استراتيجية واشنطن في شرق آسيا: في بدايتها ومحفوفة بالمخاطر
وسْط خلافات عميقة تشهدها الإدارة الأميركية منذ بداية ولاية الرئيس دونالد ترامب، ملف واحد لا تبدو التبايُنات بشأنه كبيرة بين جميع الفاعلين في السياسة الأميركية، من فريق الرئيس إلى مسؤولي الحزبين، وصولاً إلى أجهزة الاستخبارات والبنتاغون وغيرهم.. إنه ملف مواجهة الخطر الصيني.
وإن كانت الصين هي نقطة الثقل وموضع التركيز الأميركي في عُمق استراتيجيتها الخارجية، لكن الأمر لا يقتصر عليها، بل إن السياسة الأميركية في كامل الشرق الأقصى خطفت الأضواء من ملفات المنطقة العربية، باستثناء اليمن وسوريا بدرجةٍ أقل. فبما تفكّر الولايات المتحدة في شرق آسيا.
تُعتَبر منطقة آسيا والمحيط الهادئ حيويّة بالنسبة لواشنطن، إنطلاقاً من تقديرها لتوازنات القوّة في العقود المقبلة، واعتبارها أن أبرز القوى المُنافِسة ستكون الصين، خصوصاً وأنها الأخيرة ومعها روسيا لا توفّران مناسبة للحديث عن عالمٍ جديد مُتعدّد الأقطاب، والدعوة المُتكرّرة إلى رسم هيكله وبداية نَقْش معالمه بصورة أكثر اتضاحاً يوماً بعد يوم.
في الاقتصاد والمال، وتجاوزاً لكل الأرقام التي تنتشر يومياً في الإعلام الغربي تحديداً عن شراسة المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، وصولاً إلى وصف الحال الراهنة بالحرب التجارية، كما يُكرّر ترامب نفسه: فإن الهدف الكبير الذي يؤرِق المسؤولين الأميركيين لم يعد كمية الاستثمارات الصينية حول العالم، أو حجم الأموال الصينية في السوق الأميركية حتى، أو ضخامة عائِدات التجارة الخارجية التي تُغذّي صندوق الاحتياط الصيني فحسب، بل أكثر من ذلك كله بروز توجّه صيني- روسي مُتنامٍ لتعزيز الموجودات من الذهب لدى كل من الدولتين من جهة، وبداية خطوات جدّية من قِبَلهما لتعزيز العملتين المحلّيتين، كمُقدّمة لكَسْر أحادية الدولار كعملة احتياط عالمي، وهذا وحده ما يمكّن موسكو وبكين من تغيير وجه النظام العالمي فعلياً، وفرض التعدّدية كواقعٍ ملموس.
وفي المسار نفسه، وعلى الرغم من انسحاب ترامب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ قبل عامين، لاعتباراتٍ تتعلّق بتوفير الوظائف للأميركيين، إلا أن علاقات اقتصادية وثيقة تجمع واشنطن بدول آسيوية كبروناي وسنغافورة وفيتنام، وصولاً إلى نيوزيلندا وأستراليا في أوقيانيا.
فماذا تفعل الولايات المتحدة في شرق آسيا من أجل وقف مسار التعدّدية، أو إبطائه بالحد الأدنى؟
لا تتبع واشنطن نسقاً واحداً من أجل التعامل مع ذلك، بل إنها تعتمد استراتيجيةً نشطة متعدّدة الوسائل والمسارات. على المسار الأول تعزّز تواجدها في بحر الصين الجنوبي، وتشدّ من إزر حلفائها هناك، مشدّدةً الخِناق على كوريا الشمالية الحليف الأبرز للصين في المنطقة، في سياق يضع بيونغ يانغ بين مطرقة المزيد من العقوبات والتهديدات العسكرية وحشد الأخصام في محيطها، وسندان المفاوضات الشاقّة التي يشهد الشهر المقبل لقاءً ثانياً في إطارها بين ترامب وكيم يونغ أون.
فإلى جانب علاقاتها الوثيقة بجزيرة تايوان تنسج واشنطن تحالفات عسكرية ممتدّة من أستراليا إلى كوريا الجنوبية واليابان، وتنتشر في الوقت عينه قواتها على شكل صولات بحرية حيناً، ومشاركات في مناورات مشتركة حيناً آخر تصل إلى دول وسط آسيا، فضلاً عن تواجد دائم للجنود الأميركيين في أكثر من دولة من دول الشرق الأقصى، وبوارج حربية بينها حاملة طائرات وأكثر من 50 سفينة بين اليابان وسنغافورة (واشنطن لديها قاعدة عسكرية ثابتة في اليابان فيها قرابة 50 ألف عسكري، ومنظومات صواريخ متطوّرة في كوريا الجنوبية).
في المقابل، يكثّف المسؤولون الأميركيون حديثهم في الآونة الأخيرة عن قوّة الصين العسكرية، وهذه ناحية لم تكن محطّ اهتمام كبير من قبل، لكن بروزها كنقطة محورية للبحث مؤخّراً يطرح علامات استفهام كبيرة حول نوايا واشنطن من جهة، وحول السياق الزمني لهذه النوايا، وطبيعة الخطوات المقبلة. خصوصاً عندما تأتي هذه المعلومات في سياق الحرب التجارية الدائرة بين البلدين. برز منها، تقرير وضعه البنتاغون أمام الكونغرس في آب الماضي عن تدريبات تقوم بها قاذفات صينية لضرب مواقع أميركية في المحيط الهادئ، واللافت في التقرير كان إشارته إلى أن الصين تتدرّب "للقتال والفوز" في تلك المنطقة. بالإضافة إلى إشارته إلى خطر تنامي قوّة الصين العسكرية إلى جانب القوّتين الدبلوماسية والاقتصادية.
ومع أن هذا المسار لم يبدأ مع ترامب، بل إن بروزه إلى العَلَن كان سنة 2011 مع باراك أوباما وهيلاري كلينتون اللذين سارا الخطوات الأولى لتحويل تركيز الاستراتيجية الأميركية إلى الشرق الأقصى، غير أن فكرة ترامب الجديدة حول جعل منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ "حرةً ومفتوحة" تبدو أكثر تحفّزاً وحدّة.
وفي مسارٍ آخر، يتمّ تسخين قضايا حقوق الإنسان إعلامياً، على نارٍ تستعر حيناً وتهدأ حيناً آخر، بانتظار لحظة جهوزيّتها كورقة حقوق إنسان أساسية في مواجهة الصين، وخصوصاً قضية بورما، إلى جانب قضايا كثيرة من الفصيلة نفسها تفتح ملفّاتها يومياً في وسائل الإعلام حول العالم.
سياسياً أيضاً، تحاول واشنطن حشد أكبر عددٍ ممكن من الدول في شرق آسيا إلى جانبها، فإلى جانب الحلفاء كاليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا وتايلند، تمدّ يد الشراكة لدول لم تكن محسوبة ضمن عِداد الحلفاء. وأبعد من ذلك، تركّز واشنطن كثيراً على إحداث تباعُد بين الصين والهند، على اعتبار أن الهند تمثّل القوّة الاقتصادية الأكبر في جوار الصين، والقادرة أكثر من غيرها على خوض منافسة في المساحة المشتركة بينهما. ويمكن القول إن واشنطن لا توفّر في الوقت الراهِن بلداً من بلدان شرق آسيا من زيارات دبلوماسييها المتكرّرة والنشِطة، لتعزيز حضورها السياسي هناك، تمهيداً لمرحلةٍ جديدة من المواجهة. بل إنها دعمت حركات احتجاجية في هونغ كونغ، داخل الصين نفسها.
وباختصار، يمكن القول إن استراتيجية الولايات المتحدة في شرق آسيا لها هدف أساسي كبير يتمثل باحتواء الصين، ومنعها من تشكيل قوّة اقتصادية عالمية مدعومة بعملة احتياط عالمي بديلة أو شريكة، وبالتالي إضعاف مناعتها في وجه التدخّل الخارجي بأنواعه المُجرّبة أميركياً في غير مكان حول العالم.
وفي سبيل ذلك، فإن الولايات المتحدة تنوّع وسائلها بين السياسة والدبلوماسية والاقتصاد ونَسْج التفاهمات مع الدول الأخرى من جهة، وتعزيز الضغط العسكري والإعلامي والأخلاقي من جهةٍ ثانية.
ويمكن القول إن التوازن الاستراتيجي في شرق آسيا لم يتحوّل لمصلحة الولايات المتحدة بفعل الاستراتيجية الحالية، لكنه مرشّح لأن يشهد اهتزازات غير معلومة المآل، والسبب في ذلك أن الطرف الآخر لديه من الوسائل المتنوّعة ما يمكن من الصمود طويلاً، ولديه فعلياً كل الفُرَص للانتصار في هذه المواجهة. عِلماً أن وسائل الصين تمتدّ إلى داخل الساحة الأميركية عبر الاستثمارات الضخمة في الاقتصاد الأميركي من ناحية، وفي البورصة والدَين الأميركيين من جهةٍ ثانية ، فضلاً عن العوامل السياسية والدبلوماسية على المستوى العالمي، والتي تقف فيها دول أخرى طامِحة إلى جانب بكين. وفي خلاصة القول إن معركة احتواء الصين لا تزال في بدايتها، وهي قابلة للتحوّل في اتجاهات عديدة، لن يكون العسكري منها بمُستغرَب.