صندوق النقد والبنك الدوليان.. ما لهما وما عليهما

يُثير بعض الباحثين علامات استفهام عدّة على دور البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بسبب سيطرة الدول الكبرى على القرارات فيه، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية التي تساهم بالنصيب الأكبر من الحِصص فيهما.

مقر صندوق النقد الدولي في واشنطن

عقدت الأسبوع الماضي في واشنطن اجتماعات الخريف السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين، والتي تُعدّ أكبر منتدى عالمي يجمع صنّاع السياسات النقدية والمالية حول العالم. تحاول هذه المقالة الإضاءة على عمل هاتين المؤسستين الدوليتين وتبيان ما يؤخذ عليهما ويحسب لهما.

 

فالصندوق والبنك هما مؤسّستان شقيقتان ضمن منظومة الأمم المتحدة "تشتركان في هدف واحد، هو رفع مستويات المعيشة في البلدان الأعضاء فيهما". وتتبع المؤسّستان منهجين متكاملين لتحقيق هذا الهدف، حيث يركّز الصندوق على قضايا الاقتصاد الكلّي بينما يركّز البنك على التنمية الاقتصادية طويلة الأجل والحدّ من الفقر".

 

تبلورت فكرة إنشاء صندوق النقد الدولي(IMF) والبنك الدولي(World Bank) في مؤتمر دولي عُقد في بريتيون وودز في ولاية نيوهامبشير الأميركية في تموز – يوليو 1944، وكان هدف المُشاركين في المؤتمر، بحسب ما جاء في وثائقهما، هو "وضع إطار للتعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي يُفترض أن يُرسي اقتصاداً عالمياً أكثر استقراراً وازدهاراً". وتزعم المؤسّستان أن هذا الهدف لا يزال محورياً بالنسبة إليهما، وأن العمل الذي تقومان به يشهد تطوراً مستمراً لمواكبة المُستجدات والتحدّيات الاقتصادية.

 

لقد أوكل المجتمعون في برتون وودز إلى صندوق النقد الدولي مهمة الحفاظ على استقرار النظام النقدي العالمي، ما جعل من الصندوق مؤسّسة عالمية تسعى إلى إصلاح الأنظمة المالية للبلدان في العالم.

 

ويعقد الصندوق والبنك الدوليان اجتماعات مُشتركة منذ العام 1946 بهدف تحسين مستويات المعيشة في الدول الأعضاء.  ويُعقد الاجتماع السنوي المُشترك للصندوق والبنك الدوليين بين سبتمبر وأكتوبر في العاصمة الأميركية واشنطن لعامين من أصل ثلاثة أعوام، فيما تعقد الاجتماعات في السنة الثالثة في إحدى الدول الأعضاء.

 

وخلال فصل الخريف من كل عام، يعقد مجلسا محافظي مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اجتماعاتهما السنوية لمناقشة طائفة واسعة النطاق من القضايا ذات الصلة بالحد من الفقر وبالتنمية الاقتصادية والتمويل الدوليين.

 

ويبلغ عدد أعضاء كل من المؤسّستين 189 عضواً، ويحضر الاجتماعات السنوية زهاء 10 آلاف شخص، من بينهم حوالى 3500 من أعضاء وفود البلدان الأعضاء في هاتين المؤسّستين، ونحو 1000 مُمثل عن وسائل الإعلام، بالإضافة إلى ما يزيد على 5 آلاف زائر وضيف خاص، يأتون على نحوٍ رئيس من شركات القطاع الخاص وأوساط العمل المصرفي والمنظمات غير الحكومية.

 

 

 

أحد اجتماعات صندوق النقد الدولي

صندوق النقد الدولي

 

يختصّ الصندوق بتقديم القروض إلى الدول الأعضاء لمُعالجة العجز المؤقّت في موازين مدفوعاتها، وبذلك تعمل على استقرار أسعار الصرف، ويفرض في المقابل على الدول المُقترضة أن تستشيره بشأن الخطوات التي تتّخذها لتحسين وضع ميزان مدفوعاتها.

 

مقرّ الصندوق في العاصمة الأميركية واشنطن ويعمل فيه نحو 2600 موظف.

 

 

 

مهمة صندوق النقد الدولي: يزعم الصندوق في تعريف مهمته أنه يعمل على تشجيع التعاون النقدي الدولي للتخلّص من القيود على الصرف الأجنبي كي تستقر أسعار الصرف، وبذلك يمكن الموافقة على قبول عملات الدول الأعضاء في المدفوعات في ما بينها. ويقوم الصندوق بالإشراف على النظام النقدي الدولي، بما في ذلك الرقابة على سياسات أسعار الصرف لدوله الأعضاء، وطبقاً للاتّفاقية، فإن كل بلد مُلزَم بالتعاون مع الصندوق من خلال تقديم المعلومات اللازمة له. ومن شأن هذا الدور المُشرف على اقتصاديات الدول، أن يساعد صندوق النقد على التنبه للأخطار قبل وقوعها، وذلك لتمكين كل طرف من التصرّف في الوقت المُناسب لتجنّب الأزمات الاقتصادية الكبرى.

 

وقد اتّفق على أن تلتزم كل دولة من الدول الأعضاء بسعر الصرف المُحدّد لعملتها ولا تسمح بتقلّبات هذا السعر إلا في حدود +/- 1%, وسعر الصرف المُحدّد يكون على أساس الدولار الأميركي، وهو بالتالي مرتبط بالذهب وفقاً لسعر مُعيّن.

 

ويُقدّم الصندوق المشورِة بشأن السياسة الاقتصادية والمُساعدة الفنية لمعاونة البلدان الأعضاء على بناء اقتصاديات قوية والحفاظ عليها. كذلك يُقدّم الصندوق قروضاً للبلدان الأعضاء ويساعدها على وضع برامج لسياساتها الاقتصادية بغية حل مشكلات ميزان المدفوعات حين يتعذّر عليها الحصول على التمويل الكافي بشروط معقولة لتغطية مدفوعاتها الدولية الصافية.

 

ويسعى الصندوق إلى تحقيق تلك الأهداف من خلال آليات مُحدّدة، حيث ينصّ نظام الصندوق على أنه يجب على كل دولة عضو فيه أن تأخذ إذن الصندوق قبل خفض أو رفع قيمة عملتها، كما يجب عليها أن يكون لها حصة في أموال الصندوق تتكوّن من 25% ذهب و75% من عملة الدولة نفسها.

 

ويختصّ الصندوق بتقديم القروض إلى الدول الأعضاء لمُعالجة العجز المؤقّت في موازين مدفوعاتها، وبذلك يعمل على استقرار أسعار الصرف. ويرجع تحديد إمكانية الاقتراض وحقوق التصويت إلى حصّة الدولة في أموال الصندوق، فأميركا مثلاً لها حصّة تصويت بنسبة 23%، والمجموعة الاقتصادية الأوروبية مُجتمعة لها حصّة تصويت بنسبة 19%.

 

والجدير ذكره أن عدد الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي 187 دولة ويجتمع مجلس أعضائه مرتين في السنة.

 

وقروض الصندوق قصيرة الأجل نسبياً ويتم تمويلها من مجموع المُساهمات التي تدفعها البلدان الأعضاء في شكل اشتراكات للعضوية، كما أن مُعظم موظفي الصندوق من الاقتصاديين الذين يتمتّعون بخبرة واسعة في السياسات المالية والاقتصادية الكلية.

 

 

 

تمويل الصندوق

 

تُشكّل اشتراكات البلدان الأعضاء أهم مورد للصندوق، وتتمثّل أهمية الاشتراك في أنه على قَدر حجم التمويل يتحدّد عدد الأصوات. وتُعدّ الولايات المتحدة أكبر المساهمين في الصندوق، فيما تعتبر سيشيل أصغر المُشتركين. وعندما تحصل الدولة على قرض يكون ذلك في مقابل تقديم قيمة معادِلة من عملتها الخاصة، وعلى الدولة أن تستردّ هذه العملة الخاصة بها في مدة تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات.

 

 

 

 

مبنى البنك الدولي في واشنطن

البنك الدولي
مهمة البنك الدولي
: يزعم البنك في تعريف مهمته أنه يعمل على تشجيع التنمية الاقتصادية طويلة الأجل والحدّ من الفقر من خلال توفير الدعم الفني والمالي لمُساعدة البلدان الأعضاء على إصلاح قطاعات مُعيّنة أو تنفيذ مشروعات مُحدّدة، مثل بناء المدراس والمراكز الصحية وتوفير المياه والكهرباء ومُكافحة الأمراض وحماية البيئة. والمُساعدات التي يُقدّمها البنك الدولي هي مُساعدات طويلة الأجل بصورة عامة، وتموّل من مساهمات البلدان الأعضاء ومن خلال إصدار السندات. وأغلب موظفي البنك الدولي هم من المُتخصّصين في قضايا وقطاعات أو تقنيات مُعيّنة.

 

وتملك حكومات البلدان الأعضاء المؤسّسات التي تشكّل مجموعة البنك الدولي، وتملك هذه الحكومات سلطة اتّخاذ القرارات النهائية بشأن جميع الأمور المُتعلّقة بعمل المجموعة، بما في ذلك السياسات والقضايا المالية أو المُتعلّقة بالعضوية.

 

وتُنظّم البلدان الأعضاء عمل مجموعة البنك الدولي عن طريق مجالس المُحافظين ومجالس المُديرين التنفيذيين. وتتّخذ هذه الكيانات جميع القرارات الرئيسية في مؤسّسات مجموعة البنك.

 

وبموجب اتّفاقية إنشاء البنك الدولي للإنشاء والتعمير، ينبغي لأي بلد يرغب في الانضمام إلى البنك أن يصبح أولاً عضواً في صندوق النقد الدولي. كما أن الانضمام إلى المؤسّسة الدولية للتنمية، ومؤسّسة التمويل الدولية، والوكالة الدولية لضمان الاستثمار مشروط بالانضمام إلى البنك الدولي للإنشاء والتعمير.

 

 

 

موارِد البنك الدولي

 

لقد أنشىء البنك برأس مال قدره عشرة ملايين دولار أميركي مُقسّمة على عدد مُعيّن من الأسهم حيث تبلغ قيمة كل سهم منها 100 دولار أميركي، حق الاكتتاب قاصر فيها على الدول الأعضاء وتم ارتفاع رأس المال بتزايد عضوية الدول فيه وزيادة المُساهمات وتحدّد حصّة كل سهم عضو في رأس المال البنك الدولي على نحو التالي:

 

2% من حصة العضو تُّسدّد ذهباً أو بالدولار ويستطيع البنك استخدام هذا المبلغ لغرض التسليف.

 

18% من حصة العضو تُسدّد من عملات الدول الأعضاء ويمكن الاستفادة من هذه العملات لغرض التسليف بعد الحصول على موافقة أصحابها الدول الأعضاء

 

80% الباقية يحتفظ بها الدول الأعضاء لكنها قابلة للطلب في حال احتياجها من طرف البنك لمواجهة احتياجاته.

 

 

 

الإقراض

 

لا يعتمد البنك الدولي فقط على رأس ماله المُكتَسب في الإقراض ومُساعدة الأعضاء وإنما يعتمد أيضاً على القروض التي يحصل عليها عن طريق إصدار وبيع السندات في الأسواق المالية أو عن طريق ضمان البنك الدولي للقروض التي تُقدّمها البنوك الخاصة إلى الدول الأخرى.
إطار التعاون بين البنك والصندوق

 

يتعاون صندوق النقد والبنك الدوليان بصورة مُنتظمة وعلى مستويات مُتعدّدة لتقديم المُساعدة اللازمة للبلدان الأعضاء والعمل معاً في مُبادرات مُشتركة. وفي عام 1989 تم تحديد شروط التعاون بينهما في اتّفاقية أُبرمت لضمان التعاون الفعّال في مجالات المسؤولية المُشتركة. وخلال الاجتماعات السنوية التي يعقدها مجلسا محافظي الصندوق والبنك الدولي، يُقدّم المحافظون وجهات نظر بلدانهم بشأن قضايا الاقتصاد والمالية الجارية على المستوى الدولي، وبالتالي يُقرّر المجلسان كيفية مُعالجة القضايا الاقتصادية والمالية الدولية، كما يُحدّدان الأولويات للمؤسّستين.

 

وتلتقي مجموعة فرعية من محافظي الصندوق والبنك الدولي أيضاً ضمن لجنة التنمية التي أُنشئت عام 1974، والتي تتزامن اجتماعاتها مع اجتماعات الربيع والاجتماعات السنوية المُشتركة للمؤسّستين. كما يعقد مدير عام الصندوق الدولي ورئيس البنك الدولي اجتماعات مُنتظمة للتشاور حول أهم القضايا، كما يُصدران بيانات مُشتركة وأحياناً يكتبان مقالات مُشتركة، وقد سبق لهما القيام بزيارات مُشتركة لمناطق وبلدان عديدة.

 

ويحرص خبراء المؤسّستين على التعاون الوثيق في المجالات المُشتركة المُتعلّقة بالمُساعدات وقضايا السياسات الاقتصادية. وكثيراً ما توفد المؤسستان بعثات مُتوازية إلى البلدان الأعضاء ويشارك خبراء كل منهما في بعثات المؤسسة الأخرى. وتمثّل التقييمات التي يجريها الصندوق للموقف الاقتصادي العام في البلدان الأعضاء عنصراً مساهماً في تقييمات البنك الدولي لمشروعات التنمية أو الإصلاحات المُحتملة. وبالمثل، يراعي الصندوق في ما يقدّمه من مشورة بشأن السياسة الاقتصادية للبلدان الأعضاء مشورَة البنك الدولي لها بشأن الإصلاحات الهيكلية والقطاعية. كذلك يتعاون خبراء المؤسّستين في تحديد الشروط التي تُصاحِب برامج الإقراض في كل منهما.

 

وقد خلصت المراجعة الخارجية لحال التعاون بين البنك والصندوق في عام 2009 إلى وضع خطّة عمل مُشتركة بين إدارتي المؤسّستين حول التعاون في ما بينهما، وذلك لتحسين المنهج المُستخدَم في عمل المؤسّستين معاً.

 

ويزعم الصندوق والبنك الدوليان أنهما يتعاونان معاً في تخفيف أعباء الديون الخارجية التي تتحمّلها مُعظم البلدان الفقيرة المُثقلَة بالديون، وأنهما يواصلان مُساعدة البلدان مُنخفِضة الدخل على تحقيق أهدافها الإنمائية من دون أن يؤدّي ذلك إلى مشكلات مديونية في المستقبل.

 

وفي عام 1999 استهلّ الصندوق والبنك الدوليان مهمة إعداد تقارير استراتيجية الحدّ من الفقر كعنصر رئيس في العملية المؤدّية إلى تخفيف مديونية البلدان المؤهّلة للاستفادة من مبادرة "هيبيك" وكركيزة للإقراض المُيسّر الذي يُقدّمه الصندوق والبنك الدوليان.

 

ويتعاون الصندوق والبنك منذ عام 2004 في نشر تقرير الرصيد العالمي الذي تضمن حتى الآن تقييماً للتقدّم نحو تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية، ويشاركان بفعالية في الجهود العالمية لتنفيذ جدول أعمال التنمية لعام 2030. كما يعملان معاً لإكساب القطاعات المالية في البدان الأعضاء درجة من الصلابة في مواجهة الصدمات وضمان خضوعها لمستوى جيّد من التنظيم. وقد استُحدِث برنامج في عام 1994 لتحديد مواطن القوة والضعف في النظام المالي لدى أي بلد عضو والتوصية بإجراءات السياسة الاقتصادية الملائمة لمعالجتها.

 

 

 

 

 

 

 

رئيسة صندوق النقد الدولي، كريستين لاغارد


دور صندوق النقد الدولي

 

يُثير بعض الباحثين علامات استفهام عدّة على دور صندوق النقد الدولي، بسبب سيطرة الدول الكبرى على القرارات فيه، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية التي تساهم بالنصيب الأكبر من الحِصص في الصندوق، إذا بلغت حصّتها في العام 1999 18.25%.

 

من أهم الأدوار التي يقوم بها صندوق النقد الدولي، أنه يُقدّم قروضاً بالعملات الأجنبية للدول التي تواجه مشكلات في ميزان المدفوعات، وذلك لتطمين الدول الأعضاء إلى وجود مؤسسة دولية قادرة على تزويدها بالأرصدة اللازمة لسدّ أيّ عجز مؤقّت في ميزان المدفوعات، كما أنه وسيلة لإغراء الدول للدخول في عضوية الصندوق، على الرغم مما يترتّب عن ذلك من تنازل عن حرية التصرّف بالأموال المدفوعة.

 

إن حق البلد العضو في الإقتراض ليس مقيّداً بموافقة الصندوق فحسب، إذ يُضاف إليها أن الحد الأقصى للقرض مُحدّد حسب حصّة البلد العضو في الصندوق لدى البنك المركزي المعني لدعم احتياطاته الدولية. كما أن قروض الصندوق مشروطة بالسياسات، بمعنى أن الشروط تساعد على ضمان عدم استخدام البلد المعني لقروض الصندوق لإنشاء المزيد من الديون، وبالتالي تأجيل الاستحقاقات المالية له.

 

ومن أبرز الشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي:

 

- خفض النفقات الحكومية، وتتضمّن تقليص التقديمات الاجتماعية للمواطنين، رفع الدعم عن مواد أساسية وغذائية، زيادة الضرائب على المواطنين،...

 

- تحرير العلاقات التجارية لا سيما إلغاء الرسوم الجمركية، وتحرير حركة رؤوس الأموال.

 

- خصخصة مؤسّسات القطاع العام.

 

-   خفض سعر العملة الوطنية، وتعويمها.

 

-إلغاء الدعم عن سعر المحروقات.

 

- تشجيع الاستثمار الأجنبي.

 

وفي كثير من الأحيان تؤدّي شروط الصندوق الدولي إلى ارتفاع لمعدل البطالة، وانخفاض في القدرة الشرائية، وتبعية خاصة غذائية، ويُضاف إليها تفكّك للأنظمة الإنتاجية في العديد من الدول.

 

ووصفت المسؤولة السابقة في برنامج الأمم المتحدة للتنمية إيزابيل غرامبرغ هذه الأمور بالجريمة، مُعتبرة أن صندوق النقد الدولي ليس مُشارِكاً فيها فقط، بل إنه المايسترو الذي يُدير نظاماً شاملاً، يسحب الأموال من الفقراء ليموّل إنفاق أقلية غنية من الناس، والنتيجة هي انخفاض الدخل الوطني في البلدان النامية إلى حده الأدنى جراء تطبيق سياسات الصندوق، بالمقابل يزداد الدخل الوطني في البلدان الصناعية إلى حدّه الأقصى.

 

 

 

 

البنك والصندوق في خدمة أميركا؟

 

يأخذ عدد من المُفكّرين والباحثين على البنك وصندوق النقد الدوليين أنهما يعملان لخدمة "النظام العالمي الجديد" و"الشركات عابرة القوميات". ويعتبر الكاتب الأميركي نعوم تشومسكي أن هذه الشركات هي أحد أبرز دوائر النفوذ التي تتحكّم في هذا النظام العالمي وتعمل عليه.

 

ويعتبر بعض المُراقبين أن البنك الدولي وصندوق النقد هما أبرز أدوات هذا النظام حيث يقومان بإقراض الدول الفقيرة بقصد التنمية بينما تقوم هاتان المؤسّستان بتطبيق الشروط الخاصّة بها والتي عادةً ما تكون ضدّ مصلحة الدول الفقيرة. فهاتان المؤسّستان تقومان بإقراض الدول الصغيرة بما يُساعد حكومات الدول الكبرى (الولايات المتحدة الأميركية غالباً) على التدخّل اقتصادياً في هذه الدولة، عبر استثمارات وجماعات ضغط تجعل من هذه الدول تابعة لها.

 

ويُشير بعض الاقتصاديين إلى أن مُعدّل البطالة والفقر في الدول التي اقترضت من البنك الدولي ومن صندوق النقد الدولي يتزايد مع تزايد الديون، وبالتالي تتزايد نسبة تبعيتها لمالكي هاتين المؤسّستين. وباتّفاق ضمني بين مدراء المؤسّستين لا تخرج هذه الدول عن التبعية لأوروبا والولايات المتحدة، كما يؤكّد المُستشار السابق في البنك الدولي، جوزيف ستجليتز

 

ويضرب الاقتصادي ميشيل تشوسودوفيسكي أمثلة عدّة على هذه الحالات، منها الصومال، حيث قام البنك الدولي وصندوق النقد بإقراض الصومال، وإرغامه على اتّباع نمط اقتصادي مُعيّن جعل البنك والصندوق يتدخّلان مباشرة في سياساته الاقتصادية.

 

فعلى سبيل المثال، ساعدت الإصلاحات التي نصح بها صندوق النقد الدولي الحكومة المغربية سنة 2012، في تحريك عجلة الاقتصاد، وتحسّن النمو في عام 2015 بمقدار 5%، وعالجت الاختلالات المالية المحلية والخارجية. كما مكّنت الحكومة من تعزيز تحكّمها بالميزانية العامة بعد خفض الإنفاق، حيث تراجع الدعم العمومي للمواد الطاقية والغذائية المستوردة، مثلما أنقذت السيولة المالية المُقدّمة من المؤسسة المالية الدولية الاقتصاد المغربي من الانهيار. لكن من جهة أخرى، قادت سياسة القروض هذه إلى رهن مستقبل المغرب لدى المؤسسات المالية الكبرى، حيث ستصبح الأولوية لسَداد هذه الديون المهولة، التي تتراكم يوماً بعد يومٍ نتيجة الفوائد المالية، بدل الانكباب على التنمية والإصلاحات الداخلية، الأمر الذي ينعكس سلباً على حياة مواطنيها، وبخاصة الفقراء منهم.

 

كما أن الإصلاحات الموصى بها من صندوق النقد الدولي، لم تحسّن أحوال الطبقات الشعبية، إذ صار المواطن البسيط يدفع ثمن تلك الإصلاحات، من خلال ارتفاع أسعار المواد الطاقية والغذائية، وتمديد سن التقاعد، وتزايد خصخصة القطاعات العمومية.

 

يقول الخبير الألماني أرنست فولف في كتابه "صندوق النقد الدولي قوّة عُظمى في الساحة العالمية" إن الصندوق قد استغلّ تراجع اقتصادات الدول الناشئة وأجرى مفاوضات مع حكوماتها لضمان سَداد ديونها المُتراكمة للمصارف العالمية. ويضيف: "لم يستخدم الصندوق أسلحة أو جنوداً بل كان يستعين بوسيلة غاية في البساطة، وبواحدة من آليات النظام الرأسمالي، أعني عمليات التمويل".

 

ويشير فولف إلى أن الصندوق كان خلال الأعوام الخمسين الماضية، أكثر المؤسسات المالية تأثيراً في حيوات جموع غفيرة من البشر، فمنذ تأسيسه، واظب الصندوق على أن تتّسع دائرة نفوذه، لتمتدّ الى أقصى أنحاء المعمورة، فعدد أعضائه بلغ في اليوم الحاضر 188 دولة موزّعة على خمس قارّات. وعلى مدى عقود كثيرة من الزمن كان الصندوق يمارس نشاطه في أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية في المقام الأول، ففي هذه القارّات نادراً ما يوجد بلد لم تخضع حكومته مرّة أو مرّات عدّة، لتنفيذ سياسة الصندوق.

 

 

 

  

 

 

اجتماعات الربيع المشتركة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في واشنطن


الملاذ الأخير للسيولة

 

رسمياً، تكمن وظيفة الصندوق الأساسية في العمل على استقرار النظام المالي وفي مساعدة البلدان المأزومة على تلافي ما تعانيه من مشاكل، غير أن تدخّلاته تبدو في الواقع أشبه ما تكون بغزوات جيوش مُتحارِبة، فهو في كل تدخّلاته ينتهك سيادة هذه الدولة أو تلك ويجبرها على تنفيذ إجراءات ترفضها الأغلبية العُظمى من المواطنين وتُخلّف وراءها مساحة عريضة من خراب اقتصادي واجتماعي.

 

وما أن يتعرّض أحد البلدان لمشاكل مالية نجد أن الصندوق يقف على أهبة الاستعداد عارضاً مُساعدته في هيئة قروض، وفي المقابل يطلب تنفيذ إجراءات تضمن قدرة البلد المعني على تسديد هذه القروض. وكونه "الملاذ الأخير للتزوّد بالسيولة" على مستوى العالم، فليس أمام حكومات البلدان المأزومة غير قبول عرض الصندوق وتنفيذ شروطه، وإن ترتّب على ذلك السقوط أكثر فأكثر في فخّ مديونية لا فرار منه بفعل ما يتحمّل البلد المُقترِض من فوائد وفوائد مركبّة وأقساط لتسديد الديون، بحيث تنعكس هذه الأعباء المالية سلباً على الموازنة الحكومية والاقتصاد الوطني. وبالتالي تتسبّب قروض الصندوق الدولي في نهاية المطاف في تردّي الوضع المالي أكثر فأكثر الأمر الذي يُتيح للصندوق الفرصة لأن يطالب الدولة المعنية بتنفيذ برامج تقشّفية لا نهاية لها، كما يذكر الباحث الألماني أرنست فولف.

 

وهكذا تسبّبت برامج صندوق النقد الدولي في خسارة ملايين العمّال فُرَص عملهم وباتوا محرومين من رعاية صحية فعّالة ونظام تعليمي مُناسب ومسكن يُراعي كرامة الإنسان، لأن برامج الصندوق قد تسبّبت في ارتفاع أسعار المواد الغذائية وإيجارات المساكن، أدّت إلى تقلّص قيمة مدّخرات المُسنّين ما عزّز انتشار الفقر والجهل والأمراض وخفض متوسّط الأعمار وزاد من مُعدّلات وفيّات الأطفال الرُضّع.

 

ويخلص فولف إلى أن سياسة الصندوق قد ساهمت في تراكم ثروات حفنة من الأغنياء. وبرغم تعالي الانتقادات الموجّهة للصندوق ووضوح النتائج الوخيمة لسياساته، لكن حكومات كل الأمم الصناعية الرئيسية ما انفكّت تساند الصندوق وتمنحه ثقتها بلا قيد أو شرط.

 

فممارسات صندوق النقد الدولي في دول العالم الثالث تُعيد الى الأذهان تاريخ أبشع عصور الهيمنة الكولونيالية. فالمُساعدات التي يُقدّمها الصندوق لبعض هذه البلدان منذ 40 عاماً لم تسهم في نمو أو رخاء هذه الدول، بل زادت مديونيّتها واتّسعت دائرة الفقر فيها.

 

يخلص فولف إلى أن الهدف من تأسيس الصندوق لم يكن كما يزعم البعض استحداث نظام نقدي عالمي جديد وقوي وخالٍ من العيوب، بل كان هدف تأسيسه تعزيز هيمنة القوة العُظمى الجديدة في العالم، الولايات المتحدة الأميركية على النظام العالمي الجديد!.