استحقاقات إيرانيَّة في قلب التحوّلات العالميّة
تعيش إيران هذه الأيام استحقاقات مهمّة، تتمثل بالانتخابات الرئاسية والمفاوضات النووية، فيما تتحرَّك البيئة الاستراتيجية لمصلحتها، كما يبدو، مع تراخي القبضة الأميركية في الشرق الأوسط، واهتمام الغرب المحموم بمواجهة الصين.
تطورات كثيرة ومتسارعة شهدتها منطقة الشرق الأوسط منذ رحيل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن السلطة قبل نحو 6 أشهر. بعضها كان تطورات تخصّ ملفات شرق أوسطية مزمنة ومعقّدة، مثل الملف الإيراني، فيما كان بعضها الآخر يرتبط بقضايا أكثر اتساعاً من الناحية الجغرافية والاستراتيجية، لكنَّ امتداداتها الشرق أوسطية حاضرة وفاعلة، مثل الصراع الدائر بين القوى الكبرى على شكل النظام العالمي الجديد ومواقع اللاعبين فيه.
لقد بات الملف الإيراني بأبعاده الكاملة، وبتطوراته الملحوظة كلّ يوم، أكثر من أن يحسب كملفٍ إقليمي محدود تنتهي مفاعيله بانخفاض الاهتمام الاستراتيجي في المساحة الجغرافية التي يشغلها. لقد بات يشكّل أحد أهم الملفات التي تدور حولها النقاشات في مجال العلاقات الدولية اليوم، وخصوصاً من ناحية المعاني التي يختزنها موقف إيران الممانع للهيمنة الأميركية على المنطقة والعالم، وخطورة نجاح هذا النموذج على هيبة القوة العظمى الأميركية، والعدوى التي من الممكن أن تتوسع جراء نجاح هذا النموذج الرافض.
واليوم، تشهد إيران واحداً من الاستحقاقات الأكثر دلالةً على فاعلية النموذج. إنها الانتخابات الرئاسية التي تجري بالاقتراع العام المباشر، وفي كنف الجمهورية الإسلامية التي اتخذت مساراً ديمقراطياً فريداً منذ نجاح الثورة في العام 1979، لتنشئ نظاماً دستورياً قائماً على سلطة الشعب، عبر انتخاب مباشر لرأس السلطة التنفيذية، فضلاً عن السلطة التشريعية والإدارات المحلّية.
وتشير برامج المرشحين إلى تركيزٍ غير مسبوق على الشؤون الاقتصادية التي يستمر المرشد الأعلى السيد علي خامنئي بتشديد مطالباته للفاعلين السياسيين بإعلائها إلى رأس الأولويات الوطنية، في حين تبرز تحدّيات أمام البلاد، منها ما يتعلق بالشؤون الحياتية والمعيشية للشعب، ومنها ما يربط بالتهديدات الخارجية، وبالتحولات الجارية في المحيط الإقليمي، وعلى المستوى العالمي، وخصوصاً لناحية التنافس الدولي الذي يزداد سخونةً مع الوقت، فكيف ستدير الجمهورية الإسلامية التحديات والفرص المقبلة؟ وما الحقائق الحاكمة التي تتولد في الجوار وحول العالم، لتؤثر في دورها على المستوى الاستراتيجي؟
مفاوضات فيينا والبيئة الاستراتيجية المتغيّرة
تحكم البيئة الاستراتيجية المؤثرة في الدور الإيراني مجموعة من القوى الفاعلة على المستوى العالمي. إن تمكّن إيران في السنوات الماضية من تحقيق مقدارٍ وازن من القوة الداخلية المتدفّقة إلى الخارج على شكل نفوذ إقليمي، يعبّر عن نفسه بصورةٍ أساسية بتفاعلات قضايا فلسطين ومكافحة الإرهاب ونصرة الشعوب المستضعفة، كما تعبّر الأدبيات الإيرانية نفسها، فقد أمسكت طهران بجزء أساسيّ من إمكانية تقرير مستقبلها، على عكس الكثير من القوى الإقليمية التي تبقى قوتها ومصيرها الاستراتيجي محكومةً بإرادة القوى الكبرى.
على الرغم من ذلك، إنّ ما يدور اليوم من مفاوضات في فيينا بين إيران والدول الست، يحدث مفاعيل حقيقية على مجمل الوضع الإقليمي في الشرق الأوسط. الأطراف جميعها تعلن أن التوصل إلى اتفاق بات أمراً ممكناً، وأن اتجاه الأمور سيفضي إلى العودة إلى التزام الجميع (بما فيهم الولايات المتحدة) باتفاقٍ نووي تكون له مفاعيل إيجابية على الاستقرار في المنطقة، وعلى الواقع الاقتصادي والمالي لإيران، وخصوصاً بعد بدء رفع العقوبات عن شخصيات وكيانات إيرانية قبل الوصول إلى لحظة إعلان الاتفاق، لكن لدى القوى الكبرى خلافات عميقة أخرى بين بعضها البعض، يمكن أن يؤثر ضغطها في الملف الإيراني، فكيف تتحرك هذه الخلافات؟
قبل أيام، التقى الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والأميركي جو بايدن في جنيف لأوّل مرة بشكل رسمي، بعد انتخاب الأخير رئيساً لبلاده. حضرت جلّ ملفات الخلاف في المباحثات. تحدَّث الطرفان عن ظروف المعارض الروسي أليكسي نافالني، والسجناء الأميركيين لدى روسيا، والهجمات السيبرانية، والتمثيل الدبلوماسي بين البلدين... لكنَّ اللافت كان إعلان بايدن تعهّد الطرفين بالعمل معاً لضمان عدم امتلاك إيران أسلحة نووية.
الأجواء "البنّاءة" و"المرضية"، بحسب الرئيسين، لم تشِر إلى حقيقة أنَّ إيران تعلن بصورةٍ حاسمة أنَّها لا تريد إنتاج أسلحة نووية. لقد أكَّدت الجمهورية الإسلامية ذلك مراراً، وبصورةٍ متكررة، حتى وصلت إلى إعلان عدم جواز هذه الأسلحة من منظورٍ ديني، وهي ناحية مهمةٌ جداً بالنسبة إلى نظام متدين يقوم على الحكم وفق الشريعة الإسلامية.
وبصرف النظر عن ذلك، ربما احتاج الرئيسان إلى الاتفاق على بعض النقاط، وسط مروحة واسعة من الملفات الخلافية المعقدة، فكان التوافق على منع حدوث ما لن يحدث. واقعياً، لم يعطِ بوتين نظيره الأميركي شيئاً حين وافق على العمل سوياً من أجل منع امتلاك إيران سلاحاً نووياً، فإيران ممتنعة عن ذلك بقرار ذاتي. وقد اتفق الرئيسان على عودة سفيريهما إلى عملها، وهما اللذان سبق أن استدعيا إلى بلديهما بسبب زيادة التوتر التي شهدتها العلاقات المشتركة.
لكن لم تشر أجواء اللقاء، كما حديث الرئيسين، كلٌ في مؤتمر صحافي منفصل، وحتى البيان المشترك الذي صدر عنهما، إلى قرب هدوء المخاوف من الصراع الاستراتيجي الذي يخوضه بلداهما. إنَّه صراعٌ جعل تركيز المحلّلين في السّنوات الأخيرة على التساؤل عما إذا كنا نعيش حرباً باردة جديدة.
البيان المشترك نفسه تحدَّث عن أنَّهما أظهرا إمكانية العمل سوياً وتحقيق أهداف مشتركة، لتقليل مخاطر الصراع المسلح والتّهديد بحربٍ نوويّة. إنها أدبيات الحرب الباردة في عالم مختلف تماماً في كل شيء، إلا في ما يخصّ رغبة القوتين الجامحة بكسب هذه المنافسة المتجددة.
قبل اللقاء، كانت العلاقات في أدنى مستوياتها. هذا ما أكَّده بوتين لـ"أن بي سي نيوز"، ثم استبق المباحثات في المقابلة نفسها بالقول إنه لا يعرف أي شيء عن تقارير (التقرير الأساس نشرته "واشنطن بوست" قبل أيام من القمة)، قالت إنّ روسيا تزوّد إيران بتكنولوجيا الأقمار الصناعية، آملاً في ألا تكون هناك أيّ تحرّكات قائمة على الاندفاع من جانب الرئيس الأميركي.
إشارة بايدن بعد اللقاء حول وجوب بناء علاقات "مستقرة وقابلة للتنبؤ" مع روسيا، لا يتوقع أن تتحقّق سريعاً، فالخلافات الواقعة اليوم كبيرة جداً، والحركة الأميركية في محيط روسيا نشطة بصورة دائمة بصورتها المباشرة، كما عبر حلف شمال الأطلسي، ثم إنَّ تدخل واشنطن في ملف المعارضة الروسية والضغط بالعقوبات على الروس لم ينتهِ، وهو مستمر بآثاره السلبية في القوة الأوراسية العائدة إلى التأثير العالمي، وهو ما سيحدث توترات جديدة، حتى وإن وضع بايدن سياسته ضد روسيا ضمن إطار الضرورة الانتخابية لأي رئيس أميركي، عندما قال لبوتين خلال المباحثات إنَّ أجندته ليست معادية لروسيا أو أي دولة أخرى، لكنَّ أيّ رئيس أميركي لن يكون قادراً على الحفاظ على ثقة الناخبين الأميركيين ما لم يبذل جهوداً لـ"الدفاع عن الديمقراطية".
لكن، وفي مكان آخر، وضمن إطارٍ اقتصاديّ، كانت واشنطن تعيد صياغة علاقاتها مع حلفائها في مواجهة القوى الشرقية، الصين وروسيا. وكان بايدن قد تسلَّح بهذا الموقف في مقابلته مع بوتين.
قمة السبع الكبار
اختُتمت قمة الدول السبع، صاحبة أكبر اقتصادات في العالم، بتوافق سباعي على مواجهة الصين وروسيا، وتوزيع لقاحات كورونا، والتصدي للتغير المناخي. وفيها، تعهّد بايدن بأن يكون "واضحاً جداً" مع بوتين في شأن الخلافات، كما شدد على أنه لا يسعى إلى "نزاع" مع الصين.
القمة التي انعقدت في بريطانيا بحثت موضوعات اقتصادية وتنموية وصحية عديدة. وإلى جانب مبادرة اللقاحات، حاز موضوع المناخ مساحةً مهمة في النقاش، غير أن بُعدين أساسيين شكّلا أبرز ملامح القمة؛ البعد الأول يتمثل باستعادة الرئيس الأميركي التقليد السياسي الأميركي القائم على رعاية التحالف الغربي وممارسة الدور القيادي في المنظومة الغربية، بدلاً من توتير العلاقات بين أميركا والغرب، كما كان نهج ترامب، فيما يتمثل البعد الثاني بالتوافق على مواجهة روسيا والصين، كنتيجةٍ طبيعية للقيادة الأميركية للمجموعة من ناحية، ولمحاولة الدول السبع إبقاء سيطرتها على اقتصاد العالم من ناحية ثانية، وإدراكها أن الصين قادمةٌ لتنتزع قمة الاقتصاد العالمي خلال سنوات قليلة مقبلة.
تحدث بايدن بفخر بعد القمة عن عودة بلاده إلى حضورها الكامل في الدبلوماسية الدولية، عبر قمة مجموعة السبع التي عكست "تعاوناً وإنتاجية استثنائيين"، مشدداً على أنَّ الدفاع المتبادل عن حلف شمال الأطلسي "واجب مقدّس"، وأن القوى الديمقراطية تخوض "منافسة مع تلك الاستبدادية". هذه الإشارة تحديداً يمكن أن تُطَمئِن القوى الأوروبية التي هالتها مواقف ترامب الابتزازية، لناحية عدم وجوب حماية أميركا لحلفائها من دون مقابل.
الموقف الفرنسي حاول استدراك الحد الأدنى الممكن من العلاقات مع الصين، حين أكد الرئيس إيمانويل ماكرون أن مجموعة الدول السبع "ليست نادياً مناهضاً للصين"، بل تمثّل "تجمعاً لديمقراطيات" تسعى إلى "العمل مع الصين بشأن كل القضايا العالمية". وبمعزل عن الخلافات، فإنَّ البيان الختامي دعا إلى "احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية" في كلٍّ من إقليم شينغيانغ (غرب)، حيث تتهم بكين بارتكاب انتهاكات ضد الأقليات، وهونغ كونغ، حيث يقول الغربيون إنها تستهدف الناشطين المدافعين عن الديمقراطية.
كما كانت لافتةً مطالبة المجموعة الصين، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، بإجراء تحقيق شفاف وعلمي في مرحلته الثانية بشأن مصدر فيروس "كوفيد 19"، ودعوتها روسيا "إلى إجراء تحقيق عاجل، وإلى تقديم شرح ذي مصداقية، وإعطاء توضيحات ذات مصداقية حول استخدام أسلحة كيميائية على أراضيها، وإلى وضع حد للقمع الممنهج للمجتمع المدني ولوسائل الإعلام المستقلة، وإلى كشف المسؤولين عن شن هجمات إلكترونية بواسطة برمجيات الفدية من داخل أراضيها".
لكنَّ الأبرز على الإطلاق كان توافق دول المجموعة على إطلاق مشروع تنمية منافس لمشروع "الحزام والطريق" الصيني (طريق الحرير والحزام البحري). لقد أشركت القمة زعماء كلّ من جنوب أفريقيا وكوريا الجنوبية وأستراليا والهند عن بعد، في إشارة إلى توسيع مساحة تشبيك القوى السبع، وخصوصاً في الفضاء الذي ينشط فيه المشروع الصيني.
ويقوم المشروع التنموي الجديد على إنشاء صندوق البنى التحتية العالمي لدعم شبكة المواصلات في الدول الفقيرة والنامية، والنمو الأخضر في هذه الدول، ودعم الطاقات المتجددة والتكنولوجيا النظيفة، ضمن إطار استراتيجية غربية عالمية جديدة نحو الدول الفقيرة في مواجهة استراتيجية الصين.
إنَّ الاستراتيجيّة الجديدة تشير بوضوح إلى أنَّ التركيز الاستراتيجي الغربي انتقل من الشرق الأوسط، حيث مصادر الطاقة التقليدية، إلى الشرق الأقصى، حيث التهديد الاقتصادي الكبير للغرب، ومن خلال تطوير مصادر الطاقة البديلة في الدول النامية، وبالتالي تخفيف الحاجة إلى المواد الأولية الواردة من الشرق الأوسط. وبالتالي، لا بدَّ من أن يعني ذلك تراجع القيمة الاستراتيجية للشرق الأوسط في الرؤية الأميركية تحديداً، والغربية عموماً.
مستقبل إيران مع تراخي قبضة الغرب في المنطقة
وفي قلب هذا المشهد، تقف إيران في موقف المنتصر موضوعياً في مختلف الجبهات التي خاضتها خلال السنوات الفائتة؛ فعلى المستوى الفلسطيني، تتحقّق الانتصارات التي تسطرها المقاومة الفلسطينية الواحدة تلو الأخرى، فيما كان الانتصار الأخيرة خلال معركة "سيف القدس" مدوياً ومؤسساً لمرحلة جديدة من الصراع.
وفي لبنان وسوريا، قويت شوكة محور المقاومة، من خلال الانتصار على الإرهاب وتمتين الواقع السياسي والشعبي لقوى المقاومة. وفي اليمن، لم تتمكَّن قوى الحرب على اليمن من تحقيق أيّ انتصار يمكّنها من بناء خطاب انتصار مقنع، ولو كان كاذباً.
على الصّعيد الداخليّ، تمكَّنت إيران من استغلال مواردها الذاتية وطاقاتها البشرية في تأسيس الاقتصاد المحلي، وبناء القدرات على المستويات الدفاعية والقطاعية المرتبطة بالاقتصاد، بصورةٍ خدمتها في مرحلة مواجهة الضغوط القصوى الأميركية في عهد ترامب.
في الجانب السياسي، ومع توسع مشروعها المقاوم، تحرص الجمهورية الإسلامية على تعزيز استقرارها السياسي بإدارة ديمقراطية إسلامية ناجحة، تشهد تنافساً كبيراً بين المرشحين والتيارات، لكنه في الوقت نفسه يحفظ الاستقرار الاجتماعي من ناحية، ولا يخاطر بتقدّم المشروع الاستراتيجي للجمهورية، كما تراه قيادتها العليا، من ناحية ثانية.
وعلى صعيد الربط بين البيئة الاستراتيجية المتغيرة، وتصاعد وتيرة المشروع الإيراني، إنّ الاتفاقيات التي وقّعتها إيران مع دول إقليمية، ومؤخراً الاتفاقية الاستراتيجية المقبلة لربع قرنٍ بقيمة 400 مليار دولار، تمثل عهداً استراتيجياً مهماً، يرجّح أن يمدّ إيران بأسبابٍ إضافية لرفد مشروعها الاستراتيجي مالياً واقتصادياً.
وبالتالي، إنّ تراجع الاهتمام والقدرة الغربيتين في المنطقة، بموازاة تصاعد قوة محور المقاومة وإيران، إضافةً إلى انعكاسات العودة إلى الاتفاق النووي، ولا سيما المالية والاقتصادية، تشكل معطيات إيجابية تنعش العقد المقبل للشعب الإيراني الذي ينتخب رئيساً جديداً مع آمال جديدة.