أوكرانيا تدخل منطقة الخطر

التوتّر الذي تشهده أوكرانيا هذه الأيام مختلف بطبيعته عن توتّرات السنوات الماضية، فاقتراب توسع الناتو إلى أوكرانيا يعني التّماس المباشر مع أمن روسيا القومي، وهناك دول كثيرة تلعب في ساحة الخطر هذه.

  • تقف أوكرانيا اليوم أمام خطر الحرب الأهلية، مع تنامي المخاوف من تصعيد النزاع الدائر في البلاد.
    تقف أوكرانيا اليوم أمام خطر الحرب الأهلية، مع تنامي المخاوف من تصعيد النزاع الدائر في البلاد.

لم تشهد الدول السوفياتية السابقة في شرق أوروبا سنوات الرغد التي وُعدت بها في التسعينيات، عندما كانت الوعود الغربية تُغدق على مسؤوليها بأن الزمن تغيّر، وأن انهيار المنظومة الشرقية هو نهاية التاريخ، وهو باب الجنة بالنسبة إلى تلك الدول التي عاشت لسنوات طويلة تحت قبضة السلطة المركزية السوفياتية في موسكو، والتي كانت مسكونةً بالمخاطر التي ترسمها أجهزة الأمن الغربية لاجتذاب الدول الاشتراكية، الواحدة تلو الأخرى، بعيداً من سلطة الاتحاد السوفياتي.

أوكرانيا أو روسيا القديمة أو قلب روسيا السلافية هي الدولة الأكثر التصاقاً من الناحية التاريخية بروسيا. هي مركز ثقل رئيس في أيام الاتحاد السوفياتي السابق، وفيها تمركزت قوته النووية والعسكرية، وهي التي كانت خطّ الدفاع الرئيس لديه على الوجهة الغربية للإمبراطورية الكبيرة التي بناها، وهي قبل ذلك كلّه، وقبل وجود الاتحاد، بل قبل توحّد الإمارات المختلفة التي تشكّلت الإمبراطورية الروسية منها، كانت أرض السلاف الأصليين الذين نسجوا لغتهم حرفاً حرفاً، وصنعوا اللغة الروسية الأصيلة، وحافظوا عليها إلى اليوم، بينما تغيرت هذه اللغة في موسكو وبقية أراضي روسيا التي نعرفها اليوم.

 

البحث عن ثغرة في أوكرانيا

أوكرانيا هذه تقف اليوم أمام مخاطر كبرى تطال وحدتها في الدرجة الأولى - وهي وحدة اهتزت وضعفت في السنوات السبع الماضية - كما تطال أمنها القومي، لكن ما الجديد اليوم الذي يمكن إضافته إلى الأحداث والمخاطر المستمرة منذ سنوات؟

اليوم، تعود الإدارة الديمقراطية إلى البيت الأبيض، ومعها استراتيجيتها الاحتوائية التي لطالما واجهت بها واشنطن الاتحاد السوفياتي السابق، والتي استخدمتها أيضاً إدارة الرئيس الديمقراطي السابق لأميركا باراك أوباما، وهي تندرج في إطارها محاولات تطويق روسيا بدول تنتمي إلى المنظومة السياسية والقيمية الغربية، إضافة إلى تعزيز هذا التطويق بإطباق قبضة دول حلف شمال الأطلسي على حدود روسيا من الناحية العسكرية والأمنية.

هذا التوسّع لحلف "الناتو" نحو حدود روسيا شكّل الهاجس الأبرز لدى إدارة الأمن القومي الروسي طوال السنوات التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، بعدما تم حل حلف وارسو الذي كان يشكل النظير الشرقي للناتو، واختفى مع ذهاب المنظومة الاشتراكية برمتها.

تعود هذه الهواجس بقوة اليوم مع استعادة واشنطن مشروعها الأوكراني بقوة. دفعة جديدة من الزخم الأميركي أعطيت للقضية الأوكرانية. تصريحات قادة الناتو لا تتوقّف عن تهديد روسيا وزيادة حماسة كييف. تركيا أيضاً تطلّ برأسها في السياق ذاته. 

يحاول الجميع الدّخول من المسألة الأوكرانيّة، ليجد دوراً جديداً له على حساب النفوذ الروسي في منطقة البحر الأسود وفوق خطوط الغاز التي تمتد من هناك باتجاه أوروبا. هنا تحديداً وجدت أنقرة مصلحةً لها في الدخول إلى القضية. الأميركيون لهم مقاصد أخرى أيضاً، لكنها في إحدى نواحيها متناغمة ومنسجمة مع قضية الغاز الروسي ومخاطر وصوله إلى قلب أوروبا، ليس من ناحية تدفقاته المادية واتكال أوروبا الغربية بنسبة عالية عليه فحسب، إنما أيضاً بأثره السياسي الذي يبدو متعاظماً ومؤثراً في توجهات الساسة الغربيين بصورةٍ متزايدة، ولا سيّما أروقة صنع القرار في برلين.

 

أوكرانيا في خطر

تحت وقع هذه الأجواء، تقف أوكرانيا اليوم أمام خطر الحرب الأهلية، مع تنامي المخاوف من تصعيد النزاع الدائر في البلاد، في ظلّ تسعير غربي لمشاعر العداء لروسيا والموالين لها من جهة، والحشود العسكرية الروسية قرب الحدود مع أوكرانيا من جهة ثانية، وحركة الأساطيل العسكرية والسفن الحربية في البحر الأسود.

في الجانب الروسي، ما تزال موسكو تستبعد اندلاع حرب مع كييف. هذا ما أكّده المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف حين قال: "بالطبع، لا يسلك أحد طريق الحرب، ولا يقبل أحد باحتمال نشوب مثل هذه الحرب"، لكنَّ متابعي ما يدور في أروقة الحكم في موسكو يدركون أنَّ القلق إزاء إمكانية لجوء السلطات الأوكرانية إلى استخدام القوة لتسوية الوضع جنوب شرق البلاد، وبتوجيه غربي، هو قلق مبرّر وحقيقي.

ترى موسكو في أوكرانيا اليوم دولةً على وشك الوقوع في حرب أهلية، وهي تعتقد بصورةٍ واضحة أنَّ القيادة الأوكرانية يمكن أن تراهن مرة أخرى على إمكانية تسوية مشكلاتها الداخلية باستخدام القوة، بما يشكّل خطراً على روسيا في أمنها ونفوذها وحضورها وامتدادها السكاني شرق أوكرانيا، وصولاً إلى كييف نفسها.

من هنا، يبدو طبيعياً أن تتّجه موسكو نحو اتخاذ تدابير تضمن أمنها. ولا شك في أنها تعتبر نفسها معنية بحماية مصير الناطقين بالروسية المقيمين جنوب شرق أوكرانيا، حيث تدور بينهم وبين كييف حرب منذ العام 2014.

في المقابل، ترى كييف، ومعها "الناتو"، بما يشمل تركيا أيضاً، في حشد روسيا قواتها قرب الحدود مع أوكرانيا تصعيداً متقدماً في مسار النزاع الدائر. حلف شمال الأطلسي يطالب اليوم روسيا بإنهاء التصعيد على الحدود، وموسكو تتوجّس من تصريحات قادة الحلف ووجود طائرات مسيّرة تركية في شرق أوكرانيا.

لا يوفر الأمين العام للناتو يانس ستولتنبرغ فرصة لإظهار دعم الحلف لـ"وحدة الأراضي الأوكرانية وسيادتها". لا يعني هذا بالنسبة إليه وجود منطقة الدونباس ضمن أوكرانيا الموحدة فحسب، بل يعني أيضاً عدم الاعتراف باستعادة روسيا جزيرة القرم في العام 2014.

ستولتنبرغ، كما القادة الغربيون، ينتظرون انضمام أوكرانيا إلى الحلف، كما لو أنه عيد سيأتي على البلاد الجريحة؛ هذه البلاد التي تؤكّد قيادتها اليوم أنها لا تريد الحرب مع روسيا. تجربة جورجيا في صيف العام 2008 ما تزال حاضرةً في الأذهان، لكن ليس مؤكداً أنها حاضرة في أذهان المسؤولين في كييف تحديداً. يومها، لم تتخطَ المساعدة الأميركية لتبليسي عتبة التصريحات الصوتية، بينما لم يتحرك جندي أميركي واحد ممن كانوا يأتمرون برئاسة جورج دبليو بوش لينقذ الجورجيين من اجتياح القوات الروسية الحاسم خلال أيام قليلة، على الرغم من أنَّ بوش نفسه كان يعيش مرحلة "فتوحات" عسكرية حول العالم، متفلتة من عقال القانون الدولي.

أوكرانيا لا تريد الحرب، بل تود إنهاء النزاع بشكل دبلوماسي. هذا ما قاله وزير الخارجية دميترو كوليبا. وفي الوقت نفسه، تستند كييف إلى قوة الناتو في قول وزير خارجيتها إنها والحلف "يمكنهما فعل الكثير لمنع روسيا من التصعيد". 

تضع كييف أمنها في حماية "الناتو"، وتطالبه بتقديم المزيد من الدعم، بما في ذلك الدعم العسكري. من جهته، يكثف الحلف البحث في كيفية مد يد العون، لكن ميدانياً، تبدي روسيا وحلفاؤها الأوكرانيون حضوراً أكبر على الأرض، وهم لا يتلهون ببحث الأمور. أسلوب بوتين مختلف تماماً. هو مباشر وحقيقي. يحدث تحوّلات ميدانية عندما يقرّر أن يدخل جيشه في نزاع ما. هنا، نستعيد ثلاث تجارب؛ جورجيا التي ذكرناها سابقاً، وسوريا التي تغيّرت وجهة المعارك فيها بعد تدخل القوات الروسية في العام 2015، والقرم في العام 2014، يوم شهدت المنطقة تحولاً دراماتيكياً، لتعود الجزيرة إلى حضن موسكو، فكيف الحال اليوم والرئاسة الأوكرانية تطالب الولايات المتحدة بنصب منظومات صواريخ "باتريوت" المضادة للطائرات على الأراضي الأوكرانية؟

في الضفّة الأميركيّة، طالبت واشنطن روسيا بوقف حشدها العسكري الّذي وصفته بالعدواني على طول حدود أوكرانيا وفي شبه جزيرة القرم. وزير الخارجية أنتوني بلينكن اتصل بالأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، وتوافقا على الموقف نفسه، على الرغم من أنّ موسكو تصرّ على أنّها لن تسمح بنشوب حربٍ في أوكرانيا لا تريد حدوثها.

الأميركيون يحذرون اليوم من وقوع ما يسمونه "عدواناً" روسياً على أوكرانيا انطلاقاً من إقليم دونباس (شرقي أوكرانيا) وشبه جزيرة القرم، وخصوصاً أنهم يعتقدون بأن الحشود الروسية قرب الحدود هي الأكبر منذ العام 2014، لكن حتى اللحظة، ما تزال الخطوط الاستراتيجية الحمراء بين الولايات المتحدة وروسيا قائمة في أوكرانيا، وما سيعتبر تجاوزاً لها من الجانب الأميركي هو انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. حينها، ستتجاوز روسيا من جانبها الحدود على الأرجح، فأوكرانيا هي روسيا بالنسبة إلى الروس، لا شيء أقل من ذلك.

 

طائرات مسيرة تركية وسفن أميركية

في ظل هذه الأجواء المتوترة، يتحدث المسؤولون الروس عن رصد طائرات مسيرة تركيا في جنوب شرق أوكرانيا. هي أخبار غير سارة على الإطلاق بالنسبة إلى الروس. هكذا عبّر سيرغي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي عن الأمر. إنها مسألة سوف تحوز مساحةً كبيرة من النقاش بين موسكو وأنقرة خلال المرحلة الحالية، فهي ليست تفصيلاً عابراً. تركيا في هذه الحالة هي الناتو، وليست الدولة التي تتطور علاقتها بروسيا في السنوات الأخيرة. الروس يرون منها الآن وجهها الأطلسي. قلب الصراع اليوم يدور حول منع أوكرانيا من دخول المنظومة الأطلسية، وأي دولة أطلسية لن تكون أي شيء آخر غير ذلك.

في هذا السياق، يقول ريابكوف إن موسكو وأنقرة تدرسان مسألة توريد الأسلحة من الجانب التركي إلى دول أخرى، وتسليح أوكرانيا في تصاعد، وواشنطن والناتو يريدان تحويلها إلى "برميل من البارود". موسكو ترى أيضاً أن الدعم العسكري الأميركي لكييف يعدّ تحدياً حقيقياً وداهماً لأمن روسيا، وخصوصاً مع انتشار معلومات عن دخول سفن حربية أميركية إلى حوض البحر الأسود، والروس الذين يدعون الأميركيين للبقاء بعيداً من سواحل القرم، يرون في هذه الخطوة عملاً استفزازياً. 

من هنا، العمل الاستفزازي الأميركي تقابله خطوات روسية لا تسعى إلى أحداث التوازن فحسب، بل إن مسعى موسكو يهدف إلى إبقاء التفوق الاستراتيجي في محيطها الإقليمي القريب. لقد حرّك الروس بسرعة السفن الحربية وغواصة تابعة لأسطول البحر الأسود في شبه جزيرة القرم من ميناء "سيفاستوبل" باتجاه عمق البحر الأسود، وتحركت أكثر من 15 سفينة حربية تابعة لأسطول بحر قزوين في القنوات المائية والنهرية في جنوب روسيا باتجاه البحر الأسود، للمشاركة في تدريبات عسكرية مشتركة مع سفن أسطول البحر الأسود، في مواجهة سفينتين حربيتين أميركيتين كانتا في طريقهما إلى البحر الأسود قبل أن يعلن وزير الخارجية التركي طلب أميركا سحب تصريح مرورهما، في حين صدرت أنباء تفيد بأن تركيا سترسل سفينتين حربيتين إلى المنطقة. إنها حركة الخطوط الحمر، لكن مخاطر تجاوزها ترتفع بشدة كل يوم.