عالم "أميركا بلاس" في الأفق
النظام الدولي يشهد خلال السنوات القليلة المنصرمة تصاعداً مطّرداً في منسوب التوتر بين مجموعة من الإرادات السياسية للدول، التي يعبّر عنها على المستوى الإعلامي بمواقف حادة وعالية النبرة تجاه القضايا المختلف فيها. تنازع في الإرادات يستعر حول شكل النظام الدولي، ومواقع القوى الكبرى فيه.
هدفٌ كبيرٌ وعالمي يقبع خلف واجهة الأحداث وأخبارها العاجلة، وفي عمق الحروب الأهلية والتوترات الإقليمية، وخلف صور العنف التي تجتاحنا من شاشاتٍ بين أيدينا. وهو كسب الصراع على الموقع والمكانة في النظام الدولي ضمن تعددية قطبية باتت في الأفق.
فالنظام الدولي يشهد خلال السنوات القليلة المنصرمة تصاعداً مطّرداً في منسوب التوتر بين مجموعة من الإرادات السياسية للدول، التي يعبّر عنها على المستوى الإعلامي بمواقف حادة وعالية النبرة تجاه القضايا المختلف فيها. تنازع في الإرادات يستعر حول شكل النظام الدولي، ومواقع القوى الكبرى فيه.
ولهذا التنازع انعكاسات تختلف بين قضية وأخرى، ففي أزمة معينة تتم ترجمته بالحديد والنار، بينما يأخذ شكل مداولاتٍ ومفاوضاتٍ وشدِ وجذب ديبلوماسي وسياسي في أزمةٍ اخرى، غير أن المشترك في الحالتين هو سعي القوى الكبرى إلى تحسين أو تحصين موقعها.
وقد بات من الواضح وجود رغبةٍ حثيثة لدى عددٍ من الدول الكبرى لكسر الأحادية القطبية، والوصول إلى عالمٍ متعدد الأقطاب، تعبّر كل دولة راغبةٍ به عن رغبتها هذه بالطريقة التي تناسب مصالحها، والتي ترى فيها وسيلةً مناسبة لتحقيق الهدف الكبير.
تعطّل الأحادية القطبية
ومنذ أن انتهت الحرب الباردة، كان العالم واقعاً تحت سطوة الإرادة السياسية الأميركية التي أنتجت الفوضى في كل أصقاع الأرض، فمارست إداراتها المتعاقبة فنون التجريب بالشعوب والأنظمة والدول، لتعكس سياستها الخارجية مصالح الكارتيلات الكبرى النافذة في واشنطن.
ومدّ رموز الشركات الكبرى المتحالفين مع كبار الساسة هناك أيديهم إلى المؤسسات الدولية، فسيطروا على مفاصلها، وفرضوا الشروط الاقتصادية والسياسية على الدول الأخرى بصورةٍ متفاوتة، فيما وسموا الدول الممانعة لإرادتهم بوسوم الشيطنة، سعياً إلى عزلها وعدم اتساع انتشار نموذجها.
وفي هذا السياق رفضت الولايات المتحدة على الدوام مطالبات الدول الأخرى مثل روسيا والصين والكثير من الدول النامية أيضاً بإصلاح الأمم المتحدة، وتحويلها إلى مؤسسة تمثل مصالح كل الدول، وبالأخص تلك الأقل قدرة على حماية مصالحها واستقرارها، بدلاً من أن تكون سيفاً بيد القوة العظمى ضد الآخرين.
لكن هذه السيطرة المتشعبة لم تدم لعقدين كاملين، فبدأت بوادر الخلل في النظام الدولي تظهر مع ظهور النتائج الفادحة للارتكابات الأميركية في أفغانستان والعراق، ثم الضربة القاسية التي تعرض لها النظام الاقتصادي الدولي بنتيجة الأزمة المالية العالمية عام 2008، ليتبين أن النموذج الاقتصادي الذي تم الترويج له لأكثر من ثلاثة عقودٍ ليس سوى نمر من ورق، قابل للانهيار بمؤثراتٍ ذاتية.
عودة البحث عن التعددية
لم يزل التعريف الأكثر شيوعاً للتعددية القطبيه يقول إن "النظام المتعدد الأقطاب هو نظام تكون فيه السلطة موزعة بين ثلاثة أقطاب على الأقل، بحيث يتمتع كل واحد من هؤلاء الأقطاب بمقدارٍ هائل من الثروة ومن القدرات العسكرية، بحيث يكون قادراً على عرقلة أو تعطيل الترتيبات السياسية الرئيسية التي تهدد مصالحه الكبرى".
وبنتيجة التأثيرات السلبية العالمية للأزمة المالية، صعّدت الدول الطامحة لأن تكون قطباً من لهجتها، واستندت في ذلك إلى جهودٍ ذاتية هائلة كانت قد بدأت بقطف ثمارها قبل عام 2008، وتحولت معها دول مثل روسيا والصين والبرازيل والهند وتركيا وإيران وغيرها إلى نماذج تحتذى في تعزيز قدراتها الوطنية، والانطلاق نحو الآفاق الإقليمية والدولية لمد نفوذها هناك.
وبالرغم من أن معظم هذه الدول لا تسعى إلى أن تكون قطباً دوليا -إخفاءً للطموح أو اعترافاً بعدم القدرة- فإن هذا الهدف يمثل رأس تطلعات روسيا والصين تحديداً.
فالدولتان حققتا خلال السنوات الأخيرة العشرين الأخيرة قفزاتٍ كبرى على مستوى إصلاح البنية الاقتصادية وتطوير القدرات العسكرية إلى المستوى الذي يليق بقطبٍ كامل الملامح.
وفي حين أن الصين تبدو أقل صراحةً في التعبير عن طموحاتها عملاً بمبدأ عدم إحداث الضجيج أثناء تسلق القمة، تبدو روسيا منذ إطلاقها لاستراتيجية الأمن القومي عام 2000 في توقٍ لا يهدأ إلى تحقيق الظروف المؤدية إلى نظام متعدد الأقطاب، تناسباً مع فكرة فيودور دستويفسكي في كتابه "الشياطين" والتي تقول: "متى انقطع شعب كبير عن الاعتقاد بأنه الوحيد الذي يقدر بفضل حقيقته أن يجدد الإنسانية وأن ينقذ الشعوب الأخرى، فإنه سرعان ما ينقطع عن أن يكون شعباً كبيراً، ثم إذا هو يصبح مادةً بشرية لا أكثر. إن الشعب، إذا كان عظيماً بالفعل، لن يقتصر أبداً على أن يقوم بدورٍ ثانوي في حياة الإنسانية، ولا بد أن يقوم بدورٍ من الطبقة الأولى، فإنما هو يريد أن يكون له المكان الأول تماماً، وأن يقوم بالدور الوحيد. إن الشعب الذي يفقد هذا الإيمان لا يبقى شعباً".
وقد باتت رغبة القيادة الروسية واضحة بأن تلعب هذا الدور العالمي الذي يعبر عن عظمة شعبها كما تراه، وكما يصر الرئيس فلاديمير بوتين على التأكيد في خطاباته.
محفزات وعوائق ومخاطر
في عام 2003 أصدر الخبير السابق لدى مصرف "غولدمان ساكس" جيم أونيل بحثاً حول الموقع الذي ستكون عليه الدول المكونة لـ"بريكس" بحلول عام 2050. ووصل في ختامه إلى نتيجة تقول إنه حتى ذلك الوقت، فإن البرازيل، وروسيا الاتحادية، والهند، والصين، سوف تتحول إلى قاطرةٍ للاقتصاد العالمي بأسره. وأن روسيا الاتحادية سوف تتجاوز بريطانيا اقتصادياً في عام 2027، وألمانيا في العالم التالي. متوقعاً أن تتجاوز الصين الولايات المتحدة في عام 2041 لتصبح الدولة الاقتصادية العظمى في العالم. ليصبح ترتيب الدول العملاقة اقتصادياً على الشكل التالي:
- الصين.
- الولايات المتحدة الأميركية.
- الهند.
- اليابان.
- البرازيل.
- روسيا الاتحادية.
وفي قمة "بريكس" الأخيرة التي عقدت في شيامن الصينية في أيلول الفائت، رسمت دول المجموعة مسارها نحو المستقبل وسط التحديات وعوامل مقلقة منها تباطؤ الاقتصاد العالمي والمظاهر المفاجئة في المجالات الأمنية والجيوسياسية الإقليمية، وغيرها.
ولكن الجديد المبشر حول مستقبل المجموعة التي تسهم اقتصاداتها مجتمعةً اليوم بأكثر من النصف للنمو العالمي، وتعتبر القوة الاقتصادية الرئيسية، كان إطلاق عجلة مبادرة "بريكس بلاس"، التي تتشاور من خلالها دول المجموعة مع دول أخرى طامحة لتحسين وضعها ونسج شراكاتٍ اقتصادية نافعة.
فقد شاركت كل من مصر وغينيا والمكسيك وطاجيكستان وتايلاند في مشاورات مع قادة "بريكس"، في حين يبدو أن هذا الخيار سيزداد جاذبيةً بالنسبة لدولٍ أخرى أيضاً.
وقد علّق أونيل نفسه على هذه القمة بالقول إن الأداء الاقتصادي للمجموعة قد فاق توقعاته السابقة.
وجاء في البيان الذي أصدره قادة "بريكس" في ختام القمة أن المجموعة ستناضل من أجل شراكة أوسع مع الأسواق الناشئة والأقطار النامية، مشيرين إلى أن الحوار والتعاون مع الدول غير الأعضاء سيكون "على قدم المساواة".
أما على المستوى العسكري، فإن مقداراً هائلاً من القوة بات في حوزة دول خارج السيكرة الأميركية، خصوصاً بعدما أعادت روسيا تنشيط صناعاتها العسكرية، في إطار الخطة التي أطلقها الرئيس بوتين عام 2003.
وعلى المستوى السياسي، فإن القدرة على عرقلة أو تعطيل الترتيبات السياسية الرئيسية التي تهدد المصالح الكبرى لروسيا والصين باتت مؤمنة، وهي تمارس فعلاً، وتدل على ذلك المرات المتكررة التي استخدمت فيها الدولتان حق النقض في مجلس الأمن ضد الإرادة الأميركية، لا سيما بخصوص الأزمة السورية.
ولكن لهذا التطلع مخاطر عديدة تبرز من خلال الوسائل التي تستعملها القوى الأخرى للحفاظ على موقعها، وخصوصاً دعم المنظمات التي تمارس أعمالاً إرهابية لتحقيق مكاسب جيو-سياسية، فضلاً عن المخاطر التقليدية، وتلك التي أبرزها إلى الواجهة تطور وسائل الجريمة المنظمة العابرة للحدود.
وفي النهاية، لا يمكن اعتبار التعددية القطبية واقعاً محققاً قبل وصول القوى الطامحة لدور القطب إلى مرحلة الاستقرار الاقتصادي والأمني والسياسي على المستوى الداخلي، وقبل ترجمة هذه التعددية من خلال المؤسسات الدولية، واعتراف القوى الكبرى جميعها بتحقق هذا النظام. لأن دون ذلك مخاطر كبرى، ليس أقلها ما نراه اليوم من فوضى عالمية ينمو في كنفها الإرهاب وبنتشر ليطال قلب المدن الآمنة على مساحة العالم.
وبالنتيجة، يبدو العالم أقرب إلى التعددية القطبية أكثر من أي وقتٍ مضى منذ الحرب العالمية الثانية، بل إن الحاجة إلى ولادة هذه حسم وإعلان هذه التعددية تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم، فهل تحذو الولايات المتحدة حذو "بريكس"، بأن تتقبل مشاركة الآخرين لها على قاعدة المصلحة المشتركة للعالم، فالعالم اليوم "أميركا بلاس" وليس أميركا وحدها، ولن يدوم حتى كـ"أميركا أولاً".