في الإليزيه كما في البيت الأبيض.. المحك في الشرخ الداخلي والإرهاب
الملفات المشتعلة في الطريق إلى الإليزيه شبيهة إلى حدٍ كبير بتلك التي أثيرت في المعركة إلى البيت الأبيض. ومهام الرئيسين الأميركي والفرنسي تفرض نهجاً مختلفاً حيال القضايا الداخلية من جهة، ومكافحة الإرهاب من جهةٍ ثانية.
الرئيس الفرنسي الجديد أمامه سنتان على الأقل ليبدأ عهده فعلياً بإحداث تأثيرات ملموسة
الشرخ الكبير القائم في
فرنسا منذ ما قبل الانتخابات الرئاسية التي وصلت إلى لحظة ذورتها، يبدو أنه مرشح
للاستمرار إلى ما بعد الانتخابات. الأسباب كثيرة وغير مرتبطة بالمعركة الانتخابية
فحسب، بل إنها نتاج مسارٍ وصلت إليه البلاد، وغيرها من الدول الغربية التي وجدت
نفسها في السنوات الأخيرة في حالة انعدام توازن، له بدوره أسباب عديدة.
الانتخابات الرئاسية تجري
في جو من الخوف الذي يعيشه الفرنسيون، وهو ينقسم إلى شقّين. الأول متعلق بالأوضاع
الداخلية في البلاد. البطالة، الضرائب، مطالبات بسياساتٍ تجارية حمائية، واتهامات
متبادلة وصلت حد تراشق الإهانات بين إيمانويل ماكرون ومارين لوبن. فيما يتعلق الشق
الثاني بالخشية من تنامي الإرهاب وامتداده إلى الداخل الفرنسي، وكيفية تعاطي
الدولة ومسؤوليها مع مخاطره. ولهذين الشق ارتباط وثيق وتأثير على العلاقة مع
أوروبا، ومع أميركا، ومع دول الشرق الأوسط.
وفيما انطلق ماكرون مبتعداً
باستطلاعات الرأي التي تشير إلى قدرته على تحقيق الفوز، تبرز إلى الواجهة تساؤلاتٍ
كبرى حول الولاية الرئاسية التي سوف تنبثق عن الانتخابات. فأي قضايا سوف تحوز
أولوية الاهتمام بالنسبة للرئيس الجديد؟ وأي اتجاه ستسلكه فرنسا بخصوص أوروبا؟ ما
هي السياسة التي سينتهجها الرئيس الجديد تجاه الحليف الأقوى في واشنطن؟ وأي
استقلالية للقرار الفرنسي في ما يتعلق بالشؤون العالمية أبعد من حدود القارة
العجوز؟ وأهم من هذا كله، كيف ستكون سياسة فرنسا في السنوات المقبلة تجاه سوريا
وفلسطين والعراق وقضايا الشرق الأوسط المشتعلة؟
القراءة الأولية للمعطيات
الفرنسية الداخلية تشير إلى أن الرئيس الفرنسي الجديد أمامه سنتين على الأقل ليبدأ
عهده فعلياً بإحداث تأثيرات ملموسة تمثل مشروعه للدولة، أي بعد أن تجري الانتخابات
البرلمانية. فماكرون الذي يطمح إلى إحداث نقلةٍ نوعية في حكم البلاد، دخل السباق
من خارج السياق التقليدي إلى الإيليزيه بين اليسار واليمين، وهو بسبب ذلك يحتاج
أولاً إلى تمتين رئاسته بعماد الكتلة البرلمانية التي ينتظر تشكلها بنتيجة
الانتخابات المقبلة، إلى جانب تدعيم ذلك في الحكومة المنبثقة عن تلك الانتخابات.
وهو في الداخل أيضاً، أمام
معضلة اقتصادية تتمثل بحاجة الفرنسيين إلى عشرات آلاف الوظائف الجديدة بصورةٍ
عاجلة، مع حماية المنتجين الفرنسيين من المنافسة الأجنبية، وهو ما تشدد عليه لوبن،
ويشبه إلى حدٍ كبير ورقة ترامب الرابحة خلال الانتخابات الرئاسية التي أوصلته إلى
المكتب البيضاوي.
أما في الخارج، فإن خيارات
فرنسا محدودة جداً. للأسباب التالية:
أولاً: فيما يتعلق بالاتحاد
الأوروبي وجدت باريس نفسها بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي –كائناً من
الرئيس الفرنسي- أمام حتمية الدفاع عن أوروبا موحدة. فأوروبا لن تعود إلى الوراء،
وهي تشبه بذلك "بكرة" المحرك، تدور باتجاه واحد، وإذا ما أجبرت على
الدوران المعاكس إنها سوف تتشظى. والقرار بخصوص ذلك ليس أوروبياً بالضرورة.
ثانياً: تنتظر أوروبا ومعها
العالم لحظة تجاوز العالم عاصفة وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وانقشاع غبارها عن
سياساتٍ أميركية واضحة تجاه بقية المعمورة.
ثالثاً: شيوع حالة نكوص في
الدول الكبرى باتجاه السياسات الوطنية والقومية، والحمائية أحد عناوين التعبير
عنها، ويصحب ذلك رواج للخطاب الشعبوي الذي يسمع صداه من أميركا إلى فرنسا
وبريطانيا وروسيا وغيرها...
رابعاً: حصول الانتخابات
الفرنسية الحالية في مرحلة إعادة تشكيل قوانين جديدة تحكم نفوذ الدول الكبرى في
أكثر من منطقة مهمة حول العالم، ومنها الشرق الأوسط.
خامساً: تزاوج المخاطر
الإرهابية التي أصبحت معولمة، مع ارتدادات الأزمة المالية العالمية التي أنتجت
أوضاعاً اقتصادية غبر متينة في معظم الدول الكبرى.
هذه إذن الأسباب المنتجة لمحدودية خيارات السياسة الخارجية الفرنسية تحت مسؤولية الرئيس الجديد، فما هي هذه الخيارات؟
بالنسبة لأوروبا، فإن فرنسا مجبرة خلال الفترة الرئاسية العتيدة على القتال لأجل أوروبا موحدة، والاضطلاع بدورٍ فاعل في هذا السياق، وعدم ترك ألمانيا وحيدة في الميدان الأوروبي. ولكن لأجل أميركا وفرنسا وليس لأجل ألمانيا. فمن نافل القول ان واشنطن لا ترغب بسيطرة ألمانية مطلقة غير موزونةٍ بقوة أخرى في محيطها. تماماً كما تسعى واشنطن دائماً إلى مراقبة العلاقات الألمانية-الروسية.
فضلاً عن ضرورة بقاء فرنسا ضمن الناتو، وتهديد خطاب لوبن غير المتحمس للمشاركة بقوة ضمنه للدور الفرنسي الذي أعيد عام 2008 إلى البنية العسكرية للحلف، في انتصار أميركي على فرنسا الديغولية التي خرجت منه عام 1966.
أما بما يخص الشرق الأوسط، وهو ما يعني القارىء العربي بالدرجة الأولى، فإن المعطيات الثابتة والمتغيرة المؤثرة في السياسة الفرنسية تجاه المنطقة في الوقت الراهن، تشير إلى أن الرئيس الفرنسي سيسير مجدداً في ظل الموقف الأميركي من المنطقة. فقدرات
فرنسا الشرق أوسطية ضعيفة بأفضل أحوالها. هي ستبقى مع ماكرون أو غيره تطلق التصريحات، وتسوق مواقفها الحليفة لواشنطن عند المحطات المهمة. ولكن فرنسا النافذة بذاتها وبقوتها في الشرق الأوسط غير موجودة اليوم. ويصعب على ماكرون أو لوبن استعادتها. هذا إذا كانت النية موجودة. دول المنطقة تعتقد أن لها نصيب من اهتمامات من تقودهم أزمات بلدانهم.
الرئيس الفرنسي الثامن بعد ديغول لن يكون مثله بأي حالٍ من الأحوال. فالشرق الأوسط حسمت الأدوار فيه للقوى العالمية، أميركا وروسيا، والحصص الأخرى المختلف عليها حتى اللحظة تتصارع عليها الدول الإقليمية الكبرى المؤثرة هناك، والتي تعتبر أنها الأولى بالنفوذ في مناطقها، خاصة تلك التي تشترك مع فرنسا في محالفة الولايات المتحدة الأميركية.
ولكن بالرغم من ذلك، لا يتوقع أن ينكفئ الرئيس الجديد نحو الداخل تماماً. فالتصريحات الفرنسية والبريطانية الداعمة للموقف الأميركي في الشرق الأوسط عادةً ما ترافق المحطات والمفاصل المهمة التي تمر بها قضايا المنطقة. وإذا كانت مارين لوبن تفضّل سياسة أكثر استقلالية لفرنسا، فإن هناك من يشبّه منطق ماكرون بشأن القضايا الشرق-أوسطية بموقف أوباما. أي العمل باتجاه أهدافٍ محددة ولكن بالتدرج، حيث يكون لكل يومٍ تصريحات ومواقف. بلغةٍ أخرى، هي سياسية الاقتراب الناعم، والتصعيد المدروس.
ولا يمكن تفهم مثل هذا الخيار إلا بعد التسليم بأن لا الفرنسيين ولا الأميركيين واقعون تحت سيطرة اليمين التامة. فنتائج الانتابات الأميركية التي أوصلت ترامب بنصف أصوات المقترعين إلى الرئاسة، أقصت منافسته بنصف الأصوات تقريباً. ومعركة لوبن مع ماكرون هي تحت المجهر معركة نصف الفرنسيين مع نصفهم الآخر. ما يضع الحديث الذي بدأنا به عن الشرخ في كلتا الحالتين، في أولوية المعوقات لسياسة الرئيسين الأميركي والفرنسي.
وبين هذا وذاك، يبقى ملف مواجهة الإرهاب والتطرف وتمدده إلى قلب الغرب، مسألةً فائقة الأهمية، ومع النشاط المتنامي للشبكات الإرهابية وتنفيذها أعمالاً متكررة في المدن الغربية، يرجح أن يحدد هذا الملف مستقبل الرئيسين الأميركي والفرنسي. فالسقوط والنجاح كلاهما سيكون مدوياً.
أما السقوط، فإن أسهل الطرق إليه هو الاستمرار بالسياسات السابقة في الشرق الأوسط حيث منبع التنظيمات الجهادية ومصدر تمويلها. فيما النجاح في تكبيل أخطبوط الإرهاب يتطلب نهجاً مختلفاً، وتواصلاً مع القوى الأخرى التي تحارب الإرهاب في المنطقة وخارجها.