أميركا والقابلية للفاشية: تشريح مُختصر للترامبية
قبل أكثر من عقد من الزمن، جادل ديفيد هارفي في افتتاحية كتابه "موجز تاريخ النيوليبرالية" أن "مؤرّخي المستقبل سينظرون إلى الأعوام ١٩٧٨-١٩٨٠ كنقطة تحوّل ثوري في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للعالم".
-
- 23 كانون الأول 2016 15:15
ظاهرة الانزياح يميناً في السياسة والاقتصاد والأيديولوجيا في المجتمع الأميركي ليست مقتصرة حقيقة على هيمنة الحزب الجمهوري انتخابياً
قبل
أكثر من عقد من الزمن، جادل ديفيد هارفي في افتتاحية كتابه "موجز تاريخ
النيوليبرالية" أن "مؤرّخي المستقبل سينظرون إلى الأعوام ١٩٧٨-١٩٨٠
كنقطة تحوّل ثوري في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للعالم". وتبرير هذا الزعم
يختصره إلى حد كبير غلاف الكتاب والصوّر الأربع للشخصيات التي لعبت في ذلك الوقت
دوراً محورياً في تبني وعولمة السياسات النيوليبرالية (رونالد ريغان، دينغ شياو
بينغ، مارغريت تاتشر، أوغستو بينوشيه)، وتختصره كذلك مقدمّة الكتاب التي تضيف إسماً
خامساً لعب دوراً مهماً أيضاً هو بول فولكر، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي في
عهدي كارتر وريغان والنيوليبرالي الأول في هذا الموقع الحساس. بعد أربعة عقود من
تلك السنوات الحاسمة التي أرّخ لها هارفي، يبدو الآن، وبأثر رجعي أنه كان محقاً
جداً: النيوليبرالية غيّرت العالم فعلاً. لكنها، أسّست كذلك، وبعد أربعة عقود
لأزمة هيمنة الطبقات الحاكمة في الغرب، كما أسّست لغياب الهيمنة المضادّة والبديل
العضوي للرأسمالية النيوليبرالية. هكذا بدأت حقبة اليمين عالمياً وهكذا أسّست
النيوليبرالية في أميركا للقابلية للفاشية.
مختصر موجز النيوليبرالية
ربما
يكون كتاب هارفي من أهم ما كتب عن النيوليبرالية، لكن الكتاب كذلك وبأثر رجعي
الآن، يُضيء أيضاً في الفصلين الأول (الحرية مجرّد كلمة أخرى) والثاني (بناء
التوافق) تحديداً على مدخل ضروري لفهم حال العالم بعد أربعة عقود من السياسات
النيوليبرالية، ويُضيء تحديداً على الصعود اللافت لليمين في الولايات المتحدة وأوروبا.
ففيهما يناقش هارفي "كيف اخترقت النيوليبرالية الشعور/الحس/الوعي العام"
وأعادت تشكيله لصالح مفاهيمها الأساسية، ويناقش الاستراتيجيات التي اتّبعها أقطاب
هذا التوجّه والأدوات التي تم استخدامها من الجامعات إلى وسائل الإعلام لتحويل
أفكار النيوليبرالية إلى "تيّار عام".
وفي
هذين القسمين يتردّد مراراً إسم الفيلسوف الإيطالي "أنطونيو غرامشي"
ونظريته حول استراتيجيات الهيمنة، فيُعيد هارفي على مسامعنا: "من أجل سيادة
أيّ اتجاه فكري يتوجّب تطوير جهاز مفاهيمي يكون جذاباً ومتوافقاً مع حدسنا
وغرائزنا، ومنسجماً كذلك مع قيمنا ورغباتنا وأيضاً مع الإمكانات الكامنة مع
المجتمع الذي نعيش فيه. وإذا كان هذا الجهاز المفاهيمي ناجحاً يصبح متأصلاً في
إحساسنا الجمعي ومُسلّم به جدلاً ولا يكون عرضة للشك" ( ص: ٥. الترجمة بتصرّف).
لهذا،
يقول هارفي، لاحقاً: "اتخذ مؤسّسو الفكر النيوليبرالي المثُل السياسية لـ
"كرامة الإنسان" و "حرية الفرد" على أنها المثل الأساسية
والقيَم المحورية للحضارة". بهذا الخيار، كانوا حكماء جداً، خصوصاً في وضعهم
جهاز الدولة، الذي من المفترض أن يضع القيود على رأس المال، كنقيض للفرد وحريته
وتصويره كخطر يهدّد هذه القيَم الإنسانية. حكماء فعلاً لأنهم لو خيّروا الناس بين
إعادة توزيع الثروة وتركيزها في القمة على حساب إفقار الغالبية لما اختاروها. فأي
"مشروع صريح يدور حول عودة القوة الاقتصادية إلى نُخبة صغيرة لن يحظى بالكثير
من الدعم الشعبي. أما المحاولة المبرمجة للدفاع عن قضية حرية الفرد فقد تلقى
القبول لدى قاعدة جماهيرية واسعة، وبذلك يتم (تحت ستار هذه القيَم الإنسانية وحرية
الفرد) تمويه حملة استعادة السلطة الطبقية" (ص:٤٠). لو أردنا ترجمة ذلك بتبسيط
أكثر: هارفي يخبرنا أن البشر لا تولد نيوليبرالية الهوى، بل تصبح كذلك بفعل استهداف
وعيها وإعادة تشكيله. تصبح كذلك بفعل حملة مبرمجة تعمل تحت ستار حرية الفرد
و"القيَم النبيلة" من أجل الوصول إلى حرية رأس المال. تصبح كذلك عبر
حملة مبرمجة تستهدف أصلاً تجييش الناس ضد القيود التي تفرضها الدولة على رأس المال
(الذي يتوحش لاحقاً) باسم حرية الأفراد والقيَم الإنسانية.
في
النتيجة: النيوليبرالية غيّرت العالم فعلاً. لكنها، أسست كذلك، وبعد أربعة عقود،
لأزمة هيمنة الطبقات الحاكمة في الغرب كما أسست لغياب الهيمنة المضادّة والبديل
العضوي للرأسمالية النيوليبرالية. فالناس في النهاية لا تأكل قِيَماً ولا تلبس
شعارات، بل تعيش واقعها وتدركه مباشرة مهما حاولت وسائل الإعلام وكليات الاقتصاد
إقناعها بعكس ذلك. لكن مع غياب البديل العضوي المضاد، الذي جرى تسخيفه وشيطنته
منهجياً باستخدام نفس الشعارات (الاشتراكية نظام تسلّطي)، بدأت حقبة اليمين التي
أسست لها النيوليبرالية تنتج ملامح بروتو فاشية.
عن انتخابات ٢٠١٦
في
العدد القادم من مجلة فوربس ستغطي صورة جاريد كوشنير، صهر دونالد ترامب، كل
الغلاف. وفي الداخل سيقرأ الناس "قصة أميركية" بامتياز. سيقرأون قصة من
نوع قصص أفلام هوليوود، حيث ينقذ البطل الفرد ولوحده الموقف في اللحظة الأخيرة.
سيقرأون قصة تتناول قضية معقدة جداً ومتعدّدة الجوانب، تفاعلت فيها عوامل الاقتصاد
والسياسة والاجتماع والأيديولوجيا والتاريخ والجغرافيا السياسية لسنوات طويلة، بطريقة سطحية جداً
تتناسب مع طريقة الخطاب الإعلامي السائد ومع السرديات الأميركية الساذجة وثقافة
الفاست فود. فإذا أردنا أن نصدّق رواية مجلة فوربس التي ستُنشر هذا الشهر، فإن فوز
دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية كان مسألة تقنية بحتة ساهم في
إنجازها شخص واحد فقط هو جاريد كوشنير. ففي الأشهر الأخيرة من الحملة الانتخابية،
تقول الرواية، لعب كوشنير دوراً حاسماً في الولايات المتأرجحة قادت لفوز ترامب
بالبيت الأبيض ما دفع بعض وسائل الإعلام الأميركية لوصفه بـ "السلاح
الأخطر" في حملة ترامب الانتخابية وتقديمه على أنه "مفاجأة انتخابات
٢٠١٦".
في
المقابلة التي نشرتها المجلة مقدماً على صفحتها مع كوشنير (وستصدر في عدد هذا
الشهر القادم في ٢٢ كانون الأول/ديسمبر ٢٠١٦) يتم التركيز على الدور التقني الذي لعبه
كوشنير في الحملة، وتصوير الانتخابات على أنها مبارزة تقنية بامتياز انتصر فيها
كوشنير باستغلاله الذكي لتكنولوجيا وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد. استطاع
كوشنير، الذي يعدم الخبرة السياسية كلياً تقريباً، كما تقول لنا المجلة، عبر
مجموعة من الأصدقاء الخبراء في تكنولوجيا وسائل التواصل الاجتماعي والدعاية
والتسويق الرقمي (يعملون في السيليكون فالي) من تصميم برامج لـ "الاستهداف
صغير المدى" تم من خلالها استهداف الناخبين المختلفين في الولايات المتأرجحة
بآلاف الدعايات المصممة خصيصاً لكل مجموعة منهم، كل في مكانه وحسب مواصفاته
واهتماماته وميوله، استنادا لبيانات تم جمعها عنهم عبر حساباتهم على الفيسبوك أو
تويتر (مثل نوعية الأصدقاء والاهتمامات والميول والموضوعات المهمة لأصحاب هذه
الحسابات). في المقابل، كان أسلوب حملة هيلاري كلينتون تقليدياً جداً حيث استثمرت
بكثافة في الإعلانات والدعايات المكلفة جداً والتي تخاطب أشخاصاً مختلفين في
ولايات مختلفة بطريقة موحّدة. هكذا، تقول المجلة، تغيّرت الانتخابات والدعاية
الانتخابية في أميركا للأبد.
لكن
الدور الذي لعبه كوشنير وبرامجه التسويقية (المعروفة أصلاً والمستخدمة فعلاً في
مجالات التسويق والدعاية منذ سنين عبر مراقبة السلوك الاستهلاكي للزبائن قبل ظهور
الفيسبوك) في سبع من الولايات المتأرجحة لا تفسر الكثير من تفاصيل ونتائج هذه
الانتخابات. فالانزياح يميناً مثلاً في هذه الانتخابات، كما تشير البيانات
المتوفرة، حدث في ٤٢ ولاية من أصل خمسين، وليس في سبع فقط. هذا عدا عن أن هذا
الميل للانزياح يميناً ليس وليد عام ٢٠١٦ فقط، ولا نتاج عبقرية كوشنير. فمنذ عام
٢٠١٠، مثلاً، خسر الحزب الديمقراطي (الليبرالي) تدريجياً أكثر من ٩٠٠ مقعد في
المجالس التشريعية المحلية للولايات (من أصل حوالى ٧٣٠٠) لصالح الجمهوريين
(الجمهوريون يسيطرون على ٤١٦٤ فيما الديمقراطيون يسيطرون على ٣١٨٠ مقعداً). وهذه
الخسارة هي في الجوهر استمرار لما عرف بـ"ثورة الجمهوريين" في انتخابات
١٩٩٤، والتي سيطر فيها الحزب الجمهوري على مجلسي النواب والشيوخ وغالبية حكّام
الولايات والمجالس التشريعية للولايات للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية.
لكن
ظاهرة الانزياح يميناً في السياسة والاقتصاد والأيديولوجيا في المجتمع الأميركي
ليست مقتصرة حقيقة على هيمنة الحزب الجمهوري انتخابياً فقط. فمنذ عهد الجمهوري
ريغان، حاول الديمقراطيون أيضاً المنافسة بالتحوّل نحو الوسط، عبر ما عُرف حينها
بـ "الطريق الثالث" أو "الديمقراطيين الجدد"، الذين قادهم
كلينتون لاحقاً نحو اليمين ليضمن فوزه في انتخابات ١٩٩٦ بعد "المجزرة"
الانتخابية التي عاناها حزبه في الانتخابات النصفية في ١٩٩٤. و"الطريق
الثالث"، أو الانزياح نحو الوسط أولاً، ثم نحو اليمين لاحقاً، للأحزاب
الليبرالية واليسارية ليست ظاهرة أميركية بحتة، بل هي جزء من ميول عالمي أطلقت
شرارته في مرحلة ريغان- تاتشر النيوليبرالية في نهاية السبعينات (توني بلير قاد
حزب العمال البريطاني يميناً تحت حجة الطريق الثالثة وفرانسوا هولاند لا يزال يحكم
باسم حزب اشتراكي).
لم
يسقط ترامب من السماء إذن. أميركا وعالم ما بعد السبعينات الذي أرّخ له هارفي في
كتابه هم من أنتجوا هذه الظاهرة (كان باري غولدووتر، مرشّح الحزب الجمهوري لانتخابات
١٩٦٤ قد طرح شعارات قريبة جداً مما يطرحه ترامب، لكن، وبرغم كونه نسخة معدلة وحتى
أكثر خبرة وكياسة بما لا يقاس من ترامب، مُنيَ بهزيمة ساحقة حينها). لكن الجديد أن
انتخابات ٢٠١٦ هي في الحقيقة أكثر من مجرّد انزياح آخر نحو اليمين، كما يبدو.
فتراكم الانتقال لليمين منذ منتصف السبعينات يبدو أنه يؤسّس لمرحلة جديدة،
سأختصرها بتوصيف "القابلية للفاشية".
في
الفاشية
الفاشية
مفهوم غامض في أحسن الأحوال. فبرغم الاعتقاد السائد عن وضوح دلالة المفهوم ومعناه
لدى الكثير من مستخدميه، لا توجد في الحقيقة أيّة مرجعيات فكرية أو سياسية للفاشية
يمكن الاستناد إليها لفهم المقصود فعلاً بالمفهوم أو بالظاهرة المحددة التي يشير إليها
هذا المفهوم (بعكس ما هو الحال مثلاً بالنسبة لمفاهيم كالاشتراكية أو الديمقراطية
أوالليبرالية).
وباستثاء
أعمال المفكّر الايطالي أنطونيو غرامشي المتأخرة، التي بنى عليها لاحقاً وبمهارة
نظرية لافتة الفيلسوف الفرنسي ـ اليوناني نيكوس بولانتزاس في "الفاشية
والديكتاتورية"، وباستثناء بعض ما كتبه أيضاً الزعيم الشيوعي الأميركي إيرل
براودير في "الفاشية الاجتماعية"، لا يتوفر بالإجمال سوى توصيف سطحي
لبعض المظاهر الجانبية للفاشية تجعل من استخدام المفهوم مجرّد شتيمة أو أداة دعاية
سياسية في أحسن الأحوال، لا أداة تحليلية أو إطار نظري لفهم الظاهرة (يفرد الكثير
من الدراسات حيزاً كبيراً للمعنى اللغوي للكلمة ذات الأصول الرومانية، وهذا تسطيح
غير مهم في الحقيقة، في ما تفرد أخرى الكثير لتأريخ التجربة الأيطالية من دون
الاستنتاج بإطار نظري مفيد عن الظاهرة ـ يمكن للمهتمين مراجعة المناظرة التي دارت
بين نيكوس بولانتزاس ورالف مليباند على صفحات الـ "نيو لفت ريفيو" للفرق
بين أهمية النظري كما هي عند بولانتزاس، وهو ما أميل له في نظرية الدولة،
والإمبريقي عند مليباند). فحتى التوصيفات التي جاءت من أهم المفكرين الذين عايشوا
الظاهرة كانت مبتذلة في أحسن الأحوال. الفيلسوف الإيطالي بنيديتو كورتشه والألماني
مايكل مان التفتا إلى جزئية واحدة في الظاهرة والمتعلّقة بتهميش (واحتقار) الثقافة
والمثقفين ما دفع الأول لوصفها بألـ "اوناغروكراسي"، أو حرفياً
"حكم الحمير"، فيما وصفها الثاني بـ "حكم الحثالة"، مضيفاً أن
الفاشية "ثورة بلا أفكار، بل ضد الأفكار، ضد كل شيء نبيل ولائق، وضد الحرية
والحقيقة والعدالة".
ماذا
يقول غرامشي عن الظاهرة؟
لم
تشكل كتابات غرامشي الأولى أي انتهاك للرؤية الماركسية الكاريكاتورية والنمطية
للفاشية. فمن رفيق غرامشي المقرّب، الستاليني المتشدّد، بالميرو توغلياتي إلى تروتسكيي
الأممية الرابعة ساد الاختزال الطبقي السطحي في النظرة الفاشية. فهي "أداة
للبرجوازية الكبرى" تارة أو "ورأس المال المالي" تارة أخرى. كان
الإصرار حينها على رؤية الفاشية كلياً كانعكاس "لمصلحة طبقية" حصرية سبب
الاستنتاج السطحي الذي ساد حينها بأن "الفاشية أعلى مراحل
الرأسمالية".
ما
ميّز مشروع أنطونيو غرامشي الفكري والسياسي عن غيره، وما يجعله (ومشروع بولانتزاس
لاحقاً) المرجعية الأهم في هذه الحال، أنه كان يهدف أساساً وكلياً تقريباً لفهم
هذه الظاهرة. ولهذا فإن تطوّر هذا المشروع الفكري والسياسي ارتبط لحد كبير بتطوّر
ونضج فهم غرامشي للفاشية (تَوَّجههُ لاحقاً في عام ١٩٣٠ بدراسته لـ "المسألة
الجنوبية" وحَفْرِهِ لمفهوم "الهيمنة" الذي يختصر بمعانيه المتعددة
كثيراً من مشروع غرامشي الفكري والسياسي ويشكل ربما المدخل الأهم لفهم الفاشية،
وهو ما سيبني عليه نيكوس بولانتزاس لاحقاً استنادا لقراءته البنيوية لدراسة ماركس
للبونابرتية الفرنسية في "الثامن عشر من برومير لويس بونابرت" ويستنتج
ظاهرة "الدولة الاستثنائية" و "الاستقلال النسبي للسياسي عن
الاقتصادي").
فقط
في الأعمال المتأخرة، ما بعد اكتوبر ١٩٢٤ وفي أعقاب ما عرف بـ "الزحف الفاشي
إلى روما" تحديداً، بدأت رؤية غرامشي للفاشية تتعارض مع، وتنتهك، كل تنميط
ماركسي وكل فهم سطحي للظاهرة. ما لفت انتباه الفيلسوف الإيطالي حينها هو الجاذبية العابرة
للطبقات للفاشية، ولهذا اعتبر أنها تعكس الطبيعة العامة للمجتمع والثقافة في
إيطاليا حينها، أو "في زمن هزيمة الطبقة العاملة". لهذا، حتى وإن كانت
الفاشية جزئياً ظاهرة طبقية (كحركة قوى سياسية واعية بهدف حقيقي)، أو أنه يتوجب
فهمها في سياق الصراع الطبقي عموماً وهو ما أنتج مفهوم الهيمنة عند غرامشي، فإنها
كانت كذلك المؤشر الأهم على التحلّل (التعفّن) العميق للمجتمع الإيطالي والتي لا
يمكن إلا أن تترافق مع التحلّل العميق للدولة التي يمكن رؤيتها بالرجوع إلى
المستوى المتدني جداً للكياسة والأخلاق والثقافة.
لم
تكن الظاهرة إذن نتاجاً للحرب العالمية الأولى فقط، بل نتاج لأزمة عاشتها إيطاليا
(وغيرها من الدول التي ميزها غرامشي كـ "محيطية" اقتصاديا، من ألمانيا
إلى إسبانيا والبرتغال والنمسا) في مرحلة ما بين الحربين العالميتين وأنتجت
"أزمة هيمنة" عميقة لدى الطبقات الحاكمة تميّزت بابتعاد وانفكاك غالبية
الطبقات عن الأحزاب السياسية التي ارتبطت بها تقليدياً سابقاً (هل يُذَكِّرْ هذا
بما جرى في الولايات المتحدة في حالتي "المتمردين" ترامب الجمهوري
وساندرز الديمقراطي؟).
لكن
صعود الفاشية، وبرغم جاذبيتها العابرة للطبقات، لم تضع حداً لنهاية أزمة الهيمنة
(وهذه الأزمة هي البعد الطبقي الأهم لهذه الظاهرة) بقدر ما كانت نتاجاً لها (كان
صعود الفاشية نتيجة لأزمة الهيمنة، ولكنه لم يكن ولم يشكل حلا لها). فبرغم كل
الجاذبية التي تمتعت بها الفاشية، لاحظ غرامشي تذبذب وتقلب متواصل في تأييد
الطبقات الوسطى للتيار الفاشي، ما دفعه للاستنتاج أن الفاشية فشلت في تحقيق
الهيمنة (أو فشلت في مزج رؤيتها الفلسفية في عادات وتقاليد وطريقة حياة وثقافة
قطاع كبير من السكان). فبرغم أزمة الهيمنة العميقة للطبقات الحاكمة التقليدية لم
تشكل الفاشية الحل العضوي للأزمة في إيطاليا حينها. تفسير صعود الفاشية يعود
بالضبط إلى غياب الحل العضوي، أو فشل الحزب الثوري، والشيوعيين الإيطاليين تحديداً،
في استغلال اللحظة التاريخية والتأسيس لهيمنة بديلة. هكذا أصبح الحقل السياسي
قابلاً وجاهزاً لصعود ظاهرة القائد الكاريزمي كحل بديل.
المدهش
في قراءة توصيف غرامشي في أعقاب الانتخابات الأميركية، وخصوصاً مع إعادة تفسير
المعطيات المتوفرة التي بدأت الإضاءة على بعضها بعد الانتخابات فقط، هو التشابه
الكبير لحال إيطاليا حينها بحال أميركا اليوم لدرجة أنه لو استبدلنا إيطاليا
بالولايات المتحدة في بعض كتابات غرامشي، لن يلتفت لذلك إلا من يعرف كتابات غرامشي
جيداً. لكنه سيستنتج أن دونالد ترامب لم يسقط من السماء. وسيستنتج كذلك أن صعود
ترامب لم يكن نتيجة لاستراتيجية إنتخابية ذكية أو لحنكة في إدارة الصراع الانتخابي
مع الحزب الديمقراطي. حال المجتمع الأميركي والثقافة الأميركية اليوم، حسب غرامشي،
يُضاف إليهما عامل "حال العالم"، حسب بولانتزاس، هما من أنتج الترامبية.
حال أميركا
غالبية
تحليلات ما بعد الانتخابات ركزت على متغيرات العرق والجنس والتعليم والدخل في
محاولتها لتفسير نجاح ترامب، تماماً كما ركزت متابعة الحملة الانتخابية على
الولايات المتأرجحة. لكن، اختفت خلف بيانات هذه المتغيرات الصورة الكبرى والحال
العامة للمجتمع الأميركي، خصوصاً أن سياقها كان زمن الانتخابات القصير نسبيا. هذه
الرؤية القاصرة واللاتاريخية سهلت إلقاء اللوم على الفقراء والطبقة العاملة
وتحميلهم مسؤولية صعود ترامب، مع أن البيانات الأولى أثناء الانتخابات التمهيدية
أشارت إلى أن معدل دخل مؤيدي ترامب السنوي يتجاوز السبعين ألف دولار سنوياً (أي
أعلى من معدل الدخل العام بحوالى ٢٠ ألف دولار)، هذا إذا تجاهلنا التمثيل العالي
للأقليات في شرائح العمال والفقراء، وهؤلاء لم ينتخبوا ترامب إلا بنسب قليلة جداً
(٨٪ من السود مثلاً). القصة تبدو أعقد من ذلك في الحقيقة. هذه بعض تفاصيلها:
في
عام ١٩٩٦ سدّدت هيلاري كلينتون، السيدة الأولى حينها، ضربة قاسية جداً لمنظومة
دولة الرعاية الأميركية من خلال دورها الأساسي في إقرار برنامج "المسؤولية
الشخصية وفرص العمل"، أو ما عرف ببرنامج "إصلاح الرعاية
الاجتماعية"، الذي حمل بصمتها وشكل المقدمة لطموحها الرئاسي. النتيجة الأولى
للبرنامج الذي أعاد تشكيل بنية برنامج الرعاية الاجتماعية جذرياً كانت إسقاط مئات
الآلاف من النساء والأطفال المحتاجين من البرنامج ووقوعهم في الفقر المدقع بلا أي
نوع من الحماية الاجتماعية أو شبكات الأمان التي وفّر بعضها وجود البرنامج سابقاً
(غالبيتهم من الأقليات ويقدّر عددهم بأكثر من ٢.٦ مليون). والفقر المدقع هو مفهوم
سيتزايد استخدامه لاحقاً في الولايات المتحدة مع مفاهيم جديدة مماثلة تم استدخالها
من قبل علماء الاجتماع مثل مصطلح "تحت الطبقة". والمفهوم الأخير يستخدم
عادة لتوصيف الحال المزرية جداً لمجموعة من الأقليات (السود في المدن الكبرى
تحديداً) لا تنطبق عليها حتى مواصفات الطبقات المسحوقة، وهو يدلل على مرحلة جديدة
من تاريخ الإمبراطورية الأغنى في التاريخ. صحيح أن الجمهوريين اقترحوا برنامجاً
متطرفاً أكثر من مشروع آل كلينتون، لكن البرنامج الجديد الذي نسف بنية برنامج
الرعاية الاجتماعية الأصلي ارتبط كلياً بهيلاري كلينتون بسبب دورها النشط في تجميع
الأصوات له في الكونغرس ومنافستها للجمهوريين في القضاء على دولة الرعاية.
وحروب
آل كلينتون على الفقراء والأقليات بدأت في الحقيقة قبل قانون الرعاية الصحية
الجديد الذي قادته كلينتون بأربع سنوات حين دافعوا عن قانون جديد لـ "مكافحة
الجريمة" إنتهى أيضاً إلى كارثة على الفقراء والأقليات. ولأن القانون الجديد
كان يستهدف الأقليات (السود تحديداً) أيضاً، ذهبت كلينتون في سعيها لتمرير القانون،
الذي شكّل إعلان حرب على الفقراء والأقليات وتجريمهم، حد وصف الأطفال السود بـ
"المفترسين الفائقين." نتيجة قانون آل كلينتون لمكافحة الجريمة كانت
الزج بملايين السود في السجون وتزايد ملحوظ في وحشية الشرطة تجاه الأقليات. وبرغم اعتذار
كلينتون عن التوصيف العنصري لأطفال السود لاحقاً، إلا أن الحرب التي أعلنتها هي
وزوجها على الأقليات لا تزال مستمرة وتتصاعد، كما تشير بيانات عنف الشرطة ضد
الأقليات. هكذا بدأت هيلاري كلينتون حملتها الانتخابية حقاً: أعلنت الحرب على
الفقراء والنساء والأطفال، ثم ادّعت في سعيها للحصول على أصواتهم أنها سخّرت
حياتها للدفاع عنهم.
وآل
كلينتون، كما أشار مؤخراً تحقيق لمجلة "موذر جونز" هم من بدأوا فعلاً
ببناء الجدار وعسكرة الحدود المكسيكية ـ الأميركية منذ عام ١٩٩٤ (تم إنجاز ما بين
٧٠٠ ميل من الجدار على شكل جدار أو سياج أو حواجز) وهو ما قاد إلى موت آلاف
الضحايا من المهاجرين (التقديرات تضعها حول ستة آلاف جثة تم العثور عليها في
الصحراء الحدودية). ورغم أن غالبية الجدار أو السياج تم بناؤه ما بعد عام ٢٠٠٦
وتأسيس وزارة الأمن الوطني، إلا أن هيلاري كلينتون صوّتت لصالح القانون في مجلس
الشيوخ آنذاك حين كانت تمثل نيويورك. الجدار، إذن لم يكن من بنات أفكار ترامب، بل
أن كلينتون وأوباما ساهما في إنشائه، فيما استخدم ترامب فكرة بنائه (مع أنه تم
إنجاز القسم الأكبر منه) لدغدغة المشاعر العنصرية والمعادية للمهاجرين في الشارع
الأميركي.
لكن
آل كلينتون، مثل ترامب أيضاً، لم يسقطوا من السماء بل كانوا جزءاً من ميول عالمي ومحلي
تؤكد البيانات أنه قاد إلى اتساع هوة اللامساواة والفقر بين دول العالم كما
داخلها. فما بين عامي ١٩٤٨ و ١٩٧٣، أي قبل العهد النيوليبرالي، "زادت
الإنتاجية بمقدار ٩٦.٧٪ وارتفعت الأجور الحقيقة بنسبة قريبة ٩١.٣٪. أما في الأعوام
(١٩٧٣-٢٠١٥) اللاحقة، زادت الإنتاجية بنسبة ٧٣.٤٪ فيما ارتفعت الأجور بنسبة ١١.١٪
فقط". ومنذ عام ١٩٧٩، انخفضت حصة ٨٠٪ من السكان من الدخل، فيما ارتفعت حصة
الـ ٢٠٪ الأغنى ما يعني تزايد تراكم الدخل والثروة في الأعلى وعلى حساب الغالبية
من الأميركيين. اللافت أن التفسير الأكثر شيوعاً لهذه التحوّلات هو التفسير المبسط
جداً والخاطئ الذي يلوم المهاجرين الذين تؤكد الأرقام أنهم بالإجمال يقومون بأعمال
يرفض الأميركيون البيض أصلاً القيام بها، هذا عدا عن مساهمتهم الجدية في الاقتصاد
الأميركي، أو إلقاء اللوم على عمال في مناطق أخرى من العالم تنقل الشركات الكبرى
مصانعها إلى مناطقهم. لكن هذا اللوم لا يقف عند حد "سرقة الوظائف"، بل
يتعداها إلى اتهامات عنصرية لم ولا يخجل حتى مرشّح حزب رئيسي، والآن رئيس مُنتخب،
أو وسائل إعلامية رئيسية كمحطة فوكس من تكرارها (مجرمين ومغتصبين وتجار مخدرات،
الخ).
المبالغة
في لوم الآخرين والتقليل من لوم الذات هي في الحقيقة أحد ميزات "الشخصية
التسلطية"، كما سماها الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو. لكن المشكلة أن
العنصرية الفظة والميول التسلطية لا تقتصر على أنصار "الوطنية البيضاء"
الذين عقدوا مؤتمراً في واشنطن العاصمة في أعقاب الانتخابات وأعلنوا تأييدهم
للرئيس المُنتخب. المشكلة هي أن تقترب هذه الرؤيا (العنصرية والعرقية للعالم
ولأميركا ذاتها) من أن تصبح تياراً عاماً وأن تفسر إلى حد بعيد انتقال العديد من
الولايات يميناً أصلاً. يبدو أن الرئيس الديمقراطي جونسون كان محقا. ففي أعقاب
توقيعه لقانون الحقوق المدنية في عام ١٩٦٥، توقّع أن يخسر الديمقراطيون الولايات
الجنوبية لجيل كامل. لكن السياسات الحكومية النيوليبرالية منذ عهد ريغان (وتحديداً
تدمير برنامج الرعاية الاجتماعية) تمت كلها تحت ستار لوم الأقليات وتصويرهم على
أنهم عالة على الرجل الأبيض المُجدّ الذي تستغله الدولة لتمويل هذه البرامج.
لم
تكن إيطاليا بسبب تاريخها محصنة من الفاشية. في عام ١٩٣٠ التفت غرامشي إلى متغير
حاسم في التاريخ الإيطالي أسس لما يمكن أن نسميه بـ "القابلية للفاشية".
فبعكس بريطانيا وفرنسا لم تعرف إيطاليا ثورة برجوازية وديمقراطية حقيقية. وما عرف
بـ "ميثاق توحيد إيطاليا" الذي قادته حركة توحيد إيطاليا كان في الحقيقة
ثورة من الأعلى. من يعرف شيئاً عن التاريخ الأميركي وعن ما يُسمّى بـ "الثورة
الأميركية" ومشروعها وطبيعة القوى التي شاركت فيها وقادتها والدستور الذي أنتجته،
عليه أن يتوقف كثيراً أمام هذه الملاحظة.
"