أوراق نقدية لسياق تجربة الشعب الفلسطيني النضالية - 3
على الرغم من الزّخم الذي شكّله عنفوان الانتفاضة الشعبية للقضية الفلسطينية، والذي امتدّ صداه ليصل إلى كل أرجاء المعمورة، فقد اصطدم بسياسة الاختطاف والحلول السريعة للنفوذ الكبير والواسع لليمين المهيمن في منظمة التحرير.
على الرّغم من السياسات النقدية الجريئة التي قدّمتها الأحزاب والشخصيات القيادية الوطنية الفلسطينية بقيادة الثورة، فإنها لم تدفعها إلى قيادة التغيير الجذري والجدي المطلوب الذي فرضته ضرورات الواقع آنذاك، سواء في آليات عملها ووجود قوة الثورة أو الدور المطلوب منها وكيفية إدارة العلاقات مع حركات التحرر الوطنية وقواها السياسية الناشطة آنذاك.
السجال الذي بدأ يأخذ حيزه في إطار ائتلاف منظمة التحرير الفلسطينية تمحور حول الرؤية البرنامجية للثورة، إذ تمثل شعار الثورة في بداياتها الأولى بالتحرير الشامل للأرض الفلسطينية المحتلة.
المتغيرات التي حدثت، سواء احتلال ما تبقى من أرض فلسطينية في عدوان حزيران/يونيو عام 1967، إلى جانب الجولان العربي السوري وصحراء سيناء المصرية، أو أحداث أيلول المؤلمة لاحقاً، كانت عوامل دافعة إلى تغير التكتيك الثوري في مواجهة منظومة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، إذ بدأت المشاورات والنقاشات في حينه تتناول كيفية التعامل مع الوقائع الجديدة التي فرضت بدورها متغيرات مهمة وإستراتيجية.
لذلك، خلصت منظمة التحرير إلى برنامج النقاط العشر "البرنامج المرحلي" الذي جاء نتيجةً أو تعبيراً عن جملة النقاشات المذكورة آنذاك ارتباطاً بالتطورات الحاصلة وصيغةً لإنقاذ الواقع، إن صحَّ التعبير.
وقد تحدَّث عن مواصلة الكفاح ضد منظومة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني بكلّ الوسائل، وعلى رأسها الكفاح المسلح، وإقامة سلطة الشعب المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها.
ولكنْ حدثت تفاعلات لاحقة سلبية بالنسبة إلى قوى الثورة منها عدم الاستفادة من الدروس السابقة التي وقعت في الأردن، وخلطت الأوراق جميعها، وبدأت تؤثر في مسيرة الثورة شيئاً فشيئاً، وخصوصاً حرب أكتوبر عام 1973، التي أدت إلى اتفاقية "السلام" بين مصر و"إسرائيل"، وبالتالي إخراج مصر من دائرة الصراع مع العدو الصهيوني، والحرب الأهلية الدموية في لبنان (1975-1976)، وما تبع ذلك من اجتياح الليطاني وزيادة خلط الأوراق في الساحة اللبنانية حتى اجتياح بيروت عام 1982، والتي أدت إلى خروج قوات الثورة من بيروت إلى شقاق الأرض.
ذلك كلّه أضعف القضية والثورة الفلسطينية إلى حد كبير، إلى أن اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الكبرى عام 1987، التي أعادت الاعتبار إلى القضية الفلسطينية، وقدَّمت لها زخماً حقيقياً أدخلها إلى كلّ بيت في العالم، وجعل العدو الإسرائيلي الاستعماري يبحث عن حلول لها بهدف إخمادها.
وعلى الرغم من الزّخم الذي شكّله عنفوان الانتفاضة الشعبية للقضية الفلسطينية، والذي امتدّ صداه ليصل إلى كل أرجاء المعمورة، فقد اصطدم بسياسة الاختطاف والحلول السريعة للنفوذ الكبير والواسع لليمين المهيمن في منظمة التحرير، وفي مقابله الضعف الشديد عند القوى اليسارية للحد من هذا النفوذ وكبحه، ما دفع إلى الاستعجال لقطف ثمار الانتفاضة باكراً، ليصل إلى نتيجته المأسوية في اتفاق أوسلو المشؤوم.
وبالتالي، أنتج الاتفاق كياناً سياسياً هزيلاً ارتبط وجوده بقبول الاحتلال له وموافقته عليه، وقيّد نفسه والشعب الفلسطيني بسلسلة من الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية الملحقة بالاحتلال، بحيث باتت هذه الكيانية السياسية الناشئة عن ذلك الاتفاق المشؤوم تشكّل إحدى العقبات أمام إنجاز التحرر الفلسطيني.
يشير المفكّر إدوارد سعيد في هذا السياق إلى أنّ منظمة التحرير الفلسطينية بدأت عملياً تتجاوز برنامجها الوطني قبل فترة توصلها إلى اتفاق أوسلو. تجلى ذلك بقبولها شروط وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر التي دخلت بموجبها مؤتمر مدريد الَّذي مهّد لاتفاق أوسلو.
تعني هذه الشروط تفكيك القضية الفلسطينية والتخلّي الكامل عن العوامل الثابتة التي أقرها الميثاق الوطني الفلسطيني الذي أُنيطت منظمة التحرير به شكلاً ومضموناً، وقبولها كذلك بتجزئة المرجعية السياسية الفلسطينية، فاتفاق أوسلو أدى إلى تهميش منظمة التحرير التي كانت مرجعية للشعب الفلسطيني أينما وجد.
كيف واجهت القوى الرافضة هذا الاتفاق؟ وما البدائل التي قدمتها؟ ولماذا لم تنجح في دفع الجماهير الفلسطينية إلى الاستمرار في العمل النضالي حتى انتزاع التحرر الوطني؟ وما الأثر الذي تركه الاتفاق في الشعب الفلسطيني وقضيته؟