صواريخ المقاومة بين حرب تموز و"سيف القدس".. ماذا تغيّر؟
في المعركتين كانت الصواريخ هي الأساس لكن هناك فوارق هامة تُعدّ مؤشّراً على تطوّر نوعي متعدِّد الأوجه في التسليح والتكتيك ضدّ "إسرائيل".
من النقاط المحسومة، على نحو كبير، في ما يتعلّق بالمقارنة في الأداء الميداني للمقاومة اللبنانية عام 2006 والمقاومة الفلسطينية عام 2021، أنّ سلاح الصواريخ كان صاحب دور البطولة على مدى أيام المواجهة مع جيش الاحتلال الإسرائيلي. لكن، كانت هناك فوارق مهمة بين الحالتين، يمكن اعتبارها مؤشّراً مهماً على تطوّر نوعي متعدِّد الأوجه في تسليح المقاومة وتكتيكاتها ضدّ "إسرائيل" بصورة عامة.
من أهم هذه الفوارق نقطة محورية تتعلّق بمدى دقة الصواريخ المستخدَمة. فبعد عام 2006، كانت المعاهد البحثية الإسرائيلية في طور تحليل نتائج المواجهة العسكرية مع حزب الله، وكان الأداء الصاروخي للحزب في مقدمة المؤشّرات الإيجابية التي تم رصدها خلال هذه التحليلات. تُضاف إلى ذلك نقاطٌ أخرى تتعلّق بمدى نجاح الضربات الجوية في إسكات مصادر إطلاق الصواريخ خلال المعارك، ومدى نجاعة هذا التكتيك، على نحو عام، في تحجيم القدرات الصاروخية لفصائل المقاومة، ناهيك بنقطة أخرى تتعلّق بسحب الصواريخ اللبنانية والفلسطينية ورقتين أساسيتين من أوراق "إسرائيل" على المستوى العسكري الميداني، هما "الردع" و"قرار إنهاء المعركة".
تجربة حزب الله في حرب تموز/يوليو
خلال حرب تموز/يوليو، كانت الترسانة الصاروخية لحزب الله تتكوّن، بصورة رئيسية، من صواريخ غير موجَّهة؛ بمعنى أدق: صواريخ يتم إطلاقها في اتّجاه الهدف عبر حساب زاوية إطلاق معينة. وهي طريقة تجعل من الصعب إصابة الهدف بصورة دقيقة. لكن هذا ما فرضه مستوى القدرات العسكرية المتوافرة لدى الحزب في تلك الفترة، التي كان خلالها مجرّد التفكير في امتلاك فصائل المقاومة صواريخَ موجَّهة أو دقيقة مجرد ضرب من ضروب التمني والخيال.
على مستوى أنواع الصواريخ المستخدَمة من جانب الحزب في حرب عام 2006، كانت تتكون، بالإضافة إلي قذائف المورتر والمدفعية الصاروخية وصواريخ الغراد، التي يتراوح مداها بين 5 و35 كيلومتراً، من عائلة صواريخ "فجر 3 - 5"، التي يتراوح مداها بين 45 و75 كيلومتراً، إلى جانب الصاروخين الأهم، واللذين تم استخدامهما خلال هذه المواجهة، وهما "زلزال 1 - 2" و"خيبر - 1"، ويتراوح مداهما بين 100 و180 كيلومتراً. وهي جميعها تشترك في كونها غير موجَّهة.
لكن في غياب خاصية "التوجيه"، فإنّ الحزب عمل على تقليص التأثيرات السلبية لاستخدام صواريخ حرّة التوجيه، وذلك عن طريق عدة إجراءات أثبتت نجاعتها خلال المعارك، منها تجميع معلومات كافية عن الأهداف الأساسية والحيوية في فلسطين المحتلة، وخصوصاً في المنطقة الشمالية القريبة من الحدود مع لبنان، وذلك عن طريق عدد من المصادر "المفتوحة"، مثل التقارير الصحافية والتلفزيونية، والخرائط التفاعلية الموجودة في الإنترنت، إلى جانب رسم خرائط مفصَّلة لقطاعات محدَّدة في داخل فلسطين المحتلة، اعتماداً على عناصر بشرية موجودة داخل الأراضي المحتلة، بحيث تتمّ مطابقة هذه المواقع عبر إحداثيات نظام تحديد المواقع العالمي "جي بي أس"، للوصول إلى أفضل زاوية إطلاق ممكنة.
يُضاف إلى ذلك ما قالته السلطات الإسرائيلية نفسها، ومفاده أن الحزب تمكّن من زرع عدد من أجهزة التنصّت على موجات اللاسلكي الإسرائيلية في منطقة الحدود، الأمر الذي مكّنه من استقاء المعلومات المحدَّثة بشأن الأهداف التي يتمّ ضربها في نطاق شمالي فلسطين المحتلة، وهي أفضلية منحت الحزب القدرة على تصحيح التهديف بناءً على هذه المعلومات، وكذلك بناءً على الصور والتسجيلات المصوَّرة، والتي كانت تُبَثّ عبر القنوات الإخبارية، وكانت تُظهر المواقع التي تم قصفها، بحيث كان من السهل تحديد مدى دقة الإصابة التي تلقّاها هذا الموقع أو ذاك، ثم تصحيح زاوية الإطلاق بناءً على هذه المعلومات.
هذا الأسلوب تم تأكيده، بصورة كبيرة، خلال المعارك، بعد أن عثرت إحدى الوحدات العسكرية الإسرائيلية بعد دخولها جنوبي لبنان، على جداول ميدانية أعدها حزب الله أواخر عام 2005، تتضمّن إحداثيات دقيقة لعدد من المواقع في نطاق الجليل الأعلى، زوَّد بها فِرَق إطلاق قذائف الهاون وصواريخ الغراد، بحيث يتم استخدامها في تحديد زوايا الإطلاق الخاصة بكل هدف، بناءً على المعادلات الواردة في هذه الجداول، والتي احتوت أيضاً على أسماء المستوطنات الموجودة قرب الحدود مع لبنان، إلى جانب مواقع داخل مدن شمالي فلسطين المحتلة، وخصوصاً "نهاريا".
هذا التكتيك جعل من السهل على الحزب ـ على الرغم من غياب التوجيه الدقيق لهذه الصواريخ - أن يثبّت معادلة ردع فرضت نفسها منذ ذلك التاريخ حتى الآن، بين محور المقاومة و"إسرائيل"، بحيث تمكّن، عبر المعادلة الميدانية "حيفا وما بعدها"، من أن يضغط بصورة مستمرة على صانع القرار في "تل أبيب"، وعلى الدوائر السياسية والشعبية فيها، والتي رأت الصواريخ تقترب شيئاً فشيئاً من "تل أبيب"، التي لم يتم قصفها منذ عام 1991.
حققت القوة الصاروخية للحزب أُولى الخسائر البشرية في "إسرائيل" في اليوم الثالث للحرب، واستهدفت على نحو أساسي في البداية المستوطنات والبلدات القريبة من الحدود اللبنانية. لكن، كلما كانت الضربات الجوية الإسرائيلية تزداد، ازداد توغل صواريخ الحزب مسافاتٍ أبعدَ.
ففي اليوم الرابع، وصلت الصواريخ إلى طبريا، التي تبعد 40 كم عن الحدود. وفي اليوم الخامس طالت الصواريخ، للمرة اﻷولى، مدينة حيفا، إلى جانب مدن العفولة والناصرة وعكا و"نهاريا". وفي اليوم الثامن، وصلت الصواريخ إلى مسافة 50 كم بعد قصفها "رامات ديفيد". وفي اليوم الثاني والعشرين تم ضرب بلدة بيسان، التي تبعد 68 كم قرب الحدود اﻷردنية بصاروخ "خيبر 1"، الذي ظهر للمرة اﻷولى خلال هذه الحرب. في اﻷيام اﻷخيرة للمعارك، وتحديداً في اليوم الرابع والعشرين، استخدم حزب الله صواريخ "خيبر" في قصف بلدة الخضيرة، التي تبعد أقلَّ من 5 كم عن "تل أبيب".
تحديثات المقاومة وتقديرات العدو
بعد حرب عام 2006، تحدّثت الأوساط العسكرية مراراً عن الآفاق المستقبلية للترسانة الصاروخية لحزب الله. وهذه كانت نقطة لافتة أخرى، فلقد كان غياب المعلومات الوافية عن هذه الترسانة - نظراً إلى عدم حدوث أيّ اشتباك بين الجانبين منذ عام 2006 - نقطة قوة مهمة اكتسبها محور المقاومة بصورة عامة. وباتت التقديرات الإسرائيلية لهذه الترسانة، على مستويَي الكم والنوع، ظنية ومبنية على تقديرات غير مؤكَّدة.
وتحدّثت هذه الأوساط عن حصول الحزب على صواريخ ذات مدى أكبر، وخصوصاً صاروخ "فاتح - 110"، الذي يصل مداه الأقصى إلى 250 كيلومتراً، ويتميز بتوجيهه الدقيق، نظراً إلى أنه يعتمد على التوجيه الداخلي عبر إحداثيات يتم إدخالها لمنظومة التحليق الخاصة بالصاروخ قبل الإطلاق. ويمكن تحديث هذه الإحداثيات خلال التحليق عبر وصلة للبيانات، وهو ما ينقل الترسانة الصاروخية للحزب إلى مرحلة أخرى تماماً. وتحدّثت الأوساط العسكرية الإسرائيلية أيضاً عن حصول الحزب على أعداد غير محدَّدة من الصواريخ الباليستية السوفياتية من طراز "سكود"، وأنه قام بتعديلات عليها من أجل تزويدها بحُزَم للتوجيه.
التغيُّرات التي حدثت في الترسانة الصاروخية لحزب الله لم تقتصر على دخول أنواع جديدة من الصواريخ في الخدمة، بل يُضاف إلى ذلك العمل على "تعديل" الصواريخ الموجودة بالفعل في حوزة الحزب، بحيث تحدّثت الأوساط العسكرية الإسرائيلية، منذ عام 2018، عن محاولة الحزب تعديل صواريخ "زلزال" لتصبح موجَّهة، وبصورة أدق نموذج "زلزال - 3"، الذي تمّ تقدير مداه الأقصى في حدود 250 كيلومتراً، بحيث يقلّ هامش الخطأ في تهديف هذا النوع عن خمسة أمتار، وهو ما يعني تحويله إلى صاروخ دقيق للغاية، وخصوصاً أن التقديرات الإسرائيلية للرأس الحربي لهذا الصاروخ تتراوح بين 700 و900 كيلوغرام. وتتحدث هذه الأوساط عن أن التحديثات تشمل نحو 14 ألف صاروخ من نوعي "زلزال - 2" و"زلزال - 3"، ومن خلالها يتم تعديل آلية توجيه هذه الصواريخ، بحيث تعتمد على التوجيه، بحسب إحداثيات نظام تحديد المواقع العالمي، أو نظام "غلوناس" الروسي، وهي آلية التوجيه نفسها الخاصة بصواريخ "فاتح - 110".
التجربة الصاروخية للمقاومة الفلسطينية
في ما يتعلق بالمقاومة في غزة، مرّت ترسانتها الصاروخية بتجارب مستمرة على مدى السنوات الأخيرة، ساهمت بصورة كبيرة في صقل الخبرات الميدانية لها، على النحو الذي أدى إلى النتائج المبهرة، والتي شهدها الميدان الفلسطيني خلال المواجهة الأخيرة.
لقد كانت البداية بين عامي 2001 و2005، من خلال تطوير ثلاثة أجيال من صواريخ "القسام"، التي وصل المدى الأقصى للجيل الثالث منها إلى 16 كيلومتراً، برأس متفجّر تصل زنته إلى 10 كيلوغرامات.
بعد ذلك، تحسَّنت الترسانة الصاروخية المتوافرة لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، فتسلّحت، بدءاً بعام 2007، بالمدفعية الروسية الصاروخية "غراد"، والتي يتراوح مدى صواريخها بين 20 و40 كيلومتراً. كما تزوَّدت أيضاً بنُسخ صينية الصنع من هذه الصواريخ، يصل مداها الأقصى إلى 45 كيلومتراً، ومزوَّدة برأس متفجر تبلغ زنته 20 كيلوغراماً. ومكّنها هذا الأمر من توسيع الهامش المضمون استهدافه من مناطق محتلة حول قطاع غزة، ليصبح في حدود 30 كيلومتراً، ليشمل مدناً ومستوطنات مهمة، مثل عسقلان و"نتيفوت" و"أوفاكيم" و"أسدود" وبئر السبع.
في عام 2012، تمكّنت فصائل المقاومة من زيادة مدى الصواريخ المتوافرة لديها إلى 75 كيلومتراً، الأمر الذي مكّنها من قصف مدينة "تل أبيب" وتخومها الجنوبية للمرة الأولى، وذلك عبر نوعين من أنواع الصواريخ: الأول صاروخ "سجّيل 55"، الذي يصل مداه إلى 55 كيلومتراً، وتبلغ زنة رأسه المتفجر 10 كيلوغرامات. وتمّ استخدامه في قصف مناطق متعدّدة وسط فلسطين المحتلة. النوع الثاني هو صاروخ "أم 75"، الذي تميّز بحجم رأسه المتفجر الكبير، بالمقارنة بجميع الأجيال الأُخرى من الصواريخ الفلسطينية المحلية الصنع. وتراوحت زنته بين 50 و70 كيلوغراماً، ووصل مداه إلى 75 كيلومتراً.
عام 2014، بدأت مرحلة أخرى من مراحل تطوّر الصناعات المحلية للصواريخ في فلسطين، بحيث تمّ خلال معركة "العصف المأكول" استخدامُ عدة أنواع من الصواريخ الجديدة المحلية الصنع، في صورة شكّلت قفزة نوعية على مستويَي المدى والقدرة التدميرية.
من هذه الصواريخ، "أر - 160"، الذي تم استخدامه في قصف مدينتي الخضيرة وحيفا، ويصل مداه إلى ما يُقارب 160 كيلومتراً، ووزن رأسه المتفجر يقترب من 100 كيلوغرام. وشكّل هذا الصاروخ صدمة كبيرة للأوساط العسكرية الإسرائيلية، نظراً إلى قدرته التدميرية ومداه الكبيرين، وخصوصاً أن خصائص هذا الصاروخ تتطابق مع صاروخ سوري الصنع، تزوّدت به المقاومة الفلسطينية سابقاً، وهو صاروخ "أم - 302"، وهو نُسخة من صاروخ "فاتح - 110". يُضاف إلى هذا الصاروخ، "جاي - 80" البالغ مداه 80 كيلومتراً، والمزوَّد برأس متفجر تصل زنته إلى 125 كيلوغراماً.
ظل صاروخ "أر - 160"، حتى وقت قريب، الصاروخ الأهم في الترسانة الفلسطينية، إلى جانب صاروخ "بدر - 3" الذي كشفت عنه للمرة الأولى "سرايا القدس"، الجناح العسكري لحركة "الجهاد الإسلامي"، في أيار/مايو 2019، وشكّل حينها نقلة نوعية أخرى للتسلُّح الفلسطيني، نظراً إلى أنه ينفجر فوق الهدف بنحو 20 متراً، ثم تنتج من هذا الانفجار مئات الشظايا التي تسبّب دائرة واسعة من التدمير.
خلال معركة "سيف القدس" الأخيرة، ظهر، على نحو واضح، حجم التطور الذي طرأ على الترسانة الصاروخية للمقاومة، سواء على مستوى المدى، أو القدرة التدميرية، أو دقة التوجيه، فلقد أعلنت كتائب "القسام"، خلال المعركة، استخدامها صاروخاً جديداً ذا مدى غير مسبوق، وهو صاروخ "عياش - 250"، الذي قصفت به الكتائب مواقع تقع شماليّ مدينة إيلات، على بعد نحو 217 كيلومتراً من غزة. وهذا فعلياً أقصى مدى تمكّنت صواريخ المقاومة من الوصول إليه حتى الآن. يُضاف إلى هذا الصاروخ نوعٌ آخر تم استخدامه للمرة الأولى خلال هذه المعركة، وهو صاروخ "أيه - 120"، الذي يصل مداه إلى 120 كيلومتراً، واستهدف مناطق تقع جنوبي مدينة "تل أبيب" وفي محيط مدينة "أسدود".
أمّا "سرايا القدس"، فقدّمت خلال هذه المعركة عدة أنواع جديدة من الصواريخ، منها صاروخ "القاسم"، الذي على الرغم من أنه ينتمي إلى فئة الصواريخ غير الموجَّهة، فإنه يتميز بميزة إضافية، هي الحجم الضخم لرأسه المتفجر، مقارنة بكل الصواريخ الموجودة حالياً لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، بحيث تبلغ زنة رأسه الحربي 400 كيلوغرام. وهو مبنيّ بصورة أساسية على غرار صواريخ المدفعية الصاروخية، من عيار 107 ملم، مع تعديل رأسه الحربي برأس آخر أضخم، يتحوّل الصاروخ بموجبه إلى عيار 350 ملم، الأمر الذي يضمن تحقيق أكبر أضرار ممكنة للأهداف القريبة. ويبلغ مدى هذا الصاروخ بين خمسة وعشرة كيلومترات، وهو في هذه الحالة يعمل كصاروخ تكتيكي للاشتباك المباشِر والاشتباك القريب.
الصاروخ الثاني الذي قدمته "سرايا القدس" خلال معركة "سيف القدس"، هو تعديل لصاروخ "بدر - 3"، وتمّت فيه زيادة المدى ليصبح 160 كيلومتراً، وزيادة الشحنة المتفّجرة لتصبح في حدود 250 كيلوغراماً، الأمر الذي سمح باستخدامه في قصف مناطق قرب "تل أبيب" وقرب مدينة "ديمونا".
معضلة الدقّة كانت من أهم التحديات التي واجهت الفصائل الفلسطينية خلال معركة "سيف القدس"، نظراً إلى أن كل الصواريخ الموجودة في ترسانتها كانت "غير موجَّهة"، وتعتمد على الآليات نفسها التي استخدمها حزب الله خلال حرب عام 2006.
ملامح المواجهات المستقبلية
كان لافتاً تغلُّب الفصائل على هذه المعضلة عبر عدة تكتيكات، يمكن من خلالها استشرافُ ملامح المواجهات المستقبلية بين محور المقاومة و"إسرائيل"، منها التوجه أكثر نحو تكتيك "الغزارة الصاروخية"، بحيث تكون الضربات على شكل صليات صاروخية، تتألف من 10 أو 20 صاروخاً، وهو ما يضمن زيادة احتمالات إصابة الهدف المستهدَف، ويضمن في الوقت نفسه إرباك منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية.
هذا التكتيك أثبت نجاحاً كبيراً، بالنظر إلى لجوء فصائل المقاومة إلى إطلاق أعداد كبيرة من الصواريخ - تصل في بعض الأحيان إلى مئة صاروخ في غضون ثلاث دقائق فقط - في توقيتات متزامنة، ومن خلال زوايا منخفضة قدر الإمكان، الأمر الذي أثّر بصورة كبيرة في قدرة صواريخ منظومة "القبّة الحديدية" الدفاعية على اعتراض هذه الصواريخ، واستنزفتها على نحو مستمر، الأمر الذي سمح بمرور عدد من الصواريخ، ووصوله إلى أهدافه، وخصوصاً أن آلية تشغيل منظومات "القبّة الحديدية"، تعتمد بصورة رئيسية على انتخاب الصواريخ الأكثر تهديداً للعمق الإسرائيلي، ثم تصويب صاروخ او اثنين عليها. وهي آلية تسمح بالتالي بعبور أعداد كبيرة من الصواريخ، وتستنزف في الوقت نفسه أعداداً مضاعَفة من الصواريخ الاعتراضية الباهظة الثمن.
تكتيك آخر لم يكن متَّبعاً عام 2006، يتعلّق بمنصات الإطلاق. لقد كان حزب الله خلال هذه الحرب يعتمد بصورة أساسية على منصات الإطلاق الثابتة، والتي كان عدد قليل منها مموَّهاً، بحيث لا يتم استهدافه جواً. لكن، في معركة "سيف القدس"، لوحظ توسُّعُ فصائل المقاومة الفلسطينية في استخدام مجموعة متنوّعة من منصات الإطلاق، سواء كانت ذاتية الحركة أو تحت أرضية أو سطحية قابلة للإخفاء تحت سطح الأرض. كما أن هذه المنصات التي كانت سابقاً فردية أو ثنائية أو رباعية، أصبحت متعدِّدة الفوّهات، الأمر الذي يسمح بإطلاق عدد كبير من الصواريخ في توقيت واحد.
على مستوى آخر، استخدمت فصائل المقاومة الفلسطينية بعض التكتيكات المساعدة لتحسين دقة الضربات الصاروخية، منها استخدام الطائرات من دون طيار في استطلاع نتائج هذه الضربات على المستوطنات المحيطة بغلاف غزة، إلى جانب زيادة مستوى المرونة في استخدام السلاح الصاروخي، ليصبح سلاحاً تكتيكياً في حالة الضرورة، يتم من خلاله إسكات مصادر النيران المعادية، مثل مرابض المدفعية الموجودة في محيط قطاع غزة، والتي كانت للمرة الأولى تحت تهديد متعدد الأوجه.
الردع الصاروخي
حتى على مستوى الردع، كانت معركة "سيف القدس" تطويراً واضحاً لمعادلة الردع الصاروخي، التي أرساها حزب الله عام 2006. لقد تمكّنت فصائل المقاومة الفلسطينية، من خلال استهدافها المكثّف للمدن الرئيسية في الشريط الساحلي لفلسطين المحتلة، وصولاً إلى عسقلان و"أسدود" و"تل أبيب" ومناطق جنوبي مدينة حيفا، ودقة الضربات الصاروخية التي أصابت مواقع مهمة في الكيان الإسرائيلي، مثل مطار "بن غوريون"، وعدة قواعد عسكرية، من وضع كامل الجبهة الداخلية الإسرائيلية تحت ضغوط مكثّفة أدّت إلى إحجام المخطّط العسكري الإسرائيلي عن إطلاق عملية برية نحو قطاع غزة، وخصوصاً بعد أن استخدمت الفصائل الفلسطينية السلاح الصاروخي وسيلةَ ردع تكتيكي، يتم فيه ضرب "تل أبيب" بصورة فورية، رداً على أيّ عملية قصف جوي لأحياء سكنية في غزة.
وبهذا، بات القوس العملياتي للمقاومة الفلسطينية خلال هذه المعركة يصل إلى 250 كيلومتراً، مقارنة بنحو 70 كيلومتراً للقوس العملياتي لحزب الله خلال حرب عام 2006، علماً بأن قدرات الحزب قطعاً باتت مغايرة تماماً حالياً.
إذاً، نستطيع أن نعتبر أن الفترة ما بين عامي 2006 و2021، بمثابة مرحلة تم فيها الإعداد لمعادلات صاروخية وعسكرية جديدة في الشرق الأوسط، لم يعد فيها سلاح الجو "عصا طولى" لجيش الاحتلال، وسقطت من خلالها فكرة "الضربات الاستباقية" التي كانت الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية تعتمد عليها، وخصوصاً بعد أن فقدت اليد العليا في بدء الحرب وإنهائها، وأصبحت نهاية أيّ مواجهة عسكرية رهناً بتوقف الصواريخ عن الانهمار على "البلدات الإسرائيلية".
والأهم في هذا الصدد أن سلاح الجو الإسرائيلي أثبت، خلال هذه الفترة، فشله التام في إيقاف الضربات الصاروخية شمالاً او جنوباً، وفشله أيضاً في منع فصائل المقاومة في إعادة التسلح وتطوير ما لديها من قدرات صاروخية، وهو ما ظهر بصورة أكبر خلال معركة "سيف القدس"، التي كانت مؤشّراً إلى قرب دخول كل فصائل محور المقاومة في مرحلة صاروخية جديدة، عنوانها الأساسي سيكون "القدرة الصاروخية الدقيقة وغير المتماثلة".
هي مرحلة ستفرض تحديات جديدة على جيش الاحتلال الإسرائيلي، أكبر كثيراً من التحدي الذي يفرضه أحد أكبر مخاوفه حالياً وهو "الإغراق الصاروخي".