"ثورة البشارات".. هكذا واجه المسلمون "حروب الاسترداد"
بعد سقوط غرناطة، حورب المسلمون في دينهم وثقافتهم واقتصادهم، لكن بعضهم قرر المقاومة، وأطلق ثورات عديدة، أهمّها "ثورة البشارات"، فما قصتها؟ وما دور الجزائر فيها؟
سقطت غرناطة، آخر معاقل الوجود الإسلامي في الأندلس عام 1492م، بتوقيع اتفاقية استسلامٍ تعهَّدت من خلالها المملكة الإسبانية الموحّدة، باحترام عقائد مَن بقي من المسلمين الأندلسيين في ديارهم. لكنها سرعان ما نقضتها، فكان على المسلمين مواجهة إجراءات وقوانين استهدفت إدماجهم قسرياً في النسيج الإسباني المسيحي بمحاربة كل مظاهر تميُّزهم الديني والثقافي، وحرمانهم من مصادر قُوَّتهم الاقتصادية والاجتماعية.
هكذا اضطرت أعداد كبيرة منهم للهجرة نحو البلاد الإسلامية خصوصاً إلى المغرب الكبير الأقرب إليهم جغرافياً وحضارياً، فيما قاوم بعض من بقي منهم وحمل السلاح في ثورات عديدة كانت أهمّها ما تُعرف بثورة البشارات في سنوات 1568-1571م. فما هو السياق المحلي والخارجي لهذه الثورة؟ وما كانت نتائجها؟ وما الدور الذي لعبته الجزائر في دعمها؟
"حروب الاسترداد"...من سقوط طلطيلة إلى سقوط غرناطة
وصل المسلمون بقيادة طارق بن زياد إلى شبه الجزيرة الإيبيرية عام 711م وسيطروا على أغلب جهاتها التي وحَّدوها في كيانٍ عُرف تاريخياً بالأندلس، إلا أن المناطق الجبلية الوعرة في غاليسيا (جليقية) وليون وأشتورية ظلَّت مجالات مسيحية، سرعان ما شكَّلت مملكة ليون، وهي النواة المسيحية التي اعتبرت نفسها امتداداً للتراث القوطي الغربي السابق للغزو الإسلامي، ثم زاد توسُّعها إلى أن توحَّدت في القرن 13م مع فرناندو الثالث ملك قشتالة في إطار مملكة قشتالة وليون. ثم في فترات مختلفة تشكَّلت 3 ممالك أخرى هي نافارا وأرغون و"كونتية برشلونة" التي انصهرت كلها لاحقاً ضمن مملكة موحّدة عُرفت بـــ "تاج أرغون"(1).
مرَّت الأندلس الأمويّة بفترات ازدهارٍ ثقافيٍ وحضاري وبصعودٍ عسكري، تلتها مراحل ضعف وتراجع. في القرن 10م اندمجت المُكوِّنات الأندلسية المختلفة بكثافة في النسيج الإسلامي، فهيمنت الثقافة العربية والدين الإسلامي على غالبيّة الأندلسيين بمختلف إثنياتهم، والراجح أن عوامل عديدة ساهمت في مسار الأسلمة. من الطبيعي أن تُشكِّل الثقافة العربية الإسلامية، في أَوْج ازدهار الحضارة الأندلسية، عنصر جذب للنخب المثقّفة لاعتناق الإسلام. لكن الطموح لتحقيق مكاسب اجتماعية تتمثَّل خاصة في الرقي الاجتماعي الذي يمنحه الانتقال من مرتبة الذِّمي إلى المُولَّد، واقتصادية تتجسَّد في التسهيلات في التجارة والتملُّك التي يحوزها المسلمون في المجتمع، هو الذي حفَّز فئات واسعة من المسيحيين على اعتناق دين النخبة الحاكمة.
بعد انهيار الحكم الأموي في الأندلس عام 1031م، دخلت البلاد في مرحلةٍ من التشظِّي السياسي إلى كيانات صغيرة وضعيفة عُرفِت تاريخياً بالطوائف، لا تتعدَّى سيطرتها على ضواحي المدن التي أُقيمت عليها كطليطلة وسرقسطة وإشبيلية وبلنسية وغرناطة التي استقلّ بها فرعٌ من قبيلة بني زيري البربرية الصنهاجية القادمة من المغرب الأوسط في الجزائر الحالية، وهم من أبرز حلفاء الفاطميين السابقين إلى جانب كتامة (2).
وجدت الممالك المسيحية أن لديها فائض قوّة يُمكِّنها من التوسّع على حساب المسلمين فيما أصبح يُعرف لاحقاً في الأدبيات الإسبانية بـ "حروب الاسترداد"، التي حملت مضموناً دينياً معادياً للإسلام والمسلمين قبل بداية الحروب الصليبية في المشرق.
إذ ابتداءً من عام 1060م حفَّز البابا الإسكندر الثاني المسيحيين لقتال المسلمين في الأندلس بضمان غفران خطاياهم وآثامهم، فكانت طليطلة أول حاضرةٍ إسلاميةٍ أندلسية تسقط في أيديهم عام 1086م، ورغم تمكُّن المرابطين(3) من وقف زحف الممالك المسيحية وإنهاء حال التفتُّت في الأندلس بإسقاط الطوائف المتناحرة، إلا أنها لم تسترجع ما ضاع من أراضٍ، ولم يتمكَّن من ذلك المُوحِّدون أيضاً (4) في ذروة قوّتهم العسكرية وازدهارهم الحضاري غير المسبوق في المنطقة، وامتدادهم الإمبراطوري على طول بلاد المغرب.
من الطبيعي أن تُشكِّل الثقافة العربية الإسلامية، في أَوْج ازدهار الحضارة الأندلسية، عنصر جذب للنخب المثقّفة لاعتناق الإسلام. لكن الطموح لتحقيق مكاسب اجتماعية تتمثَّل خاصة في الرقي الاجتماعي الذي يمنحه الانتقال من مرتبة الذِّمي إلى المُولَّد، واقتصادية تتجسَّد في التسهيلات في التجارة والتملُّك التي يحوزها المسلمون في المجتمع، هو الذي حفَّز فئات واسعة من المسيحيين على اعتناق دين النخبة الحاكمة.
وعلى الرغم من الانتصارات العسكرية التي حقَّقوها، فإن معركة حصن العقاب أو Las Navas de Tolosa كما تُسمِّيها المصادر الغربية عام 1212م، فتحت فعلياً الوادي الكبير أمام المسيحيين من مملكتي قشتالة وأرغون الذين سيطروا على طول الساحل الأطلسي ثم السواحل والجزر المتوسّطية في بلنسية والبليار. لم تدقّ تلك المعركة إسفيناً في نعش الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية فحسب، بل تفكَّكت الإمبراطورية المُوحِّدية نفسها بعدها، وتقاسمت تَرِكَتَها في المغارب الثلاثة، سلالات ضعيفة (5).
في هذا السياق التاريخي استطاع محمد بن نصر الملقّب بــ "إبن الأحمر" أن يجمع حوله المسلمين في جنوب الأندلس، وأن يجعل من غرناطة عاصمةً لإمارةٍ امتدّت من مضيق جبل طارق إلى جنوب مرسية (6) أصبحت تابعةً لقشتالة التي ألزمتها بدفع جزيةٍ سنوية، وعلى مساعدتها عسكرياً في حروبها للمدن الإسلامية الأخرى، كما حدث في حصار إشبيلية وإسقاطها عام 1248م، والذي شاركت فيه إمارة غرناطة بقوّة.
بعد سقوط إشبيلية، وقبلها قرطبة، لم يعد من وجودٍ إسلاميٍ في الأندلس غير إمارة غرناطة التي امتدّ عمرها لقرنين آخرين، إلى غاية النصف الثاني من القرن 15م، حيث لم يعد من المقبول مسيحياً أن يستمر وجود كيانٍ إسلامي في أوروبا في سياق صعودٍ عثمانيٍ أعاد الصراع بين الإسلام وأوروبا إلى سابق عهده. فقد سقطت القسطنطينية، مع كل ما تُمثِّله من رمزيةٍ للعالم المسيحي الأوروبي كعاصمة للإمبراطورية الرومانية الشرقية، في يد السلطان العثماني محمد الفاتح عام 1453م، وتصاعدت غزواته حيث حاصر جزيرة رودس عام 1480م، ثم هاجم مدينة أوترانتو في جنوب إيطاليا.
هكذا أصبحت ممالك تاج أرغون وإيطاليا ترى في استئصال الإمارة الغرناطية ضرورة استراتيجية مُلِحَّة من أجل حماية نفسها وإغلاق غرب المتوسّط في وجه المدّ العثماني.
بعد سقوط إشبيلية، وقبلها قرطبة، لم يعد من وجودٍ إسلاميٍ في الأندلس غير إمارة غرناطة التي امتدّ عمرها لقرنين آخرين، إلى غاية النصف الثاني من القرن 15م، حيث لم يعد من المقبول مسيحياً أن يستمر وجود كيانٍ إسلامي في أوروبا في سياق صعودٍ عثماني أعاد الصراع بين الإسلام وأوروبا إلى سابق عهده.
بدأت الحرب على الإمارة من عام 1480م إلى مرحلة المفاوضات، على وَقْع حصارٍ خانقٍ ضُرب على المدينة ما بين 1489-1491م، التي انتهت باستسلام الأمير أبي عبد الله الصغير في 02 كانون الثاني سنة 1492م وتسليمه مفاتيح المدينة لفرناندو الثاني ملك أرغون وإيزابيلا الثانية ملكة قشتالة، لينتهي الوجود الإسلامي نهائياً من شبه الجزيرة الإيبيرية.
لم تهرع أيٌّ من القوى التي استغاث بها الغرناطيون لنجدتهم في حربهم سواء سلالات المغرب الضعيفة، أو المماليك في مصر، أو حتى العثمانيين، ولا يتَّسع المجال هنا للدخول في تفاصيل الأسباب التي حالت من دون تدخل القوى الإسلامية المغربية والمشرقية لمنع سقوط غرناطة.
أحوال المسلمين في الأندلس بعد سقوط غرناطة
واجه المسلمون الأندلسيون، بعد سقوط غرناطة مصيرهم المأساوي. ابتداءً من عام 1499م بدأ الإسبان بإجراءات استهدفت إدماج المسلمين القسري في المجتمع المسيحي، وكانت البداية بوصمهم بـــ "الموريسكيين" وبــــ "المُدجَّنين" بشكلٍ يهدف إلى حصرهم ضمن فئةٍ اجتماعيةٍ دونية مُنعت من كل ما يُمتُّ بصلةٍ إلى هويتها الثقافية والدينية، سواء ممارسة الشعائر الدينية واللباس واللغة، وصولاً إلى تحويل أسماء أبنائها من محمّد وأحمد وعائشة وفاطمة إلى بيدرو وخوان وإيزابيلا وماريا، وتحويل المساجد إلى كنائس كالمسجد الكبير في المدينة الذي حُوِّل إلى كنيسة سان سالفادور، ومسجدٍ آخر حُوِّل إلى كنيسة سانتا إيزابيلا، وغيرها من الإجراءات التعسّفية التي زادت حِدَّتها خاصة في عهد الملكين شارلكان وفيليب الثاني، وصولاً إلى إجبارها على اعتناق المسيحية أو التعميد القسري.
حينها، كانت محاكم التفتيش هي الهيئة المُخوَّلة بمتابعة تطبيق هذه الإجراءات، ويضمّ الأرشيف التاريخي الوطني الإسباني على سبيل المثال قائمة لــ 9000 مسلم عُمِّدوا في غرناطة في شهري كانون الثاني وشباط من العام 1500م(7).
كانت محاكم التفتيش هي الهيئة المُخوَّلة بمتابعة تطبيق إجراءات إدماج المسلمين القسري في المجتمع المسيحي، وكانت البداية بوصمهم بـــ "الموريسكيين" وبــــ "المُدجَّنين. ويضمّ الأرشيف التاريخي الوطني الإسباني على سبيل المثال قائمة لــ 9000 مسلم عُمِّدوا في غرناطة في شهري كانون الثاني وشباط من العام 1500م.
لم تتوقّف هذه الإجراءات في حقّ المورسكيين و"المُدجَّنين" عند الجوانب الدينية والثقافية والاجتماعية، بل تعدَّتها إلى ضرب مُقوِّماتهم الإقتصادية فكانت فعلياً حرباً اقتصادية ضدّهم. لقد كان "المُدجَّنون"، في غالبهم، مزارعين أو حرفيين، مكَّنتهم وضعيّتهم الاقتصادية الاجتماعية من إدارة شؤونهم ذاتياً من خلال مجالس محلية، لكنهم تعرَّضوا لمصادرة الأراضي التي يُقدِّر المؤرّخ الفرنسي لويس كاردياك أن محاكم التفتيش استولت على نسبة 10 بالمئة منها(8)، وللتضييق على الحرفيين والتجّار منهم، بالضرائب الباهظة التي أثقلت كاهلهم، يُحدِّثنا في هذا الصدد المؤرِّخ الفرنسي فرناند بروديل أن الضرائب في قشتالة ما بين سنوات 1561و1574م شهدت ارتفاعاً بنسبة 14 بالمئة (9).
لقد دمَّرت هذه الحرب الاقتصادية الأرستقراطية الغرناطية الزراعية والتجارية، وفقَّرت الحرفيين بعد أن جرَّدتهم من عوامل قُوَّتهم الاقتصادية.
أمام هذا الوضع كان من الطبيعي أن ينتفض "المورسكيون" عليها. وسجَّل لنا التاريخ عدّة حركاتٍ احتجاجيةٍ في غرناطة وأحوازها وغيرها من المناطق، كانتفاضة حيّ البيازين عام 1499م، وانتفاضة منطقة البشارات الجبلية في جنوب غرناطة عام 1501م، ثم انتفاضة 1526م في الجبال المحيطة ببلنسية، وصولاً إلى ثورة البشارات الكبرى بين الأعوام 1568-1570م في عهد الملك فيليب الثاني، وهي موضوع هذه الورقة البحثية.
غرب المتوسّط: من بداية القرن الــ 16 إلى ثورة البشارات
في غرب المتوسّط، ومع نهاية القرن الــ 15م والعقد الأول من القرن الـــ 16م، استكملت القوّة الإيبيرية الصاعدة وحدتها السياسية. لم تكتف بالقضاء على الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية بإسقاط إمارة غرناطة، بل بدأت في مشروعٍ للتوسّع إلى ما بعد مضيق جبل طارق والوصول إلى السواحل المغربية.
كانت قشتالة تحت حكم نخبةٍ عسكريةٍ برية تطمح إلى السيطرة على كل شمال أفريقيا، فيما كانت النخبة التجارية الحاكمة في أرغون أكثر وفاءً لطموحاتها وتقاليدها البحرية في الإبقاء على سيطرتها على جزائر غرب المتوسّط في سردينيا وصقلية وحماية تجارتها.
شكَّلت خلفية النخبتين الحاكمتين أساس المشروع الإمبراطوري الإسباني في غرب المتوسّط. كان التعصّب الديني والرغبة في تنصير المسلمين المغاربة، المُحَفِّز الرئيس للحملات الإسبانية على السواحل المغربية (10). فقد منح البابا الإسكندر السادس سنة 1494م بركته وإعانته للملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيزابيلا لمباشرة حربٍ صليبيةٍ مقدَّسة في شمال أفريقيا، أو الساحل البربري كما تُسمِّيه المصادر الغربية.
ولم يكد ينتهي العقد الأول من القرن الـــ 16م حتى أضحت الضفة الجنوبية للمتوسّط تحت السيطرة الإسبانية، فسقطت مليلة سنة 1497م (في شمال المغرب الأقصى ولا تزال محتلّة إلى الآن)، والمرسى الكبير في 1505م (في غرب الجزائر)، وجزيرة باديس في 1508م (في شمال المغرب الأقصى ولا تزال محتلّة إلى الآن)، ووهران في 1509م، فيما سقطت بجاية (شرق الجزائر) وطرابلس (عاصمة ليبيا) في 1510م. ظهرت السلالات المغربية الحاكمة في المغرب؛ الوطَّاسية في فاس، والزِّيانية في تلمسان، والحَفْصِية في تونس، ضعيفةً وعاجزةً أمام هذه الواقع الجديد.
في نفس هذه الفترة اختارت مدنٌ مغربيةٌ أخرى توقيع اتفاقياتٍ تخضع من خلالها للسيادة الإسبانية هي الجزائر وتونس. لاحقاً أصبح الملك الإسباني شارلكان يعتبر نفسه الزعيم الأوحد للمسيحية، وإمبراطوراً للإمبراطورية الرومانية المقدَّسة القوّة الضاربة للكنيسة الكاثوليكية.
لكن المضمون الديني والحضاري للمشروع الإمبراطوري الإسباني في غرب المتوسّط، لا يتنافى مع حقيقة أنه رام تحقيق أهداف سياسية واقتصادية.
لا شكّ أن هاجس قيام ثورةٍ مُوحِّدية جديدة تسترجع الأندلس الإسلامية مجدّداً لم يغادر يوماً مِخْيَال الملوك الكاثوليكيين، لذا أرادوا من خلال التوسّع في المغرب، ضمَّه إلى حدود الإمبراطورية الصاعدة، والقضاء على مراكز انطلاق عمليات القرصنة في المدن المغربية الساحلية التي بدأها الموريسكيون المُهجَّرون من ديارهم.
قرَّر عروج تأسيس نظام سياسي مركزي يحمل على عاتقه تعبئة القبائل العربية والبربرية والأندلسيين المستقرّين في البلاد، وإعلان الجهاد من أجل تحرير الثغور والتصدّي للمشروع التوسّعي الإمبراطوري الإسباني.
من خلال الهيمنة على المدن المغربية من طرابلس شرقاً إلى مليلة غرباً مروراً بتونس وبجّاية والجزائر ووهران وتلمسان، والتي تعتبر بعضها محطّ القوافل التجارية القادمة من السودان الغربي، أحكم الإسبان سيطرتهم على التجارة الصحراوية وسلعتيها الرئيسيتين الذهب والعبيد اللتين كانتا مورداً هاماً للخزينة الإسبانية (إضافةً إلى الموارد القادمة من أميركا/العالم الجديد بعد غزوها).
في العام 1511م جنت صقلية وحدها خُمس موارد تجارة العبيد القادمة من أفريقيا (11)، كما أن السيطرة على ضفتيّ المتوسّط منحت الإسبان القدرة على التحكُّم في موارد المناطق الغنية التابعة لهم في إيطاليا التي فاقت أهميّتها الاقتصادية شمال أفريقيا، في نابولي كمركزٍ تجاري مزدهر، وصقلية المنتجة للقمح، وكذا مراقبة حركة التجارة البحرية وتدفّق السلع بين غرب المتوسّط وشرقه.
في هذه الفترة كان شرق المتوسّط مسرحاً لصعود القوّة العثمانية التي بدأت كقوّة برية، لكنها بعد أن أسقطت عام 1453م القسطنطينية (إسطنبول الحالية)، آخر معقل مشرقي للإمبراطورية المسيحية البيزنطية، أدركت أهميّة بناء أسطول بحري لدعم مشروعها الإمبراطوري.
مثَّلت المستعمرات التابعة لجمهورية البندقية في شرق المتوسّط أول هدف للبحرية العثمانية الصاعدة. كان العثمانيون، الذين اعتبروا أنفسهم حماة أرض الإسلام والوريث الشرعي للخلافة الإسلامية، يتابعون التقدّم الإسباني في غرب المتوسّط من إسقاط غرناطة وإنهاء الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الإيبيرية، إلى السيطرة على السواحل المغربية وبناء حصون وقلاع عسكرية (Presidio) على طولها، ثم التوسّع في غرب المتوسّط بما يهدِّد طرق التجارة والحجيج من المدن المغربية إلى المشرق عبر طريق جزيرة رودس والإسكندرية الذي كان الممر الرئيسي للتوابل والحرير والسكر والخشب والقمح وغيرها من السلع الضرورية.
في هذا السياق التاريخي أصبح الدخول العثماني إلى غرب المتوسّط ضرورة إستراتيجية، والذي كان يعني بداية صراعٍ حتمي بين الإمبراطوريتين الصاعدتين العثمانية الإسلامية والإسبانية المسيحية طبعت أحداثه القرن 16م.
لم تكن القوّة البحرية العثمانية قوية بما يكفي لمواجهة نظيرتها الإسبانية، لذا عمد السلاطين العثمانيون من أجل تدارك الخلل في توازن القوى لتشجيع البحَّارة على التوجُّه إلى غرب المتوسّط وشنّ هجماتٍ على السفن والموانئ الإسبانية، كما حدث في سنة 1487م، في ذروة الحرب بين إمارة غرناطة الإسلامية والجيوش المسيحية، عندما أمر السلطان بايزيد الثاني القائد البحري الرَّايس كمال لقيادة قوّة بحرية لمساعدة المقاتلين الغرناطيين المسلمين مُتَّخذاً من ميناءَي بجَّاية وعنَّابة في شرق الجزائر قاعدة لعملياته (12)، فكان ذلك فعلياً أول اتصال مباشر بين العثمانيين والجزائر.
بالتأكيد أضرَّت هجمات قوّة الرَّايس كمال البحرية بالمصالح الإسبانية في غرب المتوسّط ككل، لكن حجم القوّة وقدرتها لم تكن لتصدّ الزحف المسيحي على غرناطة فسقطت في النهاية، لتُختزل بعدها مهمته الرئيسية في ترحيل المسلمين المُهَجَّرين نحو سواحل شمال أفريقيا، ثم قفل راجعاً إلى مركز الإمبراطورية العثمانية في إسطنبول.
لكن بحَّارةً مغامرين آخرين، كانوا يعملون لحسابهم الخاص، سمح لهم السياق التاريخي المُشجِّع على عمليات القرصنة في غرب المتوسّط بلعب دور كبير في تاريخ المنطقة والصراع متعدّد الأوجه بين الغرب الإسلامي وأوروبا المسيحية.
في بداية القرن الـــ 16م وصل عروج وأخواه خير الدين وإسحاق في أول الأمر إلى ميناء حلق الوادي على الساحل التونسي، بعد أن ذاع صيت عملياتهم الجريئة ضدّ السفن الأوروبية. وقد سمح لهم السلطان الحفصي بالنشاط من سواحل مملكته مقابل حصوله على مقدارٍ من الغنائم. بدأت عمليات عروج تتوسَّع ومعها قوّته البحرية. سنة 1512م استنجد به أهل مدينة بجَّاية الساحلية، وهي إحدى عواصم المغرب الأوسط التاريخية في العصر الوسيط إلى جانب تلمسان، وكانت قد سقطت قبل ذلك بسنتين في يد الإسبان.
كتب فرناند بروديل أن البحرية الجزائرية ما بين 1560م و1570م، أصبحت لها اليد العليا على غرب المتوسّط من البحر الأدرياتيكي شرقاً إلى مضيق جبل طارق والسواحل الأطلسية لإسبانيا شرقاً.
توجَّه عروج وشقيقه خير الدين في مهمةٍ لتحرير المدينة. فشل حصار الحصن الإسباني وظهر جلياً تفوّق المدفعية الإسبانية أمام مدفعية عروج وقوّته. فقد عروج ذراعه في المعركة، لكن حصار بجَّاية رغم فشله، شكَّل بداية معرفته المباشرة بالقبائل البربرية التي وجدها تتمتَّع بروحٍ قتاليةٍ كبيرة لكن يعوزها الانضباط وإتقان الفنون العسكرية.
بعد سنوات وفي أعقاب نشاطهم في غرب المتوسّط، تمكَّنت سفن عروج من الاستيلاء على سفينة مُحَمَّلة بالقمح الصقلي الوفير، فاقتادها نحو مدينة جيجل شرق الجزائر، وهي إحدى معاقل قبيلة كتامة البربرية، التي كانت تعاني من المجاعة جرَّاء الحصار والاحتكار الإسباني.
دعت قبائل المنطقة عروج إلى الإقامة بينها، فكانت جيجل الكتامية أول قاعدة للإخوة بربروس في المغرب الأوسط الذين أصبحوا تدريجياً يكسبون شرعية جهادية ودينية صبغهم بها أقطاب التصوّف وشيوخ الزوايا.
لم تمر سوى بضع سنوات على استقرارهم في قاعدتهم الجديدة حتى استنجد بهم من جديد سنة 1516م سكان مدينة الجزائر التي كانت تحت حكم قبيلة الثعالبة العربية المَعْقَلِية، وتعيش تحت رحمة المدافع الإسبانية المنصوبة في الجزائر الأربع الواقعة قُبَالَتَها وتُكبِّلها اتفاقية مُذلَّة رضخت من خلالها للحكم الإسباني.
لم يكن الرَّايس عروج مع أشقائه المغامرين الوحيدين الذين توجَّهوا صوب غرب المتوسّط، لكن طموحه كان أكبر من أن يحقّق مكاسب مادية معينة أو أن يشيع خبره في البحار ويكتب عنه التاريخ كما كتب عن قراصنةٍ آخرين عاصروه أو جاؤوا من بعده، لأنه عرف كيف يقرأ الأوضاع السياسية والاقتصادية لمغرب ما بعد المُوحِّدين والمغرب الأوسط في القلب منه، الذي تميَّز، زيادة على الرضوخ للسيطرة الإسبانية، بغياب السلطة المركزية والتفتُّت السياسي، والضعف الكبير لآخر سلالةٍ بربريةٍ حاكمة في العاصمة تلمسان.
هكذا قرَّر عروج تأسيس نظام سياسي مركزي يحمل على عاتقه تعبئة القبائل العربية والبربرية والأندلسيين المستقرّين في البلاد، وإعلان الجهاد من أجل تحرير الثغور والتصدّي للمشروع التوسّعي الإمبراطوري الإسباني. توجَّه عروج رفقة شقيقه إسحاق إلى غرب البلاد، وسط نداءات استغاثة من العاصمة تلمسان، وترك شقيقه خير الدين في مدينة الجزائر.
ورغم الانتصارات العديدة التي حقَّقها لم يتمكَّن جيشه الصغير من مواجهة الإمدادات الإسبانية الكبيرة فسقط قتيلاً في ضواحي تلمسان سنة 1518م، فيما قُتل شقيقه إسحاق أيضاً في قلعة بني راشد (غرب الجزائر). ورث خير الدين بربروس مجالات واسعة من المغرب الأوسط، وشرعية دينية وجهادية مُدعَّمة و"مباركة" من "سيدي أحمد بن يوسف الملياني" أحد أقطاب التصوّف الأدارسة، وجمع حوله أعداداً من المقاتلين من الأندلسيين والقبائل العربية والبربرية المستعدّين للجهاد، لكنه مع ذلك وجد نفسه أمام مستجدّات صعبة. فالإسبان المنتشون بانتصارهم على الرَّايس عروج، قرَّروا استكمال انتصارهم والهجوم على مدينة الجزائر، فأقنع أعيان الجزائر بعدم جدوى تحقيق رغبتهم بقيادتهم لصدّ القوّة الإسبانية ذات الأعداد الكبيرة والتسليح الجيّد، دونما الحصول على المساعدة والإمداد من السلطان العثماني، فطلب خير الدين وأعيان الجزائر حماية السلطان ومبايعته (13).
تذكر لنا المصادر أنه أرسل إليهم فور تلقّيه البيعة وطلب الحماية ألفين من جنود الإنكشارية والمدفعية والذخيرة الحربية. أعطت الحماية وقوات النخبة التي وصلت دفعة قوية لخير الدين ومَن معه من البحَّارة والأندلسيين وفرسان القبائل، فبدأت مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة. تأسَّست الجزائر الحديثة على المجالات التاريخية للمغرب الأوسط، بعد أن استرجعت أغلب الثغور الواحد تلو الآخر في النصف الأول من القرن 16م، وأضحت قاعدةً متقدِّمة دخلت في صلب الصراع العثماني- الإسباني في غرب المتوسّط ، ومثَّلت رأس حربة في صدّ المشاريع التوسّعية الإسبانية.
كتب فرناند بروديل أن البحرية الجزائرية ما بين 1560م و1570م، أصبحت لها اليد العليا على غرب المتوسّط من البحر الأدرياتيكي شرقاً إلى مضيق جبل طارق والسواحل الأطلسية لإسبانيا شرقاً.
ثورة البشارات ودور الجزائر في دعمها
وصلت العلاقة بين الموريسكيين، بمن فيهم الذين تعرَّضوا للتعميد القسري سابقاً، والحكم الإسباني إلى أسوأ أحوالها، بعد أن توالت الإجراءات التعسّفية والعنيفة التي جرَّدتهم من هويّتهم الثقافية والدينية وضربت مصالحهم الاقتصادية. لذا قرَّروا الانتفاضة وحمل السلاح بشكلٍ أوسع وأقوى مما سبق. اختمرت فكرة الثورة في ذهن رجل من عائلة السراج الغرناطية النبيلة يُدعى فرج بن فرج. بدأ التخطيط للثورة من حيّ البيازين الغرناطي، حيث كانت تجتمع النخبة الموريسكية المَدِينية بحضور مُمَثِّلين عن أبناء الأرياف من سكان جبال البشارات في أحواز غرناطة.
كانت قوانين 01 كانون الثاني/يناير الجائرة القطرة التي أفاضت كأس غضب الموريسكيين. فقد فرضت تلك القوانين على النساء الموريسكيات ترك ملابسهن التقليدية، وألزمت أبناءهم تعلُّم العقيدة المسيحية في المدارس، وقرَّرت هدم حمّاماتهم وطرد أبناء الأرياف المورسكيين من خارج مدينة غرناطة.
بدأت الاستعدادات للثورة بأن أوفدت قيادتها وفداً جال في الأرياف والمدن في جنوب الأندلس، بحجّة جمع التبرّعات، للاطّلاع على قابليّة السكان لتلبية نداء المقاومة، وتهيئة مخازن السلاح ومعرفة الشواطئ التي كان منتظراً وصول الأسلحة القادمة من الخارج إليها. بدأت الثورة من البيازين في شتاء سنة 1568م من خلال 3 مجموعات شنَّت هجمات على المراكز السياسية والعسكرية والدينية في المدينة وتنفيذ اغتيالات ضدّ شخصيات نافذة في السلطات الحاكمة، ثم انسحبت الطلائع الأولى للثورة صوب الجبال المجاورة للمدينة وهناك بايعوا شاباً موريسيكياً ملكاً عليهم، وهو من عائلةٍ غرناطية تدَّعي أن نسبها مُتصلٌ ببني أميّة في الأندلس.
كانت قوانين الأول من كانون الثاني/يناير الجائرة، القطرة التي أفاضت كأس غضب الموريسكيين. فقد فرضت تلك القوانين على النساء الموريسكيات ترك ملابسهن التقليدية، وألزمت أبناءهم تعلُّم العقيدة المسيحية في المدارس، وقرَّرت هدم حمّاماتهم وطرد أبناء الأرياف المورسكيين من خارج مدينة غرناطة.
اتّخذ هذا الملك لنفسه إسم محمد بن أميّة وكان إسمه المسيحي الإسباني عند ولادته هو فرناندو دي بالور أو Fernando de Córdoba y Válor، عيّن القائد بن أميّة بن فرج وزيراً له. اتّسعت الثورة من إلبيرة إلى مضيق جبل طارق، وقد كانت هجمات عنيفة استهدفت الوجود المسيحي على طول الأرياف الجنوبية للإمارة الغرناطية التاريخية.
وتنقل لنا المصادر الإسبانية قساوة الهجمات التي قادها فرج بن فرج والأعداد الكبيرة من القتلى الإسبان (14). من الطبيعي أن تكون المظاهر الدينية أبرز ميزات هذه الثورة، فهي بالأساس جاءت كردّ فعل لإجراءات قهرية استهدفت هويّتهم الدينية والثقافية، لذا رافق هذه الثورة عنف شديد استهدف رموز الطرف المسيحي المهيمن الدينية والسياسية والعسكرية.
ورغم أن جلّ المصادر الإسبانية تنسب إلى إبن فرج كل مظاهر الشِدَّة في هذه الثورة، فإن تقصِّي الحقائق التاريخية حول تلك التفاصيل ومآلات الثورة نفسها، بلا أدنى شكّ، يحتاج إلى عملٍ عميقٍ وموثَّق.
شنَّت الثورة الموريسكية حرب عصابات حقَّقت من خلالها انتصارات عديدة على الحاميات الإسبانية، لكن الخلافات الداخلية نخرت صفوفها مبكراً.
كانت الثورة في أساسها ريفية في طابعها ولم تتمكَّن من استقطاب سكان غرناطة، على غرار سكان جبال البشارات وباقي الأرياف. شنَّت الثورة الموريسكية حرب عصابات حقَّقت من خلالها انتصارات عديدة على الحاميات الإسبانية، لكن الخلافات الداخلية نخرت صفوفها مبكراً، وكانت بوادرها بين القائد بن فرج، الذي تكاد تجمع المصادر أنه "مُنظِّر" الثورة، وبين الملك الجديد بن أميّة الذي راح ضحيةً لصراع داخلي معقّد، وخلفه موريسكي آخر في قيادة الثورة و"الملك" هو إبن عبو واسمه المسيحي Diego Lopez.
أعاد هذا الأخير تنظيم صفوف الثورة ودعمها بمزيد من المتطوّعين والسلاح. توالت الأحداث حتى قرَّر الملك الكاثوليكي فيليب الثاني إرسال مزيد من القوات لدعم حامياته العسكرية المحلية التي عجزت أمام الثورة، وانتهت آخر فصولها في سنة 1570م بقتل قائديها إبن فرج وإبن عبو، بعد أن صمد مقاتلوهما في معارك عديدة رافضين عروض الاستسلام. لكن السؤال كيف تعاطت القوى الإسلامية من خارج الأندلس آنذاك مع هذه الثورة؟ وهل كان لها دور؟
الجزائر وثورة البشارات
كما سبق وأوضحنا، فإن غرب المتوسّط في القرن16م كان مسرحاً للصراع بين الإمبراطوريتين العثمانية والإسبانية، وقد تمكَّن الرَّايس عروج وأخوه خير الدين من توحيد المغرب الأوسط الضعيف والمُفتَّت والتأسيس للكيان الجزائري الحديث الذي استفاد من الحماية والدعم من مركز الإمبراطورية العثمانية وتحوَّل إلى قاعدةٍ متقدّمة في مواجهة المشاريع التوسّعية الإسبانية.
يعدَّد المؤرّخ الأميركي جون وولف (15) الأسباب التي حالت من دون سقوط المغرب كله في يد المشروع الإسباني، ابتداءً من وفاة إيزابيلا الكاثوليكية المبكر، إلى الخلافات الداخلية بين فرناندو وورثتها في العرش القشتالي، واكتشاف العالم الجديد الذي استقطب النبلاء والجنود القشتاليين الذين فضَّلوا المغامرة في العالم الجديد من أجل الثروة بدل المغرب. لكن لا بدّ من أن يُضاف إليها عامل رئيسي، هو وجود الإخوة بربروس الذين أطلقوا دينامية مضمونها الأساس التعبئة المستمرة للجزائريين الأندلسيين منهم، كما قبائلهم العربية والبربرية، وترفدها الشرعية الدينية والجهادية لشيوخ الطرق الصوفية.
على امتداد العقود الستة من القرن 16م ازداد الكيان الجزائري قوّة، بعد أن استرجع أغلب ثغوره المحتلة (تأخَّر تحرير وهران إلى أواخر القرن 18م ) وتمكَّنه من صدّ حملةٍ صليبيةٍ كبرى في سنة 1541م بقيادة الملك شارلكان.
عند قيام ثورة البشارات بين عامي 1568-1570م كانت مدينة الجزائر قد أصبحت فاعلاً رئيساً في أحداث المنطقة إلى جانب إسطنبول. وبدأ اهتمام العثمانيين بقيادة الرَّايس كمال بمصير المسلمين في حرب غرناطة في الحرب العشرية الأخيرة للقرن 15م، وكانوا قد اتّخذوا من بجَّاية وعنَّابة في شرق الجزائر قاعدتين لانطلاق عمليات استهدفت المصالح الإسبانية لكنها لم تتمكّن من وقف المدّ الإيبيري المسيحي الجارف الذي أسقط الإمارة الإسلامية في غرناطة في نهاية الأمر، واستمرّوا في نقل المسلمين من سواحل إسبانيا الجنوبية إلى السواحل المغربية بالتعاون مع الأندلسيين في الداخل الذين شاركوا في شنّ هجمات بحرية، وفي استقبال الأسلحة والدعم القادم إليهم من خلال شواطئهم التي يعرفونها.
طموحات البايلرباي علي كانت أكبر من القدرات الحقيقية للقوّة البحرية الجزائرية، فانتهى الأمر بإرسال المتطوّعين الجزائريين الذي تجمَّعوا في المساجد والزوايا قبل انطلاقهم إلى السواحل الأندلسية، فشاركوا بفعالية في معارك الثورة. ومن بين 25000 إلى 40000 ثائرٍ موريسكي شاركوا في ثورة البشارات، كان هناك نحو 4000 مقاتل متطوّع قدِموا من شمال أفريقيا، ومن الجزائر تحديداً، كما يقول المؤرّخ الأميركي آلان جاميسون.
هكذا أصبحت السلطات الإسبانية الحاكمة تنظر إليهم كطابور خامس للعثمانيين. وخلال ثورة البشارات الكبرى وجد الثوار في الجزائر الدعم بالأسلحة وبالمتطوِّعين. وكانت الجزائر قد استكملت بناء كيانيّتها السياسية بقيادة حاكم مركزي يُسمَّى البايلرباي. حينها كان الحكم بيد علج علي وهو من ضواحي كالبريا في جنوب إيطاليا ولِدَ باسم جيوفاني ديونيجي ڨاليني Giovanni Dionigi Galeni والمعروف غربياً باسم أوتشيالي (16).
كان الجزائريون حاضرين في مرحلة الإعداد للثورة. فقد كانوا المصدر الأساس لتهريب الأسلحة التي خزَّنها المورسكيون في الكهوف في القرى الساحلية وفي مصاب الوديان فور وصولها من الجزائر. أعدَّ العلج علي خطة تتضمَّن مفاجأة الحامية الإسبانية المرابطة في وهران بجيشٍ كبير من أكثر من 10 آلاف جندي، ثم التوجّه إلى السواحل الإسبانية بغرض الإنزال، لكنه تراجع عن ذلك، وفشلت محاولة 40 سفينة إنزال ما عليها من جنود وأسلحة في ألمرية.
ويبدو أن طموحات البايلرباي علي كانت أكبر من القدرات الحقيقية للقوّة البحرية الجزائرية آنذاك، فانتهى الأمر بقرار أكثر واقعية بإرسال المتطوّعين الجزائريين الذي تجمَّعوا في المساجد والزوايا قبل انطلاقهم إلى السواحل الأندلسية، فشاركوا بفعالية في معارك الثورة. ومن بين 25000 إلى 40000 ثائرٍ موريسكي شاركوا في ثورة البشارات، كان هناك نحو 4000 مقاتل متطوّع قدِموا من شمال أفريقيا، ومن الجزائر تحديداً، كما يقول المؤرّخ الأميركي آلان جاميسون.
أما الكاتب الإسباني خوسي مونيوث إي ڨيفيريا فيقول إن حضور الجزائريين وقائدهم المدعو حسيناً، وإمداداتهم، إلى جانب بن أميّة الذي كان يتحصَّن في بلدة أجيجر سنة 1569م، لم يمكِّنهم من الصمود فحسب، بل بادر إلى شنّ هجمات ناجحة على ألمرية ومالقا، ولعبت الإمدادات الجزائرية أيضاً دوراً فعَّالاً في معارك خليفته بن عبو فمكَّنته من الاستيلاء على حصن قليرة.
لكن السؤال المشروع الذي يتبادر إلى الذهن هو: ما الذي منع الإمبراطورية العثمانية ببحريّتها وجيوشها، وهي في عزِّ صعودها، أن تتدخَّل بشكل مباشرٍ في هذه الثورة لمساعدة الإمارة الإسلامية لاسترجاع أراضيها، بدل الجزائر بإمكانيّاتها الأقلّ بلا أدنى شكّ؟
الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى عملٍ جاد يستنطق الوثائق العثمانية والإسبانية. لكن تحليل السياق العام في فترة سنوات الثورة الغرناطية وخصوصاً سنة 1569م يجعل الدارس يفهم ربما بأن المسألة تتعلَّق بسُلَّم الأولويات لدى القيادة العثمانية، التي فضَّلت توجيه حملةٍ كبيرة نحو قبرص في شرق المتوسّط وليس إلى إسبانيا في غربه، بسبب الأضرار التي كان يسبِّبها قراصنة البندقية ومالطا على الطرق الحيوية للتجارة والحجيج بين مصر وموانئ الأناضول، بالإضافة إلى حدَّة الصراع مع روسيا في نفس تلك الفترة.
تراجيديا "التغريبة" الموريسكية
انتهت الثورة الغرناطية بإلحاق الهزيمة بثوّارها الذين صمدوا إلى النهاية. وبدأت السلطات الإسبانية في استخلاص العبر، فمن أجل إبعاد خطر الاختراقات الجزائرية للشواطئ الجنوبية عمد الملك فيليب الثاني إلى تنظيم حملةٍ كبيرة لتهجير الموريسكيين من غرناطة وأحوازها، إلى قشتالة ومرسية وإكستريمادورا.
لكن مجلس الدولة الإسباني بحث في إيجاد حلٍ نهائيٍ وحاسم "للمشكلة الموريسكية"، فتقرَّر بين سنوات 1609م و1614م تهجير الموريسكيين من البلاد، وكانت بدايةً فعلية لإحدى أكبر عمليات "التطهير العرقي" بخلفيّةٍ دينية وسياسية في القرن 17م.
بعيداً من لغة الأرقام المبالغ فيها، فإن بعض المؤرّخين والباحثين قدَّموا أرقاماً معقولةً اعتماداً على منهجيات بحث أكثر موضوعية، فقالت إن ما بين 260000 و300000 موريسكي هُجٍّروا من بلادهم خلال هذه الفترة، أي بما يعادل 4% من مجموع سكان إسبانيا آنذاك (17).
وتوجَّه معظم هؤلاء إلى المدن المغربية؛ في تونس وقسنطينة والجزائر ومستغانم ووهران وتلمسان وتطوان وطنجة والرباط وفاس، فأحدثوا تحوُّلات كبيرة في المنطقة على الأصعدة الديمغرافية والاجتماعية والثقافية والسياسية، فيما اختار آخرون منهم المدن المشرقية في بلاد الشام والأناضول كحلب وإسطنبول.
الهوامش
(1) Adeline Rucquoi, Histoire médiévale de la péninsule Ibérique, Paris, 1993.
(2) لمعرفة مزيد من التفاصيل حول تأسيس طائفة غرناطة على يد بني زيري أنظر:
Amar Dhina, Cités musulmanes d'Orient et d'Occident, ENAG édition, Algérie, 2011.
(3) سلالة بربرية من صنهاجة الجنوب ذات عقيدةٍ سلفية، بدأت نواتها في جزيرة تيدرة في موريتانيا الحالية، تمكَّنت من تأسيس دولةٍ مترامية الأطراف بين سنوات1058-1147م، ضمَّت إلى جانب المغرب الأقصى والأندلس، أجزاء كبيرة من الصحراء والمغرب الأوسط.
(4) إمبراطورية تمكَّنت من توحيد كل بلاد المغرب ما بين سنوات 1121-1269م، قامت على أساس إيديولوجية مهدوية بقيادة إبن تومرت من بربر مصمودة في سوس في جنوب المغرب الأقصى، والذي سلَّم القيادة والحكم لمؤسّس السلالة المُوحِّدية عبد المؤمن بن علي من بربر بني ڨومي في المغرب الأوسط.
(5) استقلّت السلالات البربرية؛ بنو حفص المصامدة في بالمغرب الأدنى(إفريقية) وعاصمتهم تونس وبنو عبد الواد بالمغرب الأوسط وعاصمتهم تلمسان وبنو مرين بالمغرب الأقصى وعاصمتهم فاس.
(6) Arié Rachel, L’Espagne musulmane au temps des Nasrides (1232-1492), Paris, 1990.
(7) دُرست هذه الوثيقة علي يد:M. Á. Ladero Quesada, « Los bautismos », p 336.
ووردت في دراسة: Isabelle Poutrin, Convertir les musulmans, Espagne 1491-1609, Centre de recherches en histoire européenne comparée, Université de Paris, 2012.
(8) Louis Cardaillac, Morisques et chrétiens : un affrontement polémique (1492-1640), Klincksieck, Paris, 1977.
Fernand Braudel, La méditerranée et le monde méditerranéen à l’époque de Philippe II, Armand colin, paris, 1966, Tome 2, p410.
(10) Fernand Braudel, Les Espagnols et la Berbérie De 1492 à 1577, Belles-Lettre, Algérie, 2013.
(11) Fernand Braudel, La Méditerranée et le monde méditerranéen à l’époque de Philippe II, Armand Colin, Paris, 1966, Tome 2, p93.
(12)ALAN G. JAMIESON, Lords of the Sea, a History of the Barnary corsairs, Reaktion books, London, 2012, p29.
(13) يمكن مراجعة الرسالة التي بعثها أهالي مدينة الجزائر إلى السلطان سليم الأول في دراسة المؤرّخ التونسي عبد الجليل التميمي المنشورة في: المجلة التاريخية المغربية، عدد6، ص116-120، تونس، 1976.
(14) يمكن معرفة وقائع ثورة البشارات من وجهة نظر إسبانية من خلال مراجعة كتاب خوسي مونيوث إي ڨفيريا "تاريخ ثورة المورسكيين وطردهم من إسبانيا وعواقبه على سائر أقاليم المملكة"، ترجمة المغربي عبد العزيز السعود، نشر ليتوغراف، طنجة، 2010، ص98-130.
(15) كتاب المؤرّخ الأميركي جون وولف :"The Barbary Coast; Algiers under the Turks 1500 to 1830", Ny Norton, Norton 1979. ترجمه إلى العربية المؤرّخ الجزائري أبو القاسم سعد الله تحت عنوان: "الجزائر وأوروبا 1500-1830م"، الجزائر، 1985.
(16) ALAN G. JAMIESON, Lords of the Sea, a History of the Barnary corsairs, Reaktion books, London, 2012, p60.
(17) يمكن في هذا الصدد مراجعة أعمال المؤرّخ الفرنسي أنري لابيري henri lapeyre، والإسباني أنطونيو دمينيڨاز أورتيز Antonio Domínguez Ortiz.