مؤسّسها على استقلال نسبي مع علاقات قوية ووثيقة مع روما.

لكن بعد سلسلة من الأحداث والحروب الأهلية بين أبنائه وأحفاده وسط تدخلات مباشرة وغير مباشرة من الرومان، فقدت نوميديا وحدتها وتقلَّصت حدودها إلى ضواحي سيرتا، إلى غاية سنة 25 قبل الميلاد حيث بدأت بوادر النفوذ الروماني بتنصيب الإمبراطور الأول أغسطس للقائد النوميدي يوبا الثاني على عرش مملكة موريطانيا التابعة، التي امتدت حدودها من شرق الجزائر الحالية إلى المحيط الأطلسي. كانت إكوزيوم واحدة من مدن هذه المملكة التي اتخذت من مدينة قرطاجية ساحلية أخرى غير بعيدة عن إكوزيم عاصمة لها، هي قيصرية موريطانيا أو شرشال في وسط الجزائر الحالية، وصولاً إلى سنة 40 قبل الميلاد تاريخ الإلحاق الرسمي والمباشر لشمال أفريقيا بالإمبراطورية الرومانية، حيث أصبحت إكوزيوم مدينة رومانية. 

لم يكن بإمكان الرومان استيطان المنطقة لأسباب ديمغرافية وغيرها، لذا لجأوا إلى إدماج سكان المنطقة ذات الثقافة الثنائية البونيقية - البربرية في إمبراطوريتهم من خلال مسار طويل من الرَوْمَنَة الثقافية واللغوية. لكن ذلك لم يمنع قيام مستوطنات رومانية على الساحل، وانتقال مستوطنين رومان للإقامة في بعض المدن مع ارتباطهم مع مدن أوروبية كما هي الحال مع مستوطني إكوزيوم مع مدينة إلتشي في جنوب إسبانيا. هذا الارتباط يشهد، كما يقول دو ڨلاي، على العلاقات الوثيقة بين شمال أفريقيا في ظل مملكة موريطانيا، وشبه الجزيرة الإيبيرية منذ العهد البونيقي، بحيث صار بالإمكان الحديث عن "الحضارة البونيقية - الإيبيرية" في غرب المتوسّط  مقابل "حضارة بونيقية - إغريقية" في شرقه. 

شكَّل المستوطنون الرومان الذين لم يكونوا بأعداد كبيرة هيئة لإدارة المدينة ارتبطت بعلاقات قوية مع موريطانيا (وعاصمتها شرشال الحالية في وسط الجزائر) تحت سلطة الملك بطليموس الموريطاني، وذلك قبل الوجود الروماني المباشر في سنة 40 قبل الميلاد عندما أضحت إكوزيوم مدينة رومانية.

بلغ التبادل التجاري والثقافي بين القرطاجيين والنوميديين أو البربر أَوْجه، وانتشرت معه الثقافة القرطاجية إلى حد الاندماج الثقافي التام في المدن القرطاجية ومنها "إكوزيم"

لم تُذكر إكوزيوم الرومانية بأحداث مُمَيَّزة سوى عام 371م خلال الثورة التي قادها القائد البربري الطموح فيرموس ضد الوجود الروماني بعد أن جمع حوله الغاضبين من السياسة الجبائية والمضطهدين من أتباع المذهب المسيحي "الهرطقي" الدوناتي، حيث نهب وحرق مدناً رومانية، منها إكوزيم، واستمرت إلى حين هزيمته عام 375م على يد القائد الروماني ثيودوسيوس الأكبر.

وقد تلاشى دورها فعلياً بعد هذه الفترة بستة قرون، أي إلى حين انبعاثها من جديد على يد الفاطميين في القرن العاشر ميلادي، رغم مرور المنطقة ككل بفترات الوجود الوندالي لمدة قرن تقريباً بين 429م و533م، ثم بعدها البيزنطي والإسلامي، وهو التلاشي الذي يجعل الباحث يتساءل عن الأسباب الكامنة وراء ضعف دور المدن الساحلية كلها في هذه الفترة الطويلة وليس إكوزيوم وحدها.

"إكوزيم" الإسلامية...من جزائر بني مزغنة إلى الجزائر الفاطمية

  • في فترة الفتوحات غطَّى حضور القيروان على الحواضر المنتشرة على طول الساحل الجزائري الحالي
    في فترة الفتوحات غطَّى حضور القيروان على الحواضر المنتشرة على طول الساحل الجزائري الحالي

لمدة قرن يفصل ما بين حملات العرب المسلمين على المغرب والأندلس وظهور أولى الدول الإسلامية؛ الرستمية الإباضية والإدريسية الشيعية والأغلبية ذات الولاء العباسي، حدثت أَسْلَمَة واسعة للمنطقة بما يعني اندماجها في التاريخ الإسلامي.

 في فترة الفتوحات غطَّى حضور القيروان كمركز للوجود العربي وعاصمة للمغرب على الحواضر المنتشرة على طول الساحل الجزائري الحالي، ومنها إكوزيوم التي تراجع دورها. لا نجد في تاريخ الحملات العسكرية الإسلامية المتتالية والمعارك المفصلية في تاريخ المغرب سوى المناطق الداخلية في جبال الأوراس وإقليم الزَّاب وغيرها، وهي التي ستُعرف لاحقاً بالمغرب الأوسط (الجزائر الحالية) حيث لعبت قبائله بعد استكمال مسار الأسْلَمَة دوراً حاسماً في التوسّع الإمبراطوري الإسلامي نحو أقصى غرب المغرب وشبه الجزيرة الإيبيرية، إلى أن تأسَّست حواضر مغربية داخلية في تيهرت وفاس اتُخِذت عواصم لكيانات مستقلة عن مركز الإمبراطورية الإسلامية في المشرق، واستفادت من طرق التجارة الصحراوية القائمة أساساً على الذهب والرّق.

جاء أول ظهور للإسم العربي لــ "إكوزيم"، الذي حافظ على المعنى المرتبط بالجزائر الأربع قبالتها، مرتبطاً بقبيلة بربرية هي بني مزغنَّة (أو مزغنَّاي) استقرَّت في المدينة الرومانية، يبدو أنها صنهاجية بحكم أن المدينة تقع في مجالات هذه القبيلة الكبيرة التي تجاورها شرقاً مجالات قبيلة كتامة في المغرب الأوسط.

كان هذا الظهور في كتاب "صورة الأرض" للجغرافي العربي أبي القاسم بن حوقل النصيبي: "وجزائر بني مزغنَّاي مدينة عليها سور على سيف البحر أيضاً، وفيها أسواق كثيرة،..... ولها بادية كبيرة وجبال فيها من البربر كثرة.... ولها جزيرة في البحر على رمية سهم منها تحاذيها فإذا نزل بهم عدو لجأوا إليها فكانوا في منعة وأمن ممن يحذرونه ويخافونه"(6).

ويرى الأكاديمي الجزائري عمارة علاَّوة في هذا الصدد، أن انبعاث المدينة من جديد جاء في سياق فترة تاريخية نجح فيها الأمويون في قرطبة بدءاً من القرن 8م، في تنمية التجارة البحرية في الحوض الغربي من المتوسّط، وتشجيع التبادلات التجارية بين موانئ الأندلس والمغرب، وقد عمد البحّارة الأندلسيون إلى تأسيس مرافئ في المغرب تحوَّلت إلى مدن مغربية عامرة على غرار تنس ووهران (7).

نجحت الثورة الفاطمية بقيادة كتامة في إسقاط الحكم الأغلبي وكانت هذه القبيلة حليفة لصنهاجة، تحاذيها في مجالاتها في المغرب الأوسط وتقاسمها المشتركات الثقافية واللغوية والمعاشية

في بداية القرن العاشر ميلادي نجحت الثورة الفاطمية ذات الإيديولوجية المهدوية، بقيادة قبيلة كتامة في إسقاط الحكم الأغلبي الموالي للعباسيين، وكانت هذه القبيلة حليفة لصنهاجة، تحاذيها في مجالاتها في المغرب الأوسط وتقاسمها المشتركات الثقافية واللغوية والمعاشية. لذا كان من الطبيعي أن تعتنق صنهاجة أيضاً الدعوة الفاطمية، وإن لم يكن بنفس درجة الحدّة العقائدية لكتامة، فلعبت القبيلة أدواراً عسكريةً حاسمةً في تاريخ الإمبراطورية الفاطمية في مرحلتها المغربية، إلى جانب الكتاميين في الكثير من المعارك كان أخطرها القضاء على أعنف ثورة خارجية انطلقت من جبال الأوراس في شرق الجزائر الحالية بقيادة مُخلَّد بن كداد اليفرني المعروف بــ "صاحب الحمار". ثورة كادت أن تنهي الحُلم الإمبراطوري الفاطمي في مهده، لكن صنهاجة استفردت بالدور الأساس في خدمة المشروع الفاطمي في المغرب، بينما حملت حليفتها كتامة أعباء المشروع في المشرق بعد القرار التاريخي الذي اتخذه الخليفة الفاطمي المعزّ لدين الله بالانتقال إلى مصر.

عيَّن الخليفة الفاطمي المنصور القائد الصنهاجي زيري بن منَّاد والياً على أفريقيا والمغرب الأوسط وهي ما يقابل حالياً تونس والجزائر، وقد شيَّد مدناً عديدة على مجالات قبيلته في وسط المغرب الأوسط في الجزائر الحالية. ازدهرت هذه المدن على خطوط التجارة بين تونس في شرق المغرب والمغرب الأقصى كأشير التي اتخذها عاصمة له. وأمر إبنه بُلكين (تُنطق بولوغين أو بُلڨين) ببناء مدن مليانة والمدية وإعادة بناء مدينة الجزائر (8) لتتحوَّل إلى مرفأ بحري للعاصمة الداخلية أشير، التي أصبحت  بعد وفاة زيري بن مناد وتولِّي إبنه بُلكين الحكم عاصمة لكيان مُوحَّد وقوي تمكَّن في فترة من الفترات من توحيد أجزاء واسعة من بلاد المغرب تحت سلطته في ظل الراية الفاطمية. ابتداءً من هذه الفترة أضحت المدينة تُسمَّى الجزائر من غير إشارة إلى قبيلة بني مزغنَّة.

لكن انقساماً دموياً حصل في القرن 11م بين فرعين من العائلة الزيرية نتج منه ظهور كيانين. كانت مدينة الجزائر من نصيب الحمَّاديين الذين اتخذوا من بجاية الساحلية عاصمة لهم وقد  أُقيمت في مجالات قبيلة كتامة، وقد عرفت الجزائر في هذه الفترة، مقارنةً بباقي المدن المغربية، ازدهاراً اقتصادياً واستقراراً سياسياً، بسبب موقعها على الطريق التجاري البحري بين موانئ الأندلس خصوصاً ألمرية، ثم مدينة الإسكندية في مصر، والبري بين المغرب والمشرق.

رافق هذا الانقسام انقلاب تدريجي في الولاء السياسي كما العقائدي على الإمبراطورية الفاطمية كان تجسيده هو الارتباط الرمزي من جديد بالإمبراطورية العباسية في بغداد، في هذا القرن أيضاً تدفَّقت إلى المنطقة قبائل عربية بدوية هلالية وسُلَيْمِية ومَعْقَلِية كان لها دور بارز في التحولات الديموغرافية والثقافية في البلاد.  

جزائر المُوَحِّدِين.. وما بعد المُوَحِّدِين

  • صورة من المدينة القديمة للجزائر
    صورة من المدينة القديمة للجزائر

عبَّرت القطيعة التي أحدثها الصنهاجيون مع الفاطميين بفرعيهم الحمَّادي في المغرب الأوسط (الجزائر) والزيري في أفريقيا (تونس)، امتداداً لتيار سُنيّ واسع مضاد للدعوة الشيعية الإسماعيلية الفاطمية في المشرق. لكن عُنْفوان هذا التيار تجسَّد فعلياً في "حركة المرابطين" التي انبعثت في هذا السياق وسط قبائل صنهاجة في أعماق الصحراء في موريتانيا الحالية، أو صنهاجة اللثام كما تُسمِّيها بعض المصادر نسبة للثام الذي يُغطِّي به رجالها وجوههم.

 توسَّعت هذه الحركة التي اتَّخذت من العقيدة السلفية إيديولوجيا لها، على عكس التيارات السنّية العباسية في المشرق، باتجاه الشمال وساعدتها بلا شك سيطرتها على طرق تجارة الذهب الصحراوية على بناء دولة ممتدة الأطراف ضمَّت لمجالات صنهاجة اللثام التقليدية، المغرب الأقصى والنصف الغربي من المغرب الأوسط ثم الأندلس، لم يدخل المرابطون الصنهاجيون في صدام كبير مع الحمَّاديين الصنهاجيين، رغم اقتطاعهم لأجزاء من دولتهم، التي كانت منها مدينة الجزائر في سنة 1096م والتي لا يزال مسجدها الجامع المرابطي يشهد على هذه الفترة (9).

لم يطل مقام المرابطين في المدينة. إذ سرعان ما استرجعها الحمَّاديون من جديد. غير بعيد عن هذه الفترة، أي في العقدين الأولين للقرن 12م شهد المغرب الأوسط حدثاً مهماً قلب تاريخ المغرب كله رأساً على عقب، عندما التقى شابٌ من قبيلة بني ڨومي البربرية الزناتية المستقرة في جبال ترارة في ضواحي تلمسان إحدى عواصم المغرب الأوسط التاريخية إسمه عبد المؤمن بن علي، بفقيه من سوس في ضواحي مراكش في المغرب الأقصى إسمه محمد إبن تومرت. كان ذلك اللقاء في ضواحي عاصمة المغرب الأوسط الحمَّادي في بلدة ملاَّلة (وادي غير حالياً في ولاية بجاية)، حيث أقام إبن تومرت حلقة درس جمع حوله فيها تلاميذه وأتباعه.

صاغ إبن تومرت مشروعاً فكرياً اعتمدت أسسه أيضاً على إيديولوجيا مهدوية، وعلى مبادئ هي عملياً خليط من التشيع والاعتزال والأشعرية. كان ذلك اللقاء هو نواة الثورة المُوحِّدية الكبرى التي حوَّلت المشروع المهدوي التومرتي إلى أعظم إمبراطورية عرفها تاريخ المنطقة تَوحَّد فيها المغرب والأندلس أو ما يُسمَّى الغرب الإسلامي تحت راية المهدي إبن تومرت المُوحِّدي، وتحت حكم عبد المؤمن إبن علي وأبنائه وأحفاده من بعده. انطلاقاً من مدينة مراكش التي اتَّخذوها عاصمة لهم، إمبراطورية وخلافة مستقلة سياسياً وعقائدياً عن مركز الخلافة في المشرق عرفت قدراً كبيراً من الحضارة والقوة، كانت مدينة الجزائر واحدة من المدن الساحلية للإمبراطورية منذ أن دخلها المُوَحِّدُون بقيادة عبد المؤمن بن علي سنة 1151م، وقد عُرفت في هذا العهد أنها مثَّلت مُنطلقاً لسحق الثورات المسلحة المضادة للمُوَحِّدين في المغرب الأوسط وأفريقيا (10).

بعد التراجع التدريجي للقوة المُوَحِّدية ابتداءً من هزيمتها العسكرية الساحقة في معركة حصن العقاب في 1212م في الأندس في مقاطعة جيان في إسبانيا الحالية، وصولاً إلى السقوط النهائي في 1269م، اقتسمت ثلاث سلالات بربرية التركة المُوَحِّدِية: الحفصية من مصمودة وهي من نفس قبيلة المهدي بن تومرت اتَّخذوا من تونس عاصمة لهم، واثنتين زناتيتين مُقاتلتين كانتا تتنقَّلان كغيرهما من القبائل الزناتية في المغرب الأوسط ما بين الزَّاب في جنوب جبال الأوراس الحالية وسفوح جبال الأطلس الصحرواي، هما بنو عبد الواد الزيانيون الذين أسَّسوا كياناً لهم في المغرب الأوسط واتَّخذوا من تلمسان عاصمة لهم، وأبناء عمومتهم بنو مرين الذين استقلُّوا بالمغرب الأقصى وجعلوا من فاس عاصمة لهم.

وفيما حاول كل من الحفصيين والمرينيين من خلال حروب طاحنة، توحيد المغرب والسيطرة على كل الإرث المُوَحِّدي، لم يكن طموح الزِّيانيين، بسبب الواقع الجغرافي وأسباب أخرى، يتعدَّى الحفاظ على وجودهم، أو في الحد الأقصى محاولة استرجاع بجاية التي يمكن اعتبارها محاولةً لتوحيد المغرب الأوسط من خلال السيطرة على عاصمته القديمة، حتى وإن نفى بعض الباحثين هذا الاعتبار، كالأكاديمي الفرنسي دومينيك فالريان، الذي أرجع طموح الزيانيين للسيطرة على بجاية لضرورات براغماتية ورضوخاً لحقائق إستراتيجية في تلك الفترة (11). لكن مع ذلك يُسجِّل لنا التاريخ نجاح الملك الزِّياني أبو تاشفين(1318-1337م) في السيطرة على تونس عاصمة الحفصيين، الذين تحالفوا في ما بعد مع المرينيين في فاس لصد الزيانيين وإرجاع ملكهم. 

كانت مدينة الجزائر في فترات حروب السيطرة هذه تتأرجح بين حكم الحفصيين والمرينيين وبين موقعها الطبيعي كمدينة زيانية، إلى أن تمكَّنت قبيلة عربية مَعْقَلية، كانت قد استوطنت المنطقة ابتداءً من سهول متيجة الخصبة، هي قبيلة الثعالبة من حكم المدينة مُؤَسِسَةً لدولة-مدينة، ومُكرِّسَةً الوضع الحقيقي لمغرب ما بعد المُوَحِّدين الذي تميَّز بالتفتّت والانقسام والضعف وغياب المشاريع التوحيدية، إضافةً إلى الركود الاقتصادي الكبير الذي عرفه المغرب ككل بدءاً من القرن 14م بسبب انزياح طرق تجارة الذهب عن المغرب، وعلى رأسه المغرب الأوسط الذي أفقده وظيفة الوسيط بين المغرب وأوروبا، وهي الوظيفة التي لطالما أنعشت التجارة والحرف في مدنه كتلمسان وبجاية والجزائر، فأفل نجمها وتحوَّلَّت في فترة ما بعد المُوحِّدِين إلى مدن هامشية، خصوصاً بعد أن تمكَّن البرتغاليون من فتح طرق بحرية عبر المحيط الأطلسي تمكَّنوا من خلالها من الوصول إلى منابع الذهب من خلال سواحل أفريقيا الغربية والتي أدَّت ليس إلى تراجع المدن المغربية الساحلية أمام احتكار أوروبي قاتل للتجارة في غرب المتوسّط فحسب، بل وإلى خراب المدن الداخلية التي تقع على طرق التجارة الصحراوية كسجلماسة .  

تشكُّل الكيانية الجزائرية: مدينة الجزائر.. عاصمة

  • موقع صخرة الجزائر  penon d'ALGER
    موقع صخرة الجزائر penon d'ALGER

أصبح الإسبان بعد تمكُّنهم من إسقاط إمارة غرناطة، وهي آخر إمارة إسلامية في الأندلس، على أبواب شمال أفريقيا، وأضحى مضيق جبل طارق يمثل الحدود الجنوبية للقُوّة الإسبانية الصاعدة التي استكملت بناء كَيَانِيَتَها مع جارتها البرتغال، فاتجهت في القرنين 15 و16م نحو تنفيذ مشاريع إمبراطورية توسُّعية اتخذت الصبغة الكاثوليكية المتعصّبة. هدفت هذه المشاريع إلى ملاحقة المسلمين الأندلسيين الفارِّين وإلى السيطرة على الموانئ والمدن المغربية الواحدة تلو الأخرى، حيث سقطت مدينة مليلة سنة 1497م (في شمال المغرب الأقصى وهي لا تزال محتلة إلى الآن)، وبعدها بثماني سنوات سقط ميناء المرسى الكبير ثم وهران في 1509م، وقبلها بسنة سيطروا على شبه الجزيرة الصخرية باديس (بالقرب من مدينة سبتة في شمال المغرب الأقصى المحتلة إلى الآن) والتي يسميها الإسبان Peñón de Vélez de la Gomera.

في السنتين المواليتين أسقطوا بجاية وطرابلس في ليبيا وكانوا على وشك السيطرة على جزيرة جربة في تونس. أمام هذه الانتصارات العسكرية الإسبانية لم تكن مدينة الجزائر لتنجو من نفس المصير، فاختار حكامها الاستسلام من خلال اتفاق مذل كان أبرز مظاهره تشييد الإسبان لحصن عسكري في الجزائر المقابلة للمدينة التي أعطتها إسمها، والتي يسميها الإسبان  Le Peñon d'Alger، وكذلك استسلمت مدن ساحلية أخرى كمستغانم وشرشال، وارتضى آخر الحكام الزيانيين في تلمسان لنفسه أن يكون تابعاً لفرناندو الكاثوليكي (12).

في هذه الأثناء ظهر الأخوة بربروس ليملأوا الفراغ في المغرب وغرب المتوسّط، فجنَّدوا القبائل تحت رايتهم في معارك شرسة لصدّ العدوان الإسباني. بعد أن سقط فيها عروج وإسحاق بربروس في تلمسان وقلعة بني راشد، حمل خير الدين بربروس المسؤولية فاستثمر الشرعية الجهادية التي اكتسبها ورسّخها بالتحالف مع أقطاب الصوفية. بعد سقوط تلمسان وآخر سلالة حاكمة للمغرب الأوسط لم يتَّجه خير الدين إلى تحرير الثغور فحسب، بل إلى تأسيس كيان مركزي اتخذ من مدينة الجزائر عاصمة له، وعمَّم تسمية المدينة على كل هذا الكيان فكان فعلياً التأسيس الحديث للجزائر الحالية.

في سنة 1529 سيطر بربروس على الحصن الإسباني الذي أقاموه على الجزائر الصخرية التي أعطت تاريخياً اسمها للمدينة منذ العهد الفينيقي أو "الدْزَاير" جمع "دزيرة" باللسان الجزائري الدارج (13)، كانت السيطرة على هذا الحصن عاملاً حاسماً، يضاف إلى عامل الموقع الجغرافي لمرفأ المدينة المُحصَّن الذي يمنحه القدرة على مراقبة كل الطرق البحرية الكبرى في غرب البحر المتوسّط.

تشكَّلت "إيالة الجزائر" لتتصدَّى للطموحات الإسبانية في المغرب وتكسر الاحتكار الأوروبي للتجارة في غرب المتوسّط

الخصائص الجغرافية لمدينة الجزائر وعلاقتها بتاريخها منذ تأسيسها في العهد الفينيقي إلى العصر الحدي، تُجسِّد نظرية فرناند بروديل الثورية في علم التاريخ حول العلاقة العميقة بين الزمن والمجال، وعلى تعددية الزمن في قراءة الواقع التاريخي. فمفهوم الزمن أو الأمد الطويل الذي يوافق تاريخاً بنيوياً ويمتد قروناً طويلة، هو تاريخ بنيات جغرافية واقتصادية واجتماعية بطيئة التطوّر حتى تتحوَّل إلى عناصر ثابتة على مدى قرون يكون الإنسان فيها أسير مناخات ونباتات وزراعات في سياق توازن بطيء البناء.

هكذا تُفهم، بحسب بروديل، استمرارية الحياة البحرية في بعض المفاصل الساحلية وكذا ديمومة مواقع المدن واستمرارية الطرق والتنقلات، والثبات العجيب للإطار الجغرافي للحضارات. حلَّل بروديل من خلال هذه النظرية الوحدات الجغرافية المختلفة المُكَوِّنة للمجال المتوسّطي في مستوياتها البشرية وأنماط معاشها، ومنها البحار بموانئها ورياحها وإيقاعاتها الملاحية، الجزائر كمحطات للبحارّة وبؤر للقرصنة وملاجئ للمهاجرين، الصحارى كوجه آخر للبحر المتوسّط وحركتها القائمة على القوافل الحاملة للذهب، الطرق البرية والبحرية وبنيات المدن الديموغرافية...إلخ (14).

ظهر الأخوة بربروس ليملأوا الفراغ في المغرب وغرب المتوسّط، فجنَّدوا القبائل تحت رايتهم في معارك شرسة لصدّ العدوان الإسباني

في هذا السياق التاريخي إذن تشكَّلت "إيالة الجزائر" التي تصدَّت للطموحات الإسبانية في المغرب من جهة، ومن جهة أخرى كسرت الاحتكار الأوروبي للتجارة في غرب المتوسّط من خلال اعتمادها على القرصنة التي أضحت "مؤسّسة" تدير الاقتصاد الجزائري، على حد تعبير المؤرّخ الأميركي وليام سبنسر في كتابه «الجزائر في عهد رِيّاس البحر».

  • الأميرالية التي بنيت على فوق الجزائر الصخرية التي أخذت المدينة اسمها منها
    الأميرالية التي بنيت فوق الجزائر الصخرية التي أخذت المدينة اسمها منها

يرى بروديل أن الحملات الإسبانية التي لم تتوقف على المدن المغربية؛ شرشال في 1530م وبونة (عنًّابة الحالية) وتلمسان وتونس وحلق الوادي في 1535م إلى  طرابلس والمهدية، كانت مُوجَّهة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ضد النظام الجديد في الجزائر الذي شكَّل ندّاً جادّاً للطموحات الإمبراطورية الإسبانية. هكذا تحوَّلت مدينة الجزائر نفسها إلى هدف مشروع للحملات الإسبانية - الأوروبية بعدها، كان أهمها حملة شارلكان سنة1541م التي تحطَّمت على سواحلها واستحقت بعدها تسمية "المحروسة بالله" التي لا تزال ترتبط في الثقافة الشعبية المُتَوَارَثَة بكرامات وأدعية متصوّفة المدينة، وحملة 1775 م بقيادة أليخاندرو أوريلي التي أنزلت في ضواحيها (الحرَّاش) عشرين ألف جندي هزمهم الجيش الجزائري المُكَوَّن في غالبيته آنذاك من قبيلتي فْلِيتَة العربية الهلالية وفْلِيسَة البربرية الكتامية، لم تتوقف أيضاً الحملات الإنكليزية والفرنسية والهولندية والدانماركية خاصة في القرن 17م بين سنوات 1620و1688م، وفي القرن 18م إلى غاية القرن19م، حيث بدأ مسار تراجع القوة البحرية الجزائرية.

الخصائص الجغرافية لمدينة الجزائر وعلاقتها بتاريخها منذ تأسيسها في العهد الفينيقي إلى العصر الحديث، تُجسِّد نظرية بروديل في علم التاريخ حول العلاقة العميقة بين الزمن والمجال، وعلى تعددية الزمن في قراءة الواقع التاريخي

في العام 1830م نجحت حملة فرنسية بإنزال قواتها في الجزائر، ولم يكن الأداء العسكري ولا حجم تعبئة القبائل الجزائرية بنفس المستوى الذي تصدوا به للإنزالات السابقة فسقطت مدينة الجزائر، لتدخل المدينة والإيالة كلها في المرحلة الكولونيالية.

الجزائر الكولونيالية

  • استهدفت فرنسا كل ما يرمز لوجود
    استهدفت فرنسا كل ما يرمز لوجود "الدولة" ما قبل الاستعمار (Getty)

في العقود الأولى للاحتلال الفرنسي الذي أرادوه من أول الأمر إحلالياً استيطانياً من جهة، وتدميرياً للشخصية المعنوية لكيان وقف في وجه الطموحات التوسّعية الأوروبية لأكثر من ثلاثة قرون من جهة أخرى، بدأت فرنسا بعمليات هدم واسعة استهدفت أولاً الإقامات والقصور ولكل ما يرمز لوجود "الدولة" ما قبل 1830م.

فعلت ذلك فرنسا من أجل ترسيخ  النظرية الكولونيالية المعروفة التي تهدف إلى نفي أي "وجود دَوْلَتي" سابق للاستعمار، وتشييد مكانها ساحات عمومية أو مبان عامة عسكرية أو مدنية، ذات طابع باريسي هوسماني، أو أندلسي حديث (نيو-موريسكي).

قامت فرنسا بعمليات هدم واسعة للأبنية والقصور وكل ما يرمز لوجود "الدولة"، بغية ترسيخ النظرية الكولونيالية التي تهدف إلى نفي أي "وجود دَوْلَتي" سابق للاستعمار

كانت باب الواد وباب عزون بالإضافة إلى الواجهة البحرية والميناء من أولى المناطق التي استهدفها هذا الهدم الممنهج، الذي سمح للمدينة الكولونيالية الجديدة التي استقبلت المستوطنين من فرنسا ومن باقي الدول الأوروبية، بالتوسّع على حساب أسواق وأسوار المدينة القديمة التي هُمِّشت وتراجعت مساحتها، وقُضي على حرفها وصناعتها التقليدية. كما صُودرت الأراضي الزراعية لسكانها في ضواحيها القريبة، فخلق الاستعمار الفرنسي عشية بداية مشروعه الاستيطاني تحوّلات ديموغرافية كبيرة مثَّلت فعلياً النواة الأولى لفصل عنصري حاد بين سكان المدينة المسلمين، بعد أن منح لليهود الجنسية الفرنسية وبين الوافدين الأوروبيين.

يؤكّد الكثير من الباحثين أن الاستعمار الفرنسي كان بإمكانه أن يبني مدينةً أوروبيةً جديدة في مناطق قريبة أكثر ملائمة بدل بنائها على أنقاض المدينة القديمة بشكل سلّم مدرج(15)، لكن ذلك لم يكن يفي بحاجاته لتكريس استعمار استيطاني ينسف ما هو موجود ويحل محله. 

أضحت مدينة الجزائر الكولونيالية عاصمةً للجزائر الفرنسية، توجد فيها مؤسّساتها الاستعمارية المركزية، ومن مينائها يتجسَّد اقتصاد تابع في خدمة المركز (المتروبول)، فمنه تُنقل ثروات البلاد من معادن ومزروعات ومواش، ومن خلاله تصل المواد الصناعية لتُوزَّع على أسواق البلاد.     

الجزائر مكة الثوار

  • صورة لجزائريات خلال حرب التحرير
    جزائريات خلال حرب التحرير

بعد استنفاد كل أساليب المقاومة الشعبية في القرن 19م والتي كانت مدينة الجزائر جزءاً منها، ساهمت المدينة في إنتاج أو استقبال طلائع النخب التي ساهمت في بروز الحركة الوطنية منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى وصولاً إلى الثورة الكبرى في 1954م التي نسفت هذا المشروع الاستيطاني واقتلعته من جذوره.

وعلى الرغم من الطابع الريفي لهذه الثورة، إلا أن قيادتها نقلت في العام 1957م المعركة إلى قلب عاصمة "الجزائر الفرنسية" مستهدفةً المصالح الحيوية للكتلة الاستيطانية الأوروبية في البلاد، في ما يُعرف بــ "معركة الجزائر"، التي وإن انتهت بتفكيك شبكة الخلايا الثورية التي نفَّذتها، إلا أنها أرجعت المدينة في عزِّ  حرب التحرير إلى موقعها الطبيعي كمدينة مقاومة استحقت أن يُسمِّيها المناضل الأفريقي أميلكار كابرال بعد ذلك بسنوات، "مكة الثوار".

الهوامش

(1)Le Glay Marcel. A la recherche d'Icosium. In: Antiquités africaines, 2,1968. p8.

 (2) Pierre Cintas Fouilles puniques à Tipasa, R. Af., t. 92, 1948, p. 271.

(3) Cantineau Joseph, Leschi Louis. Monnaies puniques d'Alger. In: Comptes rendus des séances de l'Académie des Inscriptions et Belles-Lettres, 85ᵉ année, N. 4, 1941. p. 263-272.

(4) يتعلق الأمر بكتاب ستيفان ڨزال  Stéphane Gsell الضخم :التاريخ القديم لشمال إفريقيا Histoire   ancienne de l'Afrique du Nord

5() Le Glay Marcel. A la recherche d'Icosium. In: Antiquités africaines, 2,1968. p14.

(6) إبن حوقل،  صورة الأرض، بيروت، منشورات دار مكتبة الحياة، 1992، ص. 77-78.

(7)Allaoua, Amara, « L’animation de la façade maritime du Maghreb central (VIII- XIIe siècle », Revue des Lettres et sciences humaines, 6, 2005, p. 10-11. 

(8) إبن خلدون، العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، بيروت، مؤسّسة جمال للطباعة والنشر، ج 6، ص 154.

 (9) Bourouiba, Rachid, Les inscriptions commémoratives des mosquées d’Algérie, Alger, Office des publications universitaires, 1984, p. 92.

 (10) إبن أبي زرع الفاسي، الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، نشر عبد الوهاب بن منصور، الرباط، المطبعة الملكية، 1999، ص. 305. من مقال "مدينة الجزائر في العصر الوسيط " لعلاوة عمارة وزينب موساوي على الرابط الالكتروني : https://journals.openedition.org/insaniyat/2110

(11) Dominique Valérian «  Le conflit entre Bougie et Tlemcen pour le contrôle du Maghreb Central » : https://www.academia.edu/3640967, 2011, Les échanges intellectuels Béjaia-Tlemcen, dir. Djamil Aïssani et Mohammed Djehiche p17-18.  

(12)Ferdinad Braudel « Les Espagnols et la Berbèrie De 1492 à 1577», Belles-Lettres, Algérie, In la Revue Africaine N°69(1928), p 45, N° d’édition : 02/2013.

(13)Adrien Berbrugger « Le pègnon d’Alger, ou les origines du Gouvernement Turc en Algérie », Belles-Lettres, Alger-Février 1860, p 128-129, N° d’édition : 06/2013. 

(14)Fernand Braudel « La méditerranée et le monde méditerranéen à l’époque de philipe II (1558-1598), Paris.A.Colin 1949, 2vol, 1986, pp588-628.

(15)Jean Mélia « Le Triste sort des indigènes musulmans d'Algérie », Paris, Mercure de France, 1935, p117.