روحٌ جديدة في ثوابت السياسة الخارجية للجزائر
طُبعت السياسة الخارجية الجزائرية بثوابت وطنية وقومية منذ استقلالها عن الاستعمار. لكنها تبلور اليوم مواقفَ أكثر زخماً تجاه القضايا العربية الرئيسة.
شهدت المنطقة العربية الممتدّة على مساحة رحبة بين قارتي آسيا وأفريقيا، طوال العقود المتلاحقة منذ بداية القرن العشرين، أحداثاً وتقلبات متعددة، حملت في طياتها تبدلاتٍ في التموضعات الاستراتيجية والمواقف لدولها كافة، بحيث رسمت كل واحدةٍ من هذه الدول نسقاً خاصاً لها في السياسة الخارجية، يخدم مصالحها الوطنية من جهة، ويتَّسق مع سياساتها العامة من جهةٍ ثانية.
لكن هذه المواقف والتموضعات الاستراتيجية تمحورت، سنواتٍ طويلةً، حول أولوية القضايا العربية المشتركة، قبل أن تشهد العقود الخمسة الأخيرة تراجعاً في التزام عدد من الدول العربية أولويةَ القضايا القومية الجامعة، وذلك لمصلحة الأولويات الوطنية التي نتجت منها خيارات أحادية، شكّلت في كثير من الأحيان نقيضاً للمصلحة القومية المشتركة.
لكن، على الرغم من ذلك، فإن دولاً قليلة حافظت على ثوابتها القومية، والتزمت انتهاج سياسةٍ خارجية تحمل همَّ القضايا العربية، وتبني مواقفها على أساس ضرورات هذه القضايا. لقد كانت الجزائر إحدى هذه الدول القليلة، الملتزمة قضايا أمتها والرائدة في مسار حركة التحرر الوطني، في مواجهة الاستعمار، سياسياً واقتصادياً وثقافياً.
أسس السياسة الخارجية الجزائرية
اكتسبت الجزائر علامة فارقة بين الدول والأمم من خلال نضال أبنائها الأسطوري في مواجهة الاحتلال الفرنسي في خمسينيات القرن الماضي، وصولاً إلى تحقيق الاستقلال في 5 تموز/يوليو من عام 1962، بحيث قدَّم الشعب الجزائري نموذجاً تحررياً فدائياً دفع مليوني شهيد بين عامي 1954 و1962، وساهم بصورةٍ حاسمة في تزخيم حركات التحرر من الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية. ومنذ ذلك الوقت، أصبحت الجزائر قِبلة حركات التحرر الباحثة عن دعمٍ يُسعفها في استعادة استقلالها وسيادتها، فدعمت المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، وساهمت بقوة في إعادة تأسيس خطاب دول الجنوب المناهض لهيمنة دول الشمال، وخصوصاً بعد "مؤتمر الجزائر" لحركة عدم الانحيار عام 1973، والذي حضرته 79 دولة. وأيدت مضامينُه الحركاتِ التحرريةَ، وأوصت بدراسة التنمية الاقتصادية في دول العالم الثالث.
منذ ذلك الوقت، وضعت الجزائر أسس سياستها الخارجية بناءً على اتجاهات أربعة، هي:
- الاتجاه، وطنياً وقومياً وحضارياً: يتمثَّل بوقوف الجزائر إلى جانب قضايا الأمتين العربية والإسلامية.
- الاتجاه، جغرافياً وجيوسياسياً: يتمثَّل بدعم الجزائر وحدة شعوب القارة الأفريقية من جهة، والمغرب العربي من جهةٍ ثانية، على قاعدة المصير المشترك، والتاريخ والحضارة الجامعَين لشعوب هذا النطاق الجغرافي الواسع.
- الاتجاه التحرُّري: ينعكس في تأييد الجزائر القضايا التحرريةَ حول العالم.
- الاتجاه الإنساني: يحمل في مضامينه احترام حقوق الإنسان والمواثيق الدولية، والعمل من أجل السلم والتعاون الدوليين.
نتيجة لهذه الاتجاهات الاستراتيجية الأربعة، ترجمت الجزائر عناوين سياستها الخارجية، لتعبّر بصورة مستمرة عن الخيارات الكبرى للشعب الجزائري، بصرف النظر عن تبدُّل الحكومات وأشخاص الحكم في البلاد. ويمكن اختصار تلك العناوين في ما يلي:
- تناغم السياسة الخارجية مع السياسات العامة للدولة، ولاسيما السياسات الداخلية التي تخدم الأهداف الاستراتيجية نفسها.
- مبدأ شمولية المصالح الوطنية والإقليمية والدولية.
- عدم انخراط الجزائر في أحلاف ومعسكرات وتكتُّلات عالمية، لا تعبِّر عن المصالح الوطنية والقومية لها، وللقضايا التي تحملها.
- أولوية التمسك بالحرية والسيادة الكاملتين، والمساهمة في تحقيق السلام العالمي.
- عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، واحترام سيادتها.
- انتهاج سياسة مبنية على التعاون ضمن أطر المصالح المشتركة، إقليمياً ودولياً.
- مساندة القضايا العادلة للشعوب، وفي طليعتها القضية الفلسطينية، ودعم حركات التحرُّر الوطني.
- احترام حقوق الإنسان، أينما كان.
- العمل على تحقيق نظام اقتصادي عالمي عادل.
دعم مستمرّ للقضية الفلسطينية
ساهمت الجزائر، منذ استقلالها، في دعم القضية الفلسطينية، في مختلف الوسائل. فكان لها محطات بارزة في دعم المقاومة الفلسطينية بعد النكسة عام 1967، وفي مختلف المحطات التي ناضل خلالها الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال وجرائمه المتكرِّرة والمستمرة حتى اليوم.
أصرَّت الجزائر على مواقفها الثابتة تجاه القضية الفلسطينية، وسعت لتوحيد المواقف العربية تجاهها بصورةٍ خاصة، ولكل ما يجمع الدول العربية، من انتماء واحد، ومصالح واهتماماتٍ مشتركة، بصورةٍ عامة.
من هذا المنطلق، لم تنخرط الجزائر في مسارات "السلام" التي سارت فيها بعض الدول العربية الأخرى، بداية من معاهدة كامب دايفيد بين مصر وكيان العدو، وصولاً إلى موجة التطبيع المستجدّة.
خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، لم يقتصر الموقف الجزائري على الجانب الرسمي، بل تحرَّك الشعب الجزائري، عبر فعّالياته الأهلية والنقابية والسياسية (نقابات وأحزاب وجمعيات أهلية)، فأطلق الجزائريون مبادرات تضامن ودعم للشعب الفلسطيني، وأعلنوا حملة "يداً بيد القدس"، وعبَّروا عن غضبهم في وجه ممارسات كيان العدو، الأمر الذي ثمّنه السفير الفلسطيني لدى الجزائر أمين مقبول، الذي اعتبر أن الفلسطينيين تعوّدوا المواقفَ التاريخية المشرِّفة للجزائر، دفاعاً عن حق الشعب الفلسطيني.
على المستوى الرسمي، اتَّسق الموقف الجزائري مع ثوابت سياسته الخارجية ، فأدانت الحكومة الاعتداءات "العنصرية والمتطرفة" في القدس المحتلة على المدنيين الفلسطينيين، وحرمانهم من حرية ممارسة الشعائر الدينية في الـمسجد الأقصى المبارك، مستنكرةً بأشد العبارات "المحاولاتِ المتكرِّرةَ والرامية إلى شرعنة منطق الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، وفرض السيادة على هذه المدينة المقدسة، في انتهاك فاضح لقرارات الشرعية الدولية". وصدر عن الحكومة بيانٌ رسمي دعا المجتمع الدولي، وخصوصاً مجلسَ الأمن، إلى التحرُّك العاجل لتوفير الحماية الضرورية للشعب الفلسطيني ومقدَّساته، ووضع حدّ لهذه الأعمال الإجرامية، ولسياسة الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية. الموقف نفسه عبّر عنه الرئيس عبد المجيد تبون، الذي استذكر "تضحيات الشعب الفلسطيني الذي يقاوم الاحتلال، ويواجه في هذا الظرف استباحة الحَرَم الطاهر، أُولى القِبلتين في القدس الشريف".
لم يكن موقف الرئيس الجزائري فريداً، بل إنه يمثّل استمراراً في توجُّهه كرئيس، كما السياسة الخارجية للدولة. فتبون يكرِّر مواقفه منذ انتخابه رئيساً خلَفاً للرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، ليس من القضية الفلسطينية فحسب، بل أيضاً من القضايا العربية بصورةٍ عامة، مثلما فعل عقب أدائه اليمين الدستورية في كانون الأول/ديسمبر 2019، حين أكد مواقف بلاده تجاه القضايا العربية، وسعيها لتعزيز علاقات الأخوّة والتعاون والتوحُّد بهدف تجاوز المحن والمصائب، متطلعاً "بشوقٍ إلى رؤية الأشقاء في سوريا والعراق واليمن قد تجاوزوا محنهم"، ومعرباً عن استعداد الجزائر للمساهمة في تحقيق ذلك، "وإصلاح الجامعة العربية بصفتها المظلة الجامعة لكل العرب، والمعبِّرة عن وحدتهم ووحدة مصيرهم".
كان موقف تبون، منذ اليوم الأول لتسلمه السلطة، مؤكِّداً ثوابت السياسة الخارجية للدولة الجزائرية، بخصوص القضية الفلسطينية، وتأكيد الوقوف "سنداً للأخوة الفلسطينيين منذ الأزل"، وعدم التأخر في الاستجابة لندائهم حتى استرجاع حقهم المشروع في بناء الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف، وتحقيق حق العودة.
وكمثل موقف رئيس البلاد، كانت كلمة وزير الخارجية صبري بوقادوم خلال الدورة الـ 154 لمجلس الجامعة العربية، فشدَّدت على الثوابت نفسها، حين أكد وقوف الجزائر اللامشروط مع "حق الشعب الفلسطيني الشقيق في استعادة كل حقوقه الوطنية المشروعة، وغير القابلة للتصرف، وعلى رأسها إقامة دولته المستقلّة وعاصمتها القدس الشريف".
وتشدد الجزائر على موضوع الوحدة الفلسطينية سبيلاً ضرورياً إلى تحقيق الانتصار على العدوّ، وهو ما أكده بوقادوم في الجامعة العربية حين دعا الفلسطينيين إلى ترتيب بيتهم الداخلي، وأن يتقدَّموا في مسار المصالحة الذي أصبح ضرورة أكثر من أي وقت مضى، وأن يضعوا مصلحة الأمة والقضية الفلسطينية فوق كل اعتبار.
مع سوريا "بالأفعال"
تُعتبر الجزائر واحدة من الدول العربية القليلة التي لم تَسِرْ في رِكاب الحرب على سوريا، والتي لم تساهم في إقصائها عن جامعة الدول العربية، أو في تأييد القرارات التي اتُّخذت ضدها. لقد تميز الموقف الجزائري تمايزاً لافتاً عن مواقف الدول التي سارت مع دول الخليج العربية في حربها على سوريا منذ عام 2011 (الجزائر والعراق تحفَّظتا على تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية). وواظبت الجزائر على الدعوة إلى ضرورة تغليب لغة الحوار، ووقف العنف، وإطلاق حوار سياسي بين السوريين، للتوصل إلى اتفاق نهائي يحفظ وحدة سوريا واستقرارها وسيادتها.
نظرت الجزائر بتوجس إلى الأحداث في سوريا منذ بدايتها، فالتزمت موقفاً هادئاً، كان صامتاً في البداية، ثم بدا يتحرك بصورةٍ تدريجية نحو إعلان الوقوف إلى جانب سوريا في وجه ما يهدِّد أمنها ووحدتها، بحيث باركت انتصارات الجيش السوري وحلفائه، وخصوصاً في حلب، إذ أكد وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي الجزائري رمطان لعمامرة حينها أن تحرير الجيش السوري مدينةَ حلب هو انتصار على الإرهاب، موضحا أن ما قامت به التنظيمات المسلحة في مدينة حلب هو إرهاب، وأن إعادة السيطرة على حلب هي انتصار على هذا الإرهاب.
في هذا السياق، نشطت السياسة الخارجية الجزائرية أيضاً منذ وصول الرئيس تبون، في سبيل تشديد الموقف الداعم لسوريا، فلقد أكد وزير الخارجية بوقادم، في أكثر من مناسبة، أن بلاده "تقف إلى جانب سوريا في أصعب الظروف"، وهي ستقف معها "بالأفعال وليس بالأقوال فقط"، مكرراً "موقف الجزائر الحاسم والمبدئي" من خلال رفض التدخل الأجنبي في شؤون سوريا.
سبق الرئيس الجزائري نظراءه العرب في الدعوة إلى إعادة سوريا إلى الجامعة العربية قبل عدة أشهر من تكشُّف عودة الاتصالات العربية بدمشق لإعادة فتح سفارات عربية فيها. ومثله فعل رئيس دبلوماسيته بوقادوم، حين اعتبر أن "غياب سوريا فيه ضرر كبير للجامعة والعرب".
إن هذه المواقف تبدو متناسقة تماماً مع أسس السياسة الخارجية للجزائر، والتي تمثّل استمراراً مؤسساتياً عميقاً منذ عقود طويلة. وهذا ما يفسِّره قول الرئيس تبون إن "الجزائر وفية لمبادئها الدبلوماسية، ولا تقبل أن يُمَسّ أي شعب عربي أو دولة عربية بسُوء. وسوريا من الدول المؤسِّسة للجامعة العربية، وهذا ما نعمل عليه في الواقع".
لكن الموقف الجزائري من الأحداث السورية يرتبط أيضاً، في جانب منه، باختبار الجزائر تجربة التسعينيات، التي واجهت خلالها تفجيرات وأعمالاً إرهابية دامية نفَّذتها منظمات إرهابية تحمل شعارات إسلامية مشابهة لتلك التي واجهتها سوريا. إنها تجربة تترك أثراً في خلفيات صناعة القرار الجزائري تجاه القضايا الخارجية، إلى جانب الأسس الأخرى التي سبق ذكرها، والتي تقوم عليها سياسات هذه الدولة في الشؤون الخارجية.
وفي المستقبل، يُتوقع أن تستمرّ هذه الثوابت في السياسة الخارجية، مهما كانت نتائج الانتخابات التشريعية الحالية، ذلك بأن منطلق هذه السياسة متجذِّر في التقليد السياسي الجزائري، وفي المزاج الشعبي الناشئ من قلب الثورة الجزائرية على مناصرة القضايا القومية العادلة.
رفض الهرولة إلى التطبيع
أمّا في ما يخص مسار التطبيع مع العدو، فإن الموقف الجزائري يبدو لافتاً جداً، ليس في رفضه هذا المسار فحسب، وإنما أيضاً للارتفاع الملحوظ في حدة الرفض الجزائري له منذ وصول الرئيس تبون إلى سدّة الرئاسة. فإن كانت الدبلوماسية الجزائرية على الدوام مناصرةً للمقاومة في مواجهة كيان العدو، إلاّ أن موقفها لم يكن بهذه الحدة تجاه الدول العربية الأخرى، التي تشهد أنشطةً وملامح للتعاون مع العدو. لكن المرحلة الحالية، حملت معها لغةً جزائرية جديدة تجاه "عرب التطبيع"، حين وصف تبون سعيهم للتطبيع بـ"الهرولة"، كما حين قال إن بلاده "لن تقبل بعد الآن بأن تكون طرفاً متفرجاً على صراع الآخرين في محيطها الاستراتيجي"، في إشارة إلى تزخيم موقف بلاده من قضايا المنطقة.
أمّا الموقف الأكثر تعبيراً عن المستوى الجديد في السياسة الخارجية الجزائرية، فهو قول الرئيس الجزائري إن "الأزمات التي تعيشها دول الطوق، وكل دول المنطقة، مرتبطةٌ أساساً بالتطبيع، وإن الحرب التي شنّت على الشقيقة سوريا كانت مرتبطة به أيضاً، وإن دمشق لو قبلت في عام 2006 بالمُضيّ في التطبيع وإخراج فصائل المقاومة الفلسطينية، لكان الوضع في سوريا حالياً على النقيض تماماً".
يُضاف إلى ذلك موقفان آخران يمكن من خلالهما تحديد سقف جديد للسياسة الخارجية الجزائرية. الأول يقول خلاله الرئيس تبون إن "الجزائر لن تنخرط أبداً في مسار الهرولة إلى التطبيع"، بينما يقول في الثاني وزير الخارجية بوقادوم (على الرغم من رسوخ الدعوة إلى توحُّد العرب في السياسة الخارجية الجزائرية) إن الجامعة العربية "لا هي جامعة، ولا هي عربية".
قياساً إلى حدَّتها وتوقيتها، إنها مواقف تتضمَّن كثيراً من الشجاعة في هذا الزمن. إنها روحٌ جديدة في ثوابت السياسة الخارجية للجزائر.