ماذا تقول لنا المرآة؟
لكثرة ما تعدّ مألوفة بالنسبة إلينا، لا نلتفت إليها، بل إلى صورتنا فقط، إلا أنها آلة معرفية شغلت الإنسان منذ عصور. ماذا تقول لنا المرآة؟
لكثرة ما تعدّ مألوفة بالنسبة إلينا، لا نلتفت إليها، بل إلى صورتنا فقط، ونمضي لنمارس عيشنا ونستغلّ وجودنا الذي قد ننساه في غمرة المسؤوليّات والوظائف، النمطيّة والمألوفة بدورها!
تُعتَبر المرآة آلة معرفية شعر الكثير من الفلاسفة وعلماء النفس وحتى الروائيين والفنّانين بأهميّتها في معرفة الذات وما خلفها من أسرار. ربما نجدها أكثر رمزية لدى فلاسفة الظاهراتية في الظواهر ومعرفة الذات، ولدى التحليليين في اللغة. كما أنه ليس غريباً أن نراها في غاية الأهميّة لدى الغنوصيّة [1] أو أهل العرفان. أما نرسيس فلم يفكّر وهو ينظر إلى صورته في الماء بحقيقة الماء وما خلف صورته من حقيقة عظمى. هل يعرف المرء ويدرك أبعد مما يرى ويعقل؟
بعد لحظة التعارف، نمضي غالباً لننظر إلى أنفسنا عشرات المرات خلال اليوم من دون أن نتكبّد عناء البحث عمّا يوجد خلف ضخامة هذا التحدّي الفينومنولوجي[2] والسيميائي. في الواقع تتوقّف عمليّة التأمّل لدينا عند سطح المرآة (المادة). بل لعلّ أقصى ما يذهب إليه تفكيرنا هو التحليل العلمي لعمليّة الانعكاس الذي تقوم به المرآة [3].
الذات والآخر.. ديالكتيكيّة لا تنتهي
هذا "الشيء" أو "الموضوع" العادي جدّاً، نجده من أهمّ المواضيع التي انشغلت بها الفينومنولوجيا واشتغلت عليها، لما يحمله من إحالات إلى وعي الإنسان لوجوده، وبالتالي إلى الفَهْم الأنطولوجي [4] عموماً عبر جدليّة الأصل والانعكاس أو الصورة.
لطالما كان الترابط بين الظواهر الطبيعية والوجود الإنساني موضوع تأمّل الإنسان منذ القِدَم، فالماء كان المرآة الأنقى، ثم كان القمر مرآة لضياء الشمس وتارة للوجوه الجميلة في الأساطير، وكان البخار مرآة ينكسر النور عبره إلى ألوانه السبعة مشكّلاً قوس قزح، مثيراً الدهشة أمام جماليّة تستثير المخيّلة.
لقد أثار اختراع المرآة اهتماماً علمياً خاصاً عند الإغريق، وراحوا إلى التفسيرات الفلسفيّة التي نشأت من فعل النظر في المرآة أو فكرة الانعكاس، أو هذا الخيال العينيّ المتعيّن[5]. ففي محاورة "ألقبيادس"، وفي إطار نظريّته عن الحبّ والإيروس [6]، وظّف أفلاطون هذا النمط من المرايا الإلهيّة، ورأينا المرآة الشمس عند فيلولاوس، ثم المرآة الشمس المصقولة من الذهب عند دانتي، باعتبار أنّ كليهما مرآة كونيّة عاكسة لنور الألوهيّة، الأمر الذي ألهَم الغنوضيّة المسيحيّة لتنهل من هذا النبع الفيّاض الكثير من تأمّلاتها العرفانيّة، والتي تسرّبت بشكل ملحوظ بدورها، إلى التصوّف الإسلامي الإشراقي على وجه الخصوص [7].
لم تقتصر أهميّة المرآة على التحليل النفسي للوَعي عند الإنسان والشعور بالهويّة الذاتيّة كما خلص جاك لاكان في تفسيره لمرحلة المرآة[8]. فبعد البرهة الأولى من تعرّفه على نفسه عبر المرآة، تختلج في نفس الإنسان انطباعات وتساؤلات قد تمرّ عليه مرور الكرام، ويمضي غير مُكترث لما خلف صورته التي قد يقف عندها من دون تعمّق، وقد تسلبه عمراً كاملاً وهو يحاول فَهْم هذا الوجود الذي يشعر به، لكن لا يراه إلا عبر هذه الوسيلة.
اللقاء مع "الآخر" أو "المرآة" ينطوي على خوف ونشوة معاً؛ خوف لأن الوعي الذاتي يجد نفسه مجسّداً في مكان آخر، رغم أن اللقاء نفسه هو مصدر انتشاء؛ أمر يعبّر عنه هيغل بجدليّة الحاجة والإشباع.
هنا تتمظهر مرحلة المرآة مكاناً يصبح فيه الشخص مغترباً عن نفسه. أمام هذه الديالكتيكيّة [9] التي لا تنتهي بين الذات وكل "آخر" قد يساعد على فَهْم هذه الذات لنفسها. جدليّة حلّلها هيغل بشكلها الفينومنولوجي، حيث تؤدّي المرآة - رمزية الآخر - دور المكان الذي تتمظهر فيه الروح، ويتحصّل عبره الوعي الذاتي الانعكاسي [10]؛ هذا الوعي الذي يدرك حينئذ فقط، أنّه مكوّن لهذا العالم.
هذا الإقرار أو الاعتراف المرئي العينيّ الذي يقدّمه الآخر (أو الصورة في حال المرآة) للذات، يشكّل مرحلة أوليّة من الوعي الذاتي ومعرفة الذات لنفسها [11]. بالطبع، هنا تحليل عيني لوظيفة المرآة، لكنه ينطبق على رمزية المرآة في ذات الآخر، حيث إنّ العلاقة بين المرآة "الشيء" ومحمولاتها أو ما تحمله من رمزيّة، هي علاقة فيها الكثير من الاستبطان والاستلهام و"تشييء" الأفكار من أجل فَهْمها فينومنولوجيّاً، إذا صحّ التعبير، تماماً مثلما قدّم هيغل في فينومنولوجيا الروح أبطاله بصيغة مفاهيم مجرّدة مثل الوعي، الوعي الذاتي، الانعكاسيّة، اللغة... حيث تتفاعل هذه المفاهيم في صيرورة لا نهائيّة [12].
يرى باشلار أنّ المرآة هي اللعبة الحربيّة للحبّ الهجوميّ، أو ما يعرف بالنرجسيّة الفاعلة التي تناساها علم النفس التقليدي، وإنّ هناك حاجة ماسّة إلى تطوير ما يسمّى بـــ "علم نفس المرآة".
يقول باشلار: "أكابد الاكتئاب نفسه من جديد أمام المياه الساكنة، وهو اكتئاب خاص كلون رامة في غابة رطبة، اكتئاب من دون ضيق، اكتئاب حالم، بطيء، هادئ. غالباً ما يغدو تفصيل تافه، في نظري، رمزاً نفسياً جوهرياً [13]".
في مسعاه لدراسة الخيال والمادّة، سَبَرَ باشلار أغوار الخيال من خلال المادّة وعبرها، موظّفاً هذه العلاقة الظاهراتيّة ما بينهما. برأي باشلار، ثمّة أنواع من الوعي تنبثق في لحظة التعرّف إلى انطباعات استثنائيّة آنيّة، مثل رائحة النعناع المائي الذي ينشر روح الماء بعبَقه، كما يقول [14].
في الواقع يذهب باشلار أبعد من الصوَر المائيّة، ويرى في أعماق الماء أكثر من مرآة. فالوعي بذاته عنده لا ينبثق ويتولّد من مجرّد هذه اللحظة، أي لحظة التعرّف أو لحظة المرآة، بل إنّ كل الحواس يتمّ إعمالها في عمليّة استكناه الماء، والإبحار في مرموزاتها غير الماديّة، ما يفضي إلى مشاعر عميقة من الألفة والحميميّة التي يرى باشلار أنها ثمرة هذه العلاقة بين المادّة والخيال الإنساني.
يؤكّد باشلار أنّ على الشاعر إذا أراد أن يقدّم تجربته الشعريّة كاملة، أن يبدأ مع المرآة وينتهي مع الينبوع، حيث التجربة الشعرية ينبغي أن ترتهن بالتجربة الحلميّة.
قد يكون ممكناً أن يقيم الباحث مقارنة بين قطرة الماء وحبّة البلّور. ورغم أنّ في القطرة أنواعاً زاهية من الوعي تتخطّى البُعد البصري المنجمد من عمليّة تكوّن الوعي الانعكاسي، إلى أبعاد لامتناهية يمكن القول إنها سيّالة بصورة خلاّقة، بَيْدَ أنّنا نرى أنّ الزجاج المكسور ملهم بالقدر ذاته بالنسبة إلى باشلار. ونرى الانعكاسات في حال البلّور أكثر حميميّة بالنسبة إلى حاسّة النظر.
يقول بول إيلوار في قصيدته "مرآة الزمن الحاضر":
يخفي حقيقة النهار
ويري الإنسان الصوَر المتحرّرة
من المظهر
ويخطف من الإنسان احتمال الانبهار
إنه قاس مثل الحجر،
ذلك الحجر المشوّه الشكل
حجر الحركة، وانعكاس لصورة قويّة
وبريقه مثل كل الدروع [15]
إنّ الماء بالنسبة إلى باشلار ليس مادّة للحلم فحسب، وإنما للحياة برمّتها كذلك. فهو بذلك رمز كيانيّ لا فرق بين سطحه وعمقه وجوديّاً [16]. فقوّة الماء الشعريّة تظهر فجأة في أشعار الانعكاسات والمرآة، فنرى الماء ثقيلاً، متعمّقاً، بل متجسّداً [17].
ويرى باشلار أنّ المرآة هي اللعبة الحربيّة للحبّ الهجوميّ، أو ما يعرف بالنرجسيّة الفاعلة التي تناساها علم النفس التقليدي، وإنّ هناك حاجة ماسّة إلى تطوير ما يسمّى بـــ "علم نفس المرآة"[18]. غير أنّ ثمة فائدة نفسيّة لمرآة الماء لا تتوافر في مرآة الزجاج والمعدن، حيث إنّنا إذا تخيّلنا نرسيس وهو يتأمّل نفسه أمام مرآة الزجاج، فإنه سيصطدم بهذا الحاجز بينه وبين ذاته المنعكسة في المرآة. بينما مياه الينبوع على سبيل المثال، هي طريق مفتوحة أمامه لاستحواذ ذاته، ما يتيح له فرصة للخيال المفتوح. ويؤكّد باشلار إنّ على الشاعر إذا أراد أن يقدّم تجربته الشعريّة كاملة، أن يبدأ مع المرآة وينتهي مع الينبوع، حيث التجربة الشعرية ينبغي أن ترتهن بالتجربة الحلميّة[19]. ألم يقلها مالارميه:
يا مرآة
يا ماء برّدك السأم في إطارك الجامد
كم مرّة وطيلة ساعات مكدّراً
من الأحلام، وباحثاً عن ذكرياتي التي هي
كمثل أوراق تحت جليدك في الحفرة العميقة
ظهرت فيك كظلّ بعيد،
لكن، يا للهول! خلال مساءات، في ينبوعك القاسي
من حلمي المبعثر، عرفت العري! [20]
ثم نرى بأنّ الغابة كلها والسماء بأكملها تتأمّل صورتها العظيمة في الينبوع وليس نرسيس وحده [21]. إنّ هذه الصورة التي يحيلنا إليها باشلار مستشهداً بمقولة جواشيمغاسكيه الذي يقول إن: "العالم هو نرجس شاسع مستغرق في التفكير بذاته"، تفتح ميتافيزيقا للخيال دافقة كثيفة الصوَر، يتصوّر المرء فيها أنّ البحر وجِدَ ليكون مرآة للكون بأسره وللمجرّات ولكل ما في الوجود من موجودات. ألا يعكس البحر لون السماء وأحوالها؟
هذا ما سمّاه باشلار بالنرجسيّة الكونيّة؛ هذا الحوار اللا منتهي بين الخيال المبدع ومثله الطبيعيّة: "أنا جميل لأنّ الطبيعة جميلة، والطبيعة جميلة لأنني جميل"[22]. هكذا تستحيل الطبيعة مرآة للإنسان، وتمظهراً موضوعياً لفكره المتدفّق ورغباته وروحه.
الكوجيتو الديكارتي.. من "أنا أفكّر" إلى "أنا أرى نفسي (في المرآة)"
إنّ صورة المرء نفسه التي يراها في الماء أو في المرآة، تعدّ هي أول ما يبعث القلق في نفسه، ويطرح لديه تلك التساؤلات الوجودية التي قد يعجز عن صوغها بالشكل المفهوم للآخرين، مثل مَن أكون؟ أو لماذا هذا الجسد هو جسدي؟ لماذا لا أرى نفسي كما أرى الآخرين، وإنما أراها عبر مرآة فقط؟ بمعنى لِمَ حلّت هذه الروح في هذا الجسد من دون غيره؟ وأسئلة كثيرة من هذا القبيل قد تورث قلقاً وأزمة نفسية ما لم يتمّ احتضانها بالتأمّل والتسليم في نهاية المطاف، "يسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربّي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً (القرآن الكريم، الإسراء، الآية: 85)".
إنّ اللقاء مع "الآخر" أو "المرآة" ينطوي على خوف ونشوة معاً؛ خوف لأن الوعي الذاتي يجد نفسه مجسّداً في مكان آخر، رغم أن اللقاء نفسه هو مصدر انتشاء؛ أمر يعبّر عنه هيغل بجدليّة الحاجة والإشباع [24].
لعلّ كوجيتو ديكارت، كان بحاجة إلى هذه الوسيلة الحسّيّة (المرآة)، ليقطع شوطاً كبيراً في منهجه الاستنباطي، مختزلاً الطريق من "الأنا أفكّر" إلى "الأنا أرى نفسي" (في المرآة)، أو "الأنا أعرف نفسي" (في الآخر)، حيث يفضي فعل التجسّد إلى تعيّن الفكرة المجرّدة عن الذات في موضوع خارجي (المرآة أو الآخر).
كل ما يتعلّق بالروح ووجودها قبل وجود الجسد يشكّل أزمة بالنسبة إلى العقل، حيث يقف أمام عجزه وقصوره، وتعدّ المرآة الوسيلة التي تجعل العقل يرى هذا العجز ويتوقّف عن ادّعاءاته بمعرفة الحقائق.
ولا بدّ للتحليل الظاهراتيّ للمرآة من أن يعبر خلال تفكيك هذه الأداة لغوياً وسيميائياً، ما يفسح المجال للدخول إلى المرآة والخروج بحصيلة معرفية محورها "الذات" عموماً. يطرح امبرتو إيكو فكرة صوَر المرآة التي يستحيل أن تسافر. يقول في هذا: "للمرآة خاصيّة فريدة. طالما أنا أنظر إليها، فهي تعطيني في المقابل ملامح وجهي، لكني إن أرسلت المرآة التي نظرت إليها عُمراً إلى حبيبتي، لكي تتذكّر ملامحي دائماً، لن تستطيع أن تراني، بل سترى نفسها في المقابل"[25].
يقدّم إيكو فكرة مُبْتَكَرة فيها الكثير من السحر والدهشة الفلسفيّة، حيث يقارن ما بين صوَر المرآة والكلمات؛ بالضمائر على وجه أدقّ. فالضمير "أنا" يعبّر عني شخصيّاً حين ألفظه أنا. وحين يلفظه الآخر فهو يعبّر عنه هو. رغم ذلك فالضمير إذا استخدم في رسالة ألقيت في البحر، وتلقيّتها أنا فسأدرك أنّ شخصاً "آخر" كتبها، بينما المرآة المرسلة إليّ لن تطلعني على "الآخر" رغم أنه هو الذي أرسلها [26]. هذه المقولة تختزل فكرة استحالة "سفر صوَر المرآة" رغم أنّ المرآة يمكنها أن تسافر مثلها في ذلك مثل أيّ شيء آخر.
بذلك، تبدو صوَر المرآة الحامل الوفيّ للحقيقة المحض، حيث لا يمكن للإنسان أن يكذب من خلال وعبر المرآة، كما يعبّر إيكو في مقاربته حول فلسفة اللغة والسيميولوجيا حيث يفرد للمرايا فصلاً كاملاً في تحليل سيميائيّتها ودلالاتها الرمزية والمعرفية.
تصوير لاتحاد العاشق بالمعشوق
استعارة المرآة تبدو إحدى الاستعارات المهمة المتداولة بين فلاسفة الإسلام كذلك في مواضع مختلفة. مثلها مثل استعارة "البحر الموّاج الذي لا يرى منه الناس العوام عادة سوى الأمواج المُتلاطمة ولا يدركون أنها مجرّد صوَر يتّخذها البحر لنفسه. هكذا تكون الأشياء الظاهرية أو الكثرة في الظهور حجاباً لوحدة الحقيقة الأساسيّة [27]. تماماً مثلما كانت الظلال الظاهرة للسجين المقيّد داخل الكهف الأفلاطوني، حيث اعتقدها حقائق فيما هو لم يرها ولم يدرك أن الشمس هي التي طرحت صورتها على شكل ظلّ.
كانت المرآة عند إبن عربي الإطار المرجعي لتأمّلاته، استناداً إلى الحديث "مَن عرف نفسه فقد عرف ربّه". وقد أولى عين القضاة الهمداني، أهميّة خاصة للمرآة، فهو عدّها عبرة عظيمة لأولي الأبصار، فما من عاقل ينظر في المرآة إلا وتعتور عقله إشكالات عظيمة. فهي مرآة العقلاء الذين يرون عجزهم فيها عن إدراك الحقائق [28]. ويقول الهمداني إنّ كل مَن لا يعرف أمراً ويرغب بمعرفته، أمامه طريقان، أحدهما الرجوع إلى قلبه حيث يقول النبي محمّد: "استفت قلبك وإن أفتاك المفتون"، فإنّ كل ما يفتي به القلب ربّانيّ وكل ما يرفضه شيطانيّ.
هذا الاستعداد للمعرفة القلبية وضعه الله في كل الأجساد، من أهل الكفر وأهل الإسلام. لكن المشكلة تكمن عندما يلتبس الأمر علينا ونستفتي نفسنا الأمّارة. أما الطريق الثانية فهي في حال عدم استعداد الشخص لاستفتاء قلبه، فليلجأ إلى قلب غيره ممّن له الأهليّة لذلك، "فاسألوا أهل الذِكر إن كنتم لا تعلمون"، وبذلك يكون قلب الآخر مرآة للإنسان. وفي حديث آخر "المؤمن مرآة المؤمن" [29]. ويعتقد الهمداني بأنّ الشيخ مرآة المريد، يرى الأخير فيه الله، والمريد مرآة الشيخ يرى فيه نفسه [30].
كانت المرآة عند إبن عربي الإطار المرجعي لتأمّلاته، استناداً إلى الحديث "مَن عرف نفسه فقد عرف ربّه".
ويطرح الهمداني المسألة بصيغة مختلفة في مكتوباته، حيث يقول إن كل المدركات تتطلّب شروطاً لرؤيتها، إلى جانب النور والشعاع الذي تتطلّبه رؤية بعض الأشياء على الأرض، فمثلاً رؤية المرء لنفسه تتطلّب منه شرطاً إضافياً هو النظر في المرآة أو ما عبّر عنه بوجود "مرآة تقابل العين" [31].
فكل ما يتعلّق بالروح ووجودها قبل وجود الجسد يشكّل أزمة بالنسبة إلى العقل، حيث يقف أمام عجزه وقصوره، وتعدّ المرآة الوسيلة التي تجعل العقل يرى هذا العجز ويتوقّف عن ادّعاءاته بمعرفة الحقائق الإلهيّة [32].
ونجد أن المرآة لعبت دوراً هاماً في تاريخ الأديان. وهي أداة رمزية أنثوية تقليدية يكمن دورها في استقبال صورة المحبوب. ونرى جلال الدين البلخي المعروف بــ "الرومي" يسرد قصة الضيف الذي حلّ على النبي يوسف جالباً له هدية مرآة، لأنه تجلّي الجمال الإلهي وأراد له أن يرى جماله بنفسه، وهذا يعدّ امتداداً للتيار الأفلاطوني.
يتغنّى البلخي (الرومي) في إحدى رباعيّاته بقوله:"لقد صنعت مرآة جليّة من أجلك؛ وجهها هو القلب وظهرها هو الدنيا، أفلا تعرف الوجه يا صديقي؟ أم أن الظهر يعجبك أكثر؟ بذلك يكون قلب العاشق المثالي مضيئاً كالمرآة المجلوّة، يقبع المحبوب بداخله ويكون أقرب إليه من نفسه".
ومرة أخرى يبدو أن الهمداني أخذ سرّ الانعكاس ورمزية المرآة من أستاذه أحمد الغزالي في "سوانح" التي تعدّ شروحات قصيرة عن الحبّ، حيث يذهب إلى أن المرآة تصوير لاتحاد العاشق بالمعشوق [33].
"المرآة وأبالسة الشعر"... من مالارميه إلى الشيرازي و"الرومي"
لعلّ رمزيّة انعكاس الصورة كانت أكثر أهميّة في الماء من المرآة الجامدة، لما تحمله من عذوبة وإبهام ونقص يستثير رغبة الرائي إلى إكماله وحركة تستفزّه إلى إحالتها ثابتة. من هنا كان اهتمام الشعراء أكثر بالمرآة - الماء، بالنظر إلى انسجامها مع رهافة الإحساس الشعريّ ورقّة خيال الشاعر، فأبدعوا كما لو كانت تلهمهم أبالسة الشعر التي لا تهدأ قبل مخاض المخيال، وميلاد القصيدة. فقد رأى مالارميه المرآة في ماء الينابيع والأنهار، "في الموجة التي تكونها نشوتك العارية"، فيتطرّف في التخيّل قائلاً: "فلنساعد الهيدرا على إفراغ ضبابها [34]".
ومثل باديو الذي قال: "أحبك تعني أنت ينبوع وجودي في هذا العالم، في مياه هذا الينبوع أرى فرحنا وأرى فرحك أولاً". أو مثل أراغون في قصيدته "إلزا أمام المرآة":
تسرّح شعرها الذهبي اللامع، كأنها
تضحّي راضية بذكرياتها
طوال النهار وهي جالسة أمام مرآتها
ولا تزال تحيي ورود اللهب المبدّدة
صامتة كأيّ شخص آخر
قد ضحت راضية بذكرياتها
في أوج محنتنا القاسية
مرآتها السوداء كانت صورة العالم
ومشطها وهو يجعّد نيران هذه الكتلة الحريرية
أضاء أركان ذاكرتي[35]
وضمن هذا التوظيف الجماليّ للحظة الانعكاس المثيرة للقلق والتأمّل، لم يتوان الشعراء الفرس عن استخدام استعارة المرآة في روائعهم الشعرية والفلسفيّة على حدّ سواء. في إحدى قصائده، يقول هوشنك ابتهاج:
مشيت إلى المرآة لأعرف شيئاً عن نفسي
رأيت أن لا شيء في المرآة سواك
ثم يقول:
ما كان أجمل صورته في قلبي
قسيّ القلب كسر مرآتي
تحطّمت المرآة تحت قدمي الحبيب إلى مئة قطعة
لكن، بقيت صورة وجهه في كل قطعة[36]
ويقول مولانا جلال الدين:
جهاتي الستّ، نقش عليها جمالك
يسطع نورك في المرآة إذ صادفت وجهك
تراك المرآة بطولها وعرضها
أنّى لها أن تتّسع لكمالك![37]
أمّا حافظ الشيرازي، فيقول في إحدى غزليّاته:
وجهك مرآة للعناية الإلهية
الحقّ هو هذا ولا رياء في هذا الوجه![38]
وبالعودة إلى التفسير العرفاني للانعكاس، يذهب المفكّر غلام حسين إبراهيمي ديناني إلى أنّ الإنسان هو مرآة الله الكاملة، كما يعبّر حافظ في أبيات كثيرة من غزليّاته متناولاً موضوع المرآة- الإنسان. فبينما تجتمع الكائنات ليعكس كل منها صفة من صفات الله، فإن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعكس كل صفات الله. إذن، فهو مرآة الله التي تبرز جمال الخالق وجلاله على حدّ سواء. وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يرى عينيه ووجهه إلا بواسطة مرآة، كذلك فإنّ الله يرى نفسه بواسطة الإنسان وعبره. ذلك أنّ الخالق لا بدّ له من تمظهر وتجلّ؛ الإنسان الكامل.
ونرى فريد الدين العطّار الذي تزخر أشعاره باستعارة المرآة، يقول:
أنت مرآة جماله
ومرآتك العالم كلّه[39]
إذن، لا عجب من اهتمام شعراء العرفان والفلاسفة الإيرانيين بالمرايا والحديد، حيث ارتبط هذان العنصران بخلق الإنسان بشكل مباشر وهذا ما تورده الأساطير الفارسيّة القديمة، حتى أخذت المرآة معاني جديدة مع رواج الاعتقادات الصوفيّة والمذاهب العرفانيّة.
وبعدما كانت المرآة تحمل معناها الموضوعي، أصبحت مرتبطة بمفاهيم من نوع آخر، مثل قلب العارف، الذي يدلّ جلاء قلبه على تزكية روحه وقربه من الله [40].
الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعكس كل صفات الله. هو مرآة الله التي تبرز جمال الخالق وجلاله على حدّ سواء. وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يرى عينيه ووجهه إلا بواسطة مرآة، كذلك فإنّ الله يرى نفسه بواسطة الإنسان وعبره.
وقد عرّف سقراط المعرفة في كتاب "الجمهوريّة العاشرة"، على أنّها مرآة تعكس العالم الموضوعيّ، وكان أفلاطون ومن بعده أفلوطين الإسكندراني من أوائل الذين عدّوا المرآة استعارة مفاهيميّة تعبّر عن انطباعات الإنسان الواقعيّة وما بعد الواقعيّة عن حقائق العالم [41].
ربما فَهِم الشعراء معنى انعكاس الصورة في المرآة، وفسّرت الظاهراتيّة الأمر وجوديّاً، وعلماء النفس استطاعوا سبر أغوار الوعي من خلال هذه اللحظة، بَيْد أنّ المرآة تبقى حاملة للكثير من الأسرار، ليس بعدد الصوَر فحسب، بل ربما بعدد القطع التي يمكن أن تخلّفها مرآة مكسورة تثير الدهشة بما فيها من انعكاسات زاهية متعدّدة، تماماً مثلما أثارت دهشة غاستون باشلار.
الخيال الأنثَوي المرتبط والمتعلّق بالمرآة – والتي لا تخلو منها حقيبة أنثى - يرتبط بما تولّده هذه "الأداة" من انطباعات أنطولوجيّة وجودية تدغدغ توق المرأة إلى الشعور بالجمال، أو بالوجود من خلال اعتراف الآخر بها.
شيء ما، أشبه بالخيال المنصهر بزوايا البلّور بفعل انكسار ينقسم النور معه إلى ألوان زاهية، فيها الكثير من السحر الملهم؛ ذلك المتخيّل الذي ينبثق في الوعي الإنساني ويقظته عبر المادّة ومن خلال توظيف اللغة، حيث تقوم علاقة وطيدة بين المرئي واللامرئي.
هو عالم الاستعارات في النهاية، وما الخيال سوى مجرّد الاستعارة، كما قال برغسون. هي الاستعارة ما يعطينا تحديداً متعيّناً لانطباعات يصعب التعبير عنها. أما الصورة فهي نتاج الخيال المطلق وتدين له بوجودها الكامل، وهي بدورها تضفي وجوداً علينا [42].
حتى قِطَع المرايا المحطّمة الصغيرة أو مسحوق البلّور البرّاق وكل ما هو لامع من معادن أو سواها من مواد، يبدو أنها قد تحمل إلى نفس الرائي - كل بحسب خياله ورهافة إحساسه بمحيطه - صوَراً لامتناهية منبثقة من لحظة انعكاس الأنوار "الكثيرة" كثرة "القِطَع البلّوريّة" لتولّد بريقاً باهراً يحيل إلى صوَر وخيالات ما وراء التجربة، تتّسم بالسيلان الملازم لتراقص النور عبر زوايا البلّور المُشعّ.
ربما هذا ما يفسّر انبهار الطفلة الأنثى بكرات الكريستال ومساحيق التجميل الليلية البرّاقة والحليّ الذهبية والفضيّة؛ لأنها تعكس الأضواء كلّها (الأنوار الكونيّة) إلى ذاتها، إلى وجودها، ما يجعلها تعي هذا الوجود في عيون الآخرين. قد نذهب إلى القول بذلك، إنّ الخيال الأنثَوي المرتبط والمتعلّق بالمرآة – والتي لا تخلو حقيبة أنثى منها - يرتبط بما تولّده هذه "الأداة" من انطباعات أنطولوجيّة وجودية تدغدغ توقها إلى الشعور بالجمال- أو بالوجود من خلال اعتراف الآخر بها. هذا الأمر يسهم في تهدئة القلق الوجودي والشكّ والتردّد الذي ينتاب الطفلة أو الأنثى بالمعنى الأعمّ، ككائن تجعله رقّته ورهافته أكثر استقبالاً لهذه الرسائل بشكل خاص؛ رسائل الماء والخيال.
ذاك هو جمال الانعكاس الساحر والروحاني الذي لمسناه في الروائع الأدبية من غوته وريلكه، والذي تغنّت به أديبات على امتداد التاريخ، حيث كانت المرآة بالنسبة إلى سليفيا بلاث، عين إله صغير بزوايا أربع [43].
وأيّما كان توجّه الذات، سواء إلى الصورة في المرآة أو ما وراء الصورة، فإنّ الديالكتيكيّة الهيغليّة تتضافر مع الانبهار الوجودي الباشلاري ليشكّل فينومنولوجيا تفضي إلى صدمة أوليّة تسبّبها لحظة التمظهر الأولى عبر بلّورة المرآة (أو عين الآخر)، لتنتهي إلى انبثاق معرفة جديدة للذات، ما بعد لحظة وعي الإنسان بخديعة الصورة، وإدراكه لوجود معرفة ميتافيزيقيّة لا ينتهي السؤال عنها، ولا يتوقّف عند سطح المرآة المبهر.
المرآة؛ هذا الجسم الذي يظهر الأجسام كلّها ليس من حيث جسمانيّته، وإنما يظهرها بفضل شفافيّته. تماماً مثلما تتمظهر في الإنسان صفات الخالق، ليس لماهيّته التي يتشارك بها مع كل الكائنات، بل بفضل وجوده الذي يسبق ماهيّته. هذا الوجود الذي يكتسب شفافيّته من نفس الإنسان وفكره، حيث إنّ كل ما هو شفّاف، قادر على أن يعكس الحقيقة بصدق وأمانة.
مراجع
1. العرفان أو العلوم الباطنيّة (Gnoticism)
2. الفينومنولوجيا أو الظاهراتية أو علم الظواهر، وهي مدرسة في الفلسفة تعتمد على الخبرة الحدسيّة للظواهر، أي ما يمثله الموضوع أو الظاهرة في الوعي.
3. Koukouti, Maria Danae, Malafouris, Lambros, An Anthropological Guide to the Art and Philosophy of Mirror Gazing, P.20
4. الأنطولوجيا، علم الوجود
5. الربيعي، طلال. (2013). مرحلة المرآة لدى لاكان. مجلة الحوار المتمدن.
6. إله الحب والرغبة والجنس في الميثولوجيا اليونانية
7. الربيعي، طلال. (2013). مرحلة المرآة لدى لاكان. مجلة الحوار المتمدن.
8. الجدلية
9. سيّد عيد، محمد. (2017). دروس مستفادة من فلسفة هيغل. مجلة الجديد
10. بتلر، جوديث، الذات تصف نفسها (تر. فلاح رحيم)، التنوير، 2014، ص 7
11. المصدر السابق نفسه، ص 17
12. باشلار، غاستون، الماء والأحلام دراسة عن الخيال والمادّة، مركز دراسات الوحدة العربية، 2007، ص21
13. المصدر السابق نفسه، ص22
14. مختارات من الشعر الفرنسي، (تر. أناهيتا حمو)، دار الينابيع، 2007، ص13
15. باشلار، غاستون، الماء والأحلام دراسة عن الخيال والمادّة (تر. علي نجيب إبراهيم)، المنظمة العربية للترجمة، 2007، ص 10
16. المصدر السابق نفسه، ص41
17. نفسه، ص42
18. نفسه، ص43
19. مالارميه، ستيفان، هيرودياد، 1896
20. باشلار، غاستون، الماء والأحلام دراسة عن الخيال والمادّة (تر. علي نجيب إبراهيم)، المنظمة العربية للترجمة، 2007، ص 47
21. المصدر السابق نفسه، ص47
22. مفهوم "أنا أفكر إذن أنا موجود" الذي كان مبدأ الفيلسوف ديكارت في إثبات الحقائق بالبرهان
23. نفسه، ص20
24. Eco, Umberto, SEMIOTICS AND THE PHILOSOPHY OF LANGUAGE, 1984, P.211
25. Ibid
26. إيزوتسو، توشيهيكو. (2014). آفرينش، وجود وزمان (تر. مهدی سررشته داری)، ص 33-34.
27. الهمداني، عين القضاة. (2019). شكوى الغريب عن الأوطان إلى علماء البلدان ويليه زبدة الحقائق في كشف الدقائق، (تر. عفيف عسيران). منشورات الجمل، ص136.
28. الهمداني, ع. (1962). التمهيدات، (تح. عفيف عسيران)، ص201،202
29. المصدر السابق نفسه، ص223
30. الهمداني، عين القضاة. (1983). نامه های عین القضات همدانی (تر. علي نقي منزوي، عفيف عسيران)، ص 21
31. الهمداني, ع. (1962). التمهيدات، (تح. عفيف عسيران)، ص 123،124
32. شمل، آنا ماري. (2016). روحي أنثى (تر. لميس فايد). الكتب خان، ص182-185
33. مالارميه، هذيان
34. كولي، مالكولم. أراغون شاعر المقاومة، ترجمة عبدالوهاب البياتي وأحمد مرسي، الطبعةالثانية 1994، المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
35. ابتهاج، هوشنگ. آينه در آينه، ترجمة مريم ميرزاده
36. الرومي، جلال الدين، ديوان شمس، الغزليات، غزل رقم 2170، ترجمة مريم ميرزاده
37. الشيرازي، حافظ، الغزليات، غزل رقم 69، ترجمة مريم ميرزاده
38. العطار، فريد الدين، الغزليات، غزل رقم 81، ترجمة مريم ميرزاده
39. اسكويي، نرجس، استعارۀ مفهومی "آینه" در ادب عارفانه فارسی، فصل نامه تخصصی ادبیات فارسی، ع6، 2016، ص26-48
40. المصدر السابق نفسه
41. باشلار، غاستون، جماليات المكان، 1984، ص88
42. McBeal, Neve, The Mystical Symbolism of Mirrors in Women’s Literature, 2019
43. إبراهيمي ديناني، غلام حسين، انسان، آیینه تمام نمایخداوند است، مركز دائرة المعارف بزرگ اسلامی