القاهرة.. جوبا.. فيكتوريا.. وبالعكس.. حبل مشنقةٍ ينصب "للمحروسة"؟ أم مجال لفرص كبيرة تنتظرها؟
تساؤلات كثيرة حول مدركات التهديد للأمن القومي المصري قفزت بسرعة أمام القيادة الجديدة في القاهرة، لتجد نفسها أمام عدوٍٍ شرس يتربص على الحدود الشرقية، ومؤامرات تحاك حول منابع النيل، ومشكلات داخلية تحتاج علاجاً سريعاً، وعالم عربي يموج بالإضطرابات.
لا شك أن التغيرات الكبرى التي طالت المنطقة العربية خلال العامين الأخيرين، قد فتحت العيون والعقول على واقعٍ جديدٍ يحمل لدول المنطقة إلى جانب الآمال والطموحات المستقبلية، مخاطر وهموم وهواجس مهولة بعضها أفرزته الظروف الجديدة، وبعضها الآخر قديم وقد أعيد طرحه اليوم لعدة أسباب. من هذه الأسباب ما يرتبط بطبيعة القوى السياسية التي وصلت إلى الحكم وحازت نسباً عالية من مقاعد المجالس التمثيلية المنبثقة عن الثورات الشعبية، ومنها أخطار استراتيجية كانت مهملة إبان حكم الأنظمة السابقة التي لم تتعامل مع مهددات الأمن القومي بالجدية اللازمة، مكتفيةً بحماية أمن النظام السياسي من الأخطار المباشرة كالحروب العسكرية. وذلك عبر إقامة توافقات استراتيجية تثبت أمن الحدود، بصرف النظر عن مفهوم الأمن الأشمل الذي يحاكي ما هو داخل الحدود وخارجها من نشاطٍ ذو تأثير على عافية الدولة.
ولعل القسم الأكبر من الإشكاليات التي برزت إلى الواجهة عقب الثورات، يرتبط بواقع مصر ومستقبلها، ذلك أنها الدولة المركز في النظام الإقليمي العربي، وأهميتها الاستراتيجية في المنطقة لا تقاس ولا يمكن استبدالها. فموقع مصر الجغرافي والسياسي يعكس موقعاً مماثلاً في الأهمية على سلم أولويات القوى الدولية التي تتنوع مصالحها في المنطقة، والتي تمثل مصر محطةً فائقة الأهمية في مخططاتها.
القيادة المصرية الجديدة وهموم الأمن القومي المصري
إن إسقاط نظام الرئيس السابق حسني مبارك -بكل ما يعنيه ذلك من أبعاد إستراتيجية في المنطقة- قد ألزم كل الدول صاحبة المصلحة في الشرق الأوسط باستنفار جهودها لتقييم الوضع، والتحرك وفق مستجداته. وفي المقلب الداخلي، فإن نجاح الثورة المصرية في إحداث التغيير فتح الباب على نقاش مدركات التهديد للأمن القومي المصري، وإن لم يترجم هذا النقاش بخطواتٍ عملية حتى الآن بسبب انشغال القيادة السياسية الجديدة بترتيب ملفاتها واستكمال إرساء التغييرات التي أنجزتها الثورة.
تدرك القيادة المصرية الجديدة تماماً أن مسألة العلاقة مع إسرائيل، وإعادة النظر بتلك العلاقة، هي أمور لا يمكن تأجيل البحث فيها كثيراً، وأنها مسألة وقت فقط قبل أن تبدأ التساؤلات بالتكاثر حول التطبيق الفعلي لموقف الإخوان المسلمين من هذه العلاقة، ومن ملفات السياسة الخارجية عموماً.
إن التهديد الإسرائيلي للأمن المصري المتعلق بالتحديات العسكرية التي تشكلها موازين القوى العسكرية، والتفوق التكنولوجي الإسرائيلي، والدعم الدولي الدائم لهذا الكيان والذي يصل إلى حدودٍ غير قابلة للقياس المنطقي في كثير من الأحيان، كلها أمور سوف تؤرق "المحروسة" في القادم من الأيام. يضاف إلى ذلك براعة أجهزة الأمن والتجسس الإسرائيلية التي أتيح لها العمل براحة فوق التراب المصري لأكثر من 30 عاماً، وبالتالي فمن البديهي أن خيوطاً كثيرة قد نسجت في منظومة التجسس الإسرائيلية الموكلة بالعمل على ضمان عدم نهوض مصر بأي دور خارج حدودها، بل عدم تمكينها من إتمام أية عملية إصلاح داخلي ذات فائدة استراتيجية.
سم إسرائيلي في منبع حياة مصر
غير أن التهديدات الإستراتيجية التي تتربص بمصر اليوم، لا تقتصر على ذلك، بل إنها تمتد بحسب آراء عديدة في العمق جنوباً على امتداد نهر النيل حتى بحيرة فيكتوريا. إن الأخطار القادمة من تلك المنطقة إن تحققت، تطال حقيقةً إستمرت لآلاف السنين. هي تطال حياة "هبة النيل"، حاضرها ومستقبلها وآمال أكثر من 80 مليون إنسانٍ تعتمد على همتهم نهضة الأمة العربية. وهذه التهديدات تنبع من النشاط الإسرائيلي المريب في منطقة القرن الإفريقي، ومساهتمها الأساسية بانفصال جنوب السودان عن الخرطوم، إلى المشروعات المائية والإتفاقات التي توقعها دول حوض النيل التي تحتوي على روافد النهر الرئيسية، فما حجم تأثيرات كل ذلك على مصر؟
لقد شكلت إتفاقية "عنتيبي" لإعادة تقاسم مياه النيل، والتي وقعتها خمسة دول هي أثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا وكينيا، هاجساً جديداً يضاف إلى هواجس المصريين، كما بالنسبة للسودانيين أيضاً، وقد رفضت مصر هذا الإتفاق واعتبرته غير ملزمٍ لها. فالدول التي وقعت هذه الإتفاقية هي دول منابع النيل، وفيها يجري الحديث عن نشاطٍ إسرائيلي وأميركي في دعم المشروعات المائية والإقتصادية التي تؤدي إلى استغلال مياه النهر قبل وصوله إلى السودان ومصر حيث الكثافة السكانية الرئيسية حول ضفافه، ففي القاهرة وحدها يعيش حوالي 10% من مجمل سكان حوض النيل.
وفي حين أقامت إثيوبيا سداً مائياً كبيراً على بحيرة "تانا" الواقعة على مجرى النيل، وهو سد قادر على سحب كمية من الماء توازي ما يستوعبه السد العالي مثيرةً بذلك قلقاً مصرياً بالغاً. قدرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "فاو" عام 2012 حصة الفرد المصري السنوية من المياه بـ 719 متراً مكعبا،ً وهي أقل من حد الفقر المائي البالغ 1000 متر مكعب للفرد، ويتوقع أن يصل إلى 500 متر مكعب فقط عام 2020. ما يبرز حجم الأزمة التي تلوح في الأفق والتي تتعلق بمستقبل النشاطات الزراعية والصناعية لمصر، خصوصاً مع التوقعات المرتفعة الزيادة السكانية فيها للسنوات المقبلة.
أما بالنسبة للنشاط الإسرائيلي في دول حوض النيل، فإن الزيارات المتبادلة بين مسؤولين من إسرائيل وأوغندا وكينيا وباقي دول الحوض لا تتوقف، وقضية المياه دائمة الحضور في المباحثات التي تجريها إسرائيل مع هذه الدول على أرفع المستويات. غير أن التجليات الأبرز لهذا النشاط برزت في الأزمة التي شهدتها السودان إلى حين إعلان انفصال جمهورية جنوب السودان. وتلا ذلك الإعلان، زيارة قام بها رئيس الدولة الوليدة سيلفاكير ميارديت إلى إسرائيل "النموذج الناجح" كما رآه، والتي أشار خلالها إلى الدور الإسرائيلي في نشأة دولة جنوب السودان عندما قال: "بدونكم ما كنا لنكون موجودين، قاتلتم معنا للسماح بإنشاء جمهورية جنوب السودان".
وقد أعلنت إسرائيل في أواخر تموز-يوليو الفائت عن توقيع وزارة الطاقة والمياه الإسرائيلية مع وزارة الري والمياه بجنوب السودان إتفاقية تقضى بنقل الخبرات الإسرائيلية فى مجال تحلية ونقل المياه وإقامة بنية تحتية للصرف والري وإقامة مشروعات أخرى لاستخراج الطاقة.
وبالرغم من أنه لا يبدو لكثيرٍ من المراقبين أن تقسيم السودان سينتج الإستقرار المنشود بين الشمال والجنوب، إلا أن الخرطوم تعبر دوماً عن رغبتها ببناء علاقات ودية مع دولة الجنوب، وفي ذلك إدراك لأهمية تضييق مساحة النشاط الإسرائيلي في جوبا، فيما لا تتوقف اليد الإسرائيلية عند الحدود بين الشمال والجنوب، بل إن الحديث يتصاعد عن امتداد دورها إلى داخل الشمال لتعزيز نزعات إنفصالية عند سكان الأقاليم في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. ومن جانبها تبدي السياسة الخارجية المصرية إهتماماً بتلك المنطقة، ولكن حجم الأخطار التي تترتب على مجريات الأمور فيها يظهر قصوراً في التعاطي المصري إزاءها حتى هذه اللحظة.
كما يمكن للتطورات الجديدة في السودان أن تشكل خطراً على الإتفاق الموقع بين القاهرة والخرطوم عام 1959 لتوزيع حصص المياه، والذي يعطي 55.5 مليار متر مكعب سنوياً مقابل 18.5 مليار متر مكعب للسودان، وذلك عندما تعيد السودان النظر باستراتيجيتها المائية على ضوء التغيرات التي طالت مساحتها الجغرافية، وبالتالي مواردها الطبيعية ومصادرها المائية.
"إسرائيل" تريد لكنها لا تستطيع.. نحن نستطيع لم لا نريد؟
يشكك الخبير في الشؤون الإسرائيلية حلمي موسى بحجم الدور الإسرائيلي الذي يتم الحديث عنه في دول حوض النيل، ويرى أن ذلك لا ينفي وجود دورٍ معين لإسرائيل هناك، ذلك أن إسرائيل تتمنى تحقيق كل مصالحها أينما وجدت، إلا أن القدرة الإسرائيلية على تمويل مشروعات ضخمة كالسدود والإنشاءات الضخمة غير متوفرة بالحجم المتداول، وأن من يستطيع تمويل هذا النوع من المشروعات اليوم هي واحدة من ثلاثة أو أربعة قوى في العالم كله، كالولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين والإتحاد الأوروبي، أما إسرائيل فلا تستطيع. كما يرى موسى أن إسرائيل تتمنى لو أنها تمتلك القدرة على فعل أي شيء في الكون، لكن ما يحدها هو محدودية قدرتها، سواءً كانت هذه القدرة سياسية أو ديبلوماسية أو عسكرية.. وأنه ليس من مصلحة العرب المبالغة في تقدير حجم القدرة الإسرائيلية في هذا المجال.
ويشير موسى إلى أنه وبخلاف الشائع، فإن مشكلة مصر ترتبط بسوء إدارة المياه أكثر مما ترتبط بندرة مصادرها المائية، ذلك أنها لا تزال تعتمد سياسات الري بالغمر بدلاً من إعتماد تقنيات الري بالتنقيط وتوسل أساليب أكثر حداثة توفر من هدر المياه، خاصةً أن لدى مصر جوفية بحيرات هائلة يمكن استغلالها. وفي المقلب الآخر فإن معظم دول حوض النيل لا تحتاج إلى مزيد من المياه، فأثيوبيا الدولة المكونة من هضبة لا تقوم بتخزين المياه بقصد الإستخدام الزراعي، بل أنها تستخدمها لتوليد الطاقة، في حين أن أوغندا مثلاً تعاني من فائض في المياه يشكل عائقاً أمام الإستفادة من المساحات الزراعية، وعليه فإن لمصر فرصاً كبيرة في هذه المنطقة، ومجالات الإتفاق بينها وبين تلك الدول حول موضوع المياه متاحة.
أما في مسألة التدخل الإسرائيلي لإثارة النزعات الإنفصالية في السودان، فهو إذ يؤكد وجود نوايا إسرائيلية في هذا المجال، إلا أنه يرى بأن أساس المشكلة موجود عند الدول العربية التي تستطيع مواجهة الدور الإسرائيلي من طريق تعزيز مفهوم المواطنة، وسد الثغرات التي يمكن أن تصيبها منها أية نوايا عدوانية.
حوض النيل مجال حيوي لمصر
لقد انكفأت مصر خلال عهد النظام المصري السابق عن ممارسة الدور الذي يليق بحجمها في مجال السياسة الخارجية، واقتصر نشاط الخارجية المصرية على محاولة تثبيت موقعها في البيئة الإقليمية المنسجمة مع السياسات الأميركية في الشرق الأوسط. إضافةً إلى محاولاتٍ للعب دور الحكم بين القوى الفلسطينية، وهي محاولات بقيت نجاحاتها محدودة. وسواء كان النشاط الإسرائيلي في حوض النيل مصدر تهديدٍ كبيرٍ لمصر أو أن هذا الدور يجري تضخيمه، فإنه ليس بجديد وهو يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، حيث ساهمت تل أبيب بمشاريع المياه وقدمت "مساعدات تنموية"، وبنت لنفسها نفوذاً لا يزال حجمه غامضاً على أكتاف فقراء أفريقيا، في غفلة من دول شمال القارة التي كانت تصرف طاقاتها على ضمان استقرار النظام في الداخل.
لا شك أن المسؤولية الملقاة على عاتق القيادة المصرية الجديدة بما يخص منطقة حوض النيل كبيرة، ولكن صب الإهتمام المصري على دول الحوض بات يشكل أمراً حيوياً لمصر ، ليس من الناحية الأمنية فحسب، بل لناحية الفرص الإستثمارية المتاحة لها في تلك المنطقة. وعليه فإنه من الضروري كما الماء أن تولي السياسة الخارجية المصرية الإهتمام اللازم لعلاقاتها مع كل من بوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإريتريا وإثيوبيا وكينيا والسودان وجنوب السودان ورواندا وتنزانيا وأوغندا. ذلك أن فرص الإستثمار المتاحة لمصرفي تلك المنطقة كبيرة جداً، كما أن الخطر الإسرائيلي على الأمن المصري يمكن أن يأتي من أية جهة تتمكن إسرائيل من المرور منها وليس من جهة سيناء فحسب، وعليه فإن المخطط الإستراتيجي الإسرائيلي يحاول دوماً البحث عن كل ما يمكنه من تقليص الفرص التي تلوح أمام قيام مشروع عربي من جديد، وهو إن وجد أن سد مصادر المياه عن مصر قد يخدم هذا الهدف سوف لن يتأخر عن إبتكار الحلول التي تتوافق مع قدراته، حتى لو اضطر إلى استدعاء عون غربي توفر له في كثير من المحطات السابقة. وبنتيجة ذلك، فإنه وفي يومٍ قادمٍ حين يزحف جندي مصري على رمال سيناء باتجاه حدود إسرائيل سيمد يده إلى ما في جعبته، وسوف لن يجد ماءً، واليد التي لا تجد ماءً بين الذخائر سوف يتعذر عليها ضغط الزناد بالقوة اللازمة. هناك لا شك أمنيات إسرائيلية بنصب مشنقة لمصر في عمق أفريقيا. وفي المقابل عمق أفريقيا هو بالتأكيد مجال حيوي لمصر إذا ما أرادت استغلاله.