الجميع يتجسّس على الجميع!
هل يتعلق الأمر بتميُّز إسرائيلي عندما تريد السعودية والإمارات أن تقتنيا أجهزة تنصُّت، أم أن اختيار التِّقْنية ينطلق من مبدأ الشريك الملائم، والذي في إمكانه أن يَطِّلع حكماً على كل العمليات؟
ما كُشف عنه ضمن "مشروع بيغاسوس" يمثّل فقط رأس جبل الجليد. برنامج "بيغاسوس" لا يعدو عن كونه واحداً من عشرات، بل مئات البرامج المماثلة. وإذا كانت "إسرائيل" سمحت ببيعه، فإن ما تحتفظ به وتُخفيه أخطرُ وأكثر تعقيداً. لكنّ الأمر لا يقتصر على "إسرائيل"، التي تحاول الترويج لصناعاتها العسكرية والأمنية، باعتبارها إحدى أذرع "الصداقة" وثمرة مشتهاة في سلة التطبيع. في الخفاء، ثمة حرب أدمغة لا تقلّ أهمية عن الحرب الظاهرية، وعن معارك النار والبارود. هذا النوع من المواجهات المكتومة، الذي يأتي برنامج "بيغاسوس" في سياقه، هو ما اصطُلح على تسميته "حروب السايبر"، أو الحروب الإلكترونية.
هي ليست المرة الأولى التي تُثار فيها قضية أمن البيانات والخصوصية. وليست المرة الأولى التي يجري فيها الحديثُ، في الإعلام العالمي، عن "بيغاسوس" بالتحديد. سبق أن قامت شركة "فيسبوك" بنقل القضية إلى القضاء الأميركي، ورفعت دعوىً ضد الشركة الإسرائيلية، بعد اختراقها برنامج "واتس آب".
لكن، هذه المرة، جاءت القصة مُغايرة في الشكل وفي المضمون. تؤكد صحيفة "نيويورك تايمز" المؤكَّدَ، من خلال كشفها، السبت الماضي، أن "إسرائيل" سمحت، بصورة سرية، لمجموعة من شركات المراقبة الإلكترونية بالعمل لمصلحة الحكومة السعودية. فهل يتعلق الأمر فقط بتميّز إسرائيلي، عندما تريد السعودية والإمارات أن تقتنيا أجهزة تنصت واختراق، تستهدفان بها مواطنيهما، بالإضافة إلى شخصيات سياسية وإعلامية؟ أم أن اختيار التِّقْنية ينطلق من مبدأ الشريك الملائم، والذي في إمكانه أن يَطِّلع حكماً على كل عمليات التجسس، باعتباره الجهة المُصنِّعة وصاحب التقنية؟
هذه البرامج والتقنيات، بمعزل عن المسائل الأخلاقية والقانونية، لا تحتكرها "إسرائيل". في الإمكان الحصول عليها من مصادر أخرى، بدليل أن كل الحكومات في العالم تمارس نوعاً من الرِّقابة لحماية أمنها القومي، بعضها في ظل القانون، وبعضها الآخر بمعزل عن القانون، ومن دون ضوابط.
الجدير بالتوقف عنده هو أصل اختيار "إسرائيل" من جانب الإمارات والسعودية، علماً بأن "دولة" الاحتلال سبق أن تعرَّضت لعدد من الاختراقات والهجمات السيبرانية، على نحو يدلّ على أنها ليست محصَّنة تجاه هذا النوع من المخاطر. فبعد أسبوع على إعلان الولايات المتحدة الأميركية أخطرَ هجوم سايبر تعرضت له في تاريخها أواخر العام الماضي، ولم يتم الإفصاح عن كل أبعاده وأضراره حتى الآن، أثارت صحيفة "إسرائيل هيوم" التساؤل بشأن مدى استعداد "إسرائيل" لهجمات مماثلة.
قلقُ "إسرائيل" من حرب "السايبر" ليس جديداً. منذ أعوام، يشكّل هذا المجال هاجساً لمسؤوليها في ظل ازدياد عدد الهجمات الإلكترونية على المنشآت الإسرائيلية.
بمعزل عن "إسرائيل"، تبرز قضية التجسس على نطاق عالمي، في إثْر المعلومات الاستثنائية التي كشفها إدوارد سنودن عام 2013. الموظّف الأميركي السابق في وكالة الأمن القومي الأميركية صدم الرأي العام العالمي، عبر إزاحته الستار عن عالم شديد السرية والخفاء.. برنامج تديره واشنطن للتجسس على الاتصالات الهاتفيّة والإنترنت عبر العالم.
حجم هذا التجسس وخطره لا يتعلّقان بالسياسيين فقط، بل يطالان أيضاً المواطنين على امتداد العالم. أشار سنودن إلى أنّ حكومة بلده وحكومات العالم حجبت عن الناس معرفة أنّهم مراقَبون، وأنّ الرِّقابة تطال كلّ شيء.
الغريب، وفق ما تُظهر الوثائق المُسربة، هو أن التجسس لا يقتصر على الخصوم، بل يطال الأعداء والحلفاء، على نحو يعكس النهج الذي درجت عليه الأجهزة التابعة لحكومات الولايات المتحدة في تقاليدها الاستخبارية.
تقرير، نشرته مجلة "دير شبيغل" الألمانية عام 2013، أظهر أن الولايات المتحدة الأميركية تراقب في المتوسط في اليوم الواحد نحو 20 مليون اتصال هاتفي في ألمانيا، ويرتفع الرقم إلى 60 مليون اتصال في الأيام المزدحمة.
سنودن حذّر، من موقع الخبير، من أنّ شركات الإنترنت العملاقة، ومواقع التواصل الاجتماعي، ومنها "غوغل" و"فيسبوك" و"واتس آب" و"أمازون"، تشكّل أذرعاً وأدوات في خدمة الرقابة الكونيّة المنظّمة.
ربما هذا ما يفسّر أحد جوانب حملة التشهير الأميركية ضد شركة "هواوي" في الأعوام الفائتة. الرئيس التنفيذي للشركة اعتبر، في مقالة في صحيفة "ذا فاينانشيل تايمز"، أن السبب الأول في الحملة الأميركية ضدها هو أن "هواوي" تُعَوِّق جهود الولايات المتحدة في التجسّس على من تريد. وقال إن من الواضح أنه كلما تم تثبيت عدد أكبر من معدات "هواوي" في شبكات الاتصالات السلكية واللاسلكية في العالم، أصبح من الصعب على وكالة الأمن القومي الأميركية "جمعُ كل شيء".
العلاقة التخادمية والربحية المتبادلة بين وكالة الأمن القومي الأميركية وشركات الاتصالات والتقنية الكبرى، تقود إلى تقرير نشرته "ذي إنترسيبت" بشأن المقر السرّي لإحدى الشركات الرائدة في الاتصالات في نيويورك، ويُرمَز إليها بمصطلح "ليثيوم".
لا يقتصر الأمر على الولايات المتحدة، بحيث ذكرت صحيفة "الغارديان" البريطانية عام 2013 أن أجهزة المخابرات في أنحاء أوروبا الغربية تشارك معاً في برامج مراقبة هائلة لحركة الإنترنت والهواتف، مماثلة لتلك التي تقوم بها أجهزة المخابرات الأميركية، والتي ندَّدت بها الحكومات الأوروبية.
في حزيران/ يونيو الماضي، نشر موقع "بوليتيكو" أن أجهزة الاستخبارات الدنماركية منحت نظيراتها الأميركية في وكالة الأمن القومي الوصول إلى التجسس على كبار السياسيين الألمان والفرنسيين والنروجيين والسويديين، من خلال كابلات الإنترنت في الدنمارك.
وتستضيف الدنمارك، الحليفة المقربة إلى الولايات المتحدة، عدة محطات إنزال لكابلات الإنترنت البحرية من السويد والنرويج وألمانيا وهولندا والمملكة المتحدة، وإليها.
نشرُ التقرير أعاد التذكير بملف التنصت والتجسس بين الحلفاء، بحيث برز في إطار الوثائق التي كشف عنها سنودن، استهداف الأميركيين حلفاءهم، مثل ميركل، إلى جانب كبار السياسيين الألمان، بمن في ذلك وزير المالية السابق بيير شتاينبروك، والرئيس فرانك فالتر شتاينماير.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها العثور على وكالات استخبارات أوروبية تتجسس، بعضها على بعض. ملفات سنودن وصفت أنشطة تجسس مماثلة قامت بها وكالة الاستخبارات البريطانية على شركة الاتصالات البلجيكية المملوكة للدولة، بلجاكوم، في عام 2013. وخلص المحققون البلجيكيون في عام 2018 إلى أن البريطانيين كانوا وراء الاختراق.
لكنّ اللافت، في هذا المجال، هو العلاقة الفريدة والاستثنائية التي تربط بريطانيا بالولايات المتحدة الأميركية. تشير صحيفة "الغارديان" البريطانية، في عام 2013، إلى أن وكالة الأمن القومي الأميركية موّلت ميزانية نظيرتها البريطانية "بنحو 100 مليون جنيه إسترليني لمدة 3 سنوات في الحد الأدنى، لضمان نفوذها وسطوتها على برامج التجسس البريطانية".
وأضافت الصحيفة أن سنودن حذّر من مخاطر العلاقة الوثيقة بين جهازي الاستخبارات المذكورين، "نظراً إلى جهودهما المشتركة في تطوير آليات تُعِينهما على التقاط مكالمات واتصالات عبر الإنترنت وتحليلها، بل إن الجهاز البريطاني أسوأ من نظيره الأميركي".
هذا المستوى من التعاون قد لا ينسحب على العلاقة الإسرائيلية الأميركية، على الرغم مما تحظى به "إسرائيل" من دعم ثابت ومميّز من جانب النُّخَب الحاكمة في واشنطن. وتُظهر المعطيات وجود مسار طويل من التجسس المتبادل بين الحكومتين. ففي عام 2019، وعلى الرغم من الدعم الذي قدّمته إدارة ترامب إلى "إسرائيل"، فإن الأجهزة الأمنية الأميركية كشفت عن "أجهزة مراقبة للهواتف المحمولة قرب البيت الأبيض ومواقع أخرى حساسة في واشنطن". وأكدت مسؤولية "إسرائيل" عن زرع أجهزة تنصّت في أنحاء متعددة من العاصمة واشنطن.
وعليه، تصدّرت "إسرائيل" قائمة الدول النَّشِطة في التجسس على الولايات المتحدة، خلف روسيا والصين، بحسب تقارير المسؤولين الأمنيين، كما وثقت نشرة النُّخب السياسية "بوليتيكو" ذلك بتاريخ 12 أيلول/سبتمبر 2019. ونالت "إسرائيل" مرتبة "الاستخبارات الأجنبية المعادية" للولايات المتحدة، بموجب وثيقة استخباراتية سرّية في عام 2013.