سد النهضة.. اليد الإسرائيلية واحتمال المواجهة العسكرية
لا توجد مؤشرات واضحة حول مدى الفعالية التي قد تتسم بها أي ضربة، ومدى تأثيرها في هيكل خرساني بهذا الحجم، وما إذا كانت ستسفر عن أضرار جزئية في السد أو ستتمكن من تدميره بشكل تام.
الدّور الإسرائيلي في ملفّ سد النهضة كان مستتراً إلى حد ما خلال الفترة الماضية، واقتصر بشكل كبير على معلومات غير موثوقة نشرتها بعض المواقع الإسرائيلية في تموز/يوليو 2019، حول وجود منظومات دفاع جوي إسرائيلية قصيرة المدى من نوع "سبايدر" حول سد النهضة، لكن هذا الدور اتضح بشكل أكبر من خلال تصريحات أدلى بها المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية دينا مفتي، قال فيها إن بلاده من الممكن أن تبيع الطاقة الكهربائية والمياه الفائضة عن حاجتها لأي طرف - بما في ذلك "إسرائيل" - وهو ما ألقى مزيداً من الضوء على نيات تل أبيب في هذا الصدد.
ووقعت كلّ من تل أبيب وأديس أبابا سابقاً عدة اتفاقيات لإقامة مشاريع نهرية في بحيرة تانا على النيل الأزرق ما بين العامين 1990 و1996، في سياق سعي "إسرائيل" للحصول على حصة من مياه النيل. وكان ذلك واضحاً بشكل أكبر خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى أديس أبابا في العام 2016، إذ قال بوضوح إن "إسرائيل" ستساعد إثيوبيا في تحسين وزيادة حصتها من مياه النيل وستدعم قطاعها الزراعي.
تعد حاجة "إسرائيل" إلى المياه من نقاط ضعفها، إذ حاولت مراراً الضغط على الحكومات المصرية لتنفيذ مشاريع لنقل مياه النيل إلى الأراضي الفلسطينية عبر سيناء، ووقعت في العام 2002 اتفاقاً لم ينفذ مع تركيا لاستيراد مياه الشرب، وبالتالي بات وجود تل أبيب في ملف سد النهضة ومشاركة شركات إسرائيلية في التجهيز للمشاريع المستقبلية لتصدير الطاقة الكهربائية من إثيوبيا إلى كينيا وجنوب السودان أمراً متوقعاً بالنظر إلى ما تقدم.
الخيارات التفاوضية الحالية لمصر والسودان
بعد فشل آخر جولات التفاوض بين الدول الثلاث، والتي احتضنتها أخيراً العاصمة الكونغولية كينشاسا، ومثلت، بحسب وجهة النظر المصرية والسودانية، "الفرصة الأخيرة" للوصول إلى حل سلمي لهذه الأزمة، بات الجميع يترقبون حلول منتصف الشهر الجاري، وهو الموعد الذي حددته القيادة المصرية كسقف زمني للمسار التفاوضي في هذا الملف.
تصريحات الرئيس المصري الأخيرة بشأن تطورات هذه القضية كانت مؤشراً على نفاد صبر القاهرة من المحاولات المستمرة من جانب أديس أبابا لكسب الوقت والوصول إلى موعد الملء الثاني لسد النهضة المقرر في تموز/يوليو المقبل، ومن ثم فرض أمر واقع على القاهرة.
الخيارات المصرية الحالية لم تخرج عنها التحركات السياسية والدبلوماسية بشكل تام، فمصر والسودان تعتزمان اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي، لطلب تدخّله من أجل فرض وساطة دولية في هذه الأزمة، بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، والفصلين السادس والثلاثين والثامن والثلاثين من النظام الداخلي لمجلس الأمن. في حال عدم نجاح هذا التوجه، ستلجأ كلا الدولتين إلى محكمة العدل الدولية، من أجل فرض قرار منها بإيقاف عملية ملء بحيرة السد التي تعتزم أديس أبابا البدء بها قريباً.
الخيار العسكري في هذا الملفّ تم التلويح به بشكل واضح خلال الأيام القليلة الماضية، على الرغم من أن القاهرة أكَّدت أن حل هذه الأزمة سلمياً سيكون الخيار الأفضل، لأن الحل العسكري ستكون له نتائج متعددة الدرجات والاتجاهات في المنطقة. وربما تفسر هذه الرؤية تصريحات وزير الخارجية المصري التي تتحدث عن أن مصر ستقوم بتفعيل كل الخيارات المتوفرة لديها "في حال تعرضت حقوقها في مياه النيل للتهديد".
وهنا، لا بد من أن نشير إلى أن الصور المتوفرة للوضع الحالي لبوابات سد النهضة، تشير إلى أنه ما زال أمام القاهرة نحو شهر من أجل إيجاد حل لهذا الملف، فأديس أبابا تحتاج إلى أن تقوم بخفض مستوى المياه الحالية في بحيرة السد بواقع 1 مليار متر مكعب، من أجل تثبيت نحو نصف مليون متر مكعب من الخرسانة أمام السد من أجل زيادة طوله والسماح ببدء تخزين نحو 12 مليار متر مكعب تستهدف إثيوبيا تخزينها في هذه المرحلة. هذه الكمية من الخرسانة تحتاج إلى نحو شهر من أجل تثبيتها في مواضعها، وهو ما يعطي القاهرة مهلة كي تدرس خياراتها.
هنا، يجب الإشارة إلى أن إثيوبيا لم تستفد فعلياً من المياه التي قامت بتخزينها في الملء الأول، نظراً إلى أن توربينات توليد الكهرباء الخاصّة بالسد لم تكتمل بعد. هذا الوضع قائم حالياً، وبالتالي يبقى محل شك أن تتمكَّن أديس أبابا من بدء توليد الطاقة، كما كانت تستهدف، بحلول آب/أغسطس المقبل.
في هذا الصدد، تقترح بعض الأوساط الأفريقية حلاً وسطياً، تقوم بموجبه أديس أبابا بملء بحيرة السد بمقدار ملياري متر مكعب إضافيين فقط، وهو ما يسمح بتشغيل توربينات توليد الطاقة الكهربائية في حالة اكتمالها، وفي الوقت نفسه لا يؤثر في حصص المياه الواردة إلى القاهرة والخرطوم.
الأوضاع الداخلية في إثيوبيا ربما تكون من أوراق رهان القاهرة والخرطوم، فإثيوبيا حالياً في خضم توترات أمنية وعسكرية خطيرة، سواء في إقليم تيجراي شمال البلاد، الذي تتعرض فيه القوات الفيدرالية الإثيوبية لحرب عصابات مستمرة من جانب جبهة تحرير شعب تيجراي أو إقليم أوروميا المتاخم للعاصمة الإثيوبية، الذي يشهد اشتباكات بين عرقيتي الأورومو والأمهرة، أو الحدود المشتركة مع السودان، التي تشهد حشداً عسكرياً كثيفاً على خلفية العمليات السودانية الأخيرة لاسترداد المناطق التي كانت المليشيات الإثيوبية في إقليم الفشقة تتواجد فيها.
هل الخيار العسكري مطروح؟
تفكير كل من القاهرة والخرطوم في الخيار العسكري يبدو منطقياً في هذا التوقيت، وخصوصاً أن الوقت المتاح لتنفيذ ضربة عسكرية لتدمير السد بات محدوداً جداً، إذ يتوجب ضربه قبيل بدء الملء الثاني، وإلا ستكون الأراضي السودانية والمصرية معرضة لمخاطر الفيضانات المدمرة، نتيجة لتزايد كميات المياه المخزنة خلف السد الإثيوبي. يضاف إلى ذلك المخاطر المتعلقة بالوضع الإقليمي والدولي، في ظل التوجهات الأميركية الواضحة التي تميل في هذه المرحلة إلى الجانب الإثيوبي، وخصوصاً أن العلاقة بين القاهرة وواشنطن تشهد بعض التوتر منذ وصول إدارة بايدن إلى سد الحكم.
خيار استخدام القوة الجوية يبدو الأقرب في حالة تفعيل الحل العسكري لهذه الأزمة، إذ تستطيع القاهرة الاستفادة من امتلاكها مقاتلات "رافال" الفرنسية لتنفيذ ضربات جوية مركزة على جسم السد والدفاعات الجوية المحيطة به، حيث يسمح مداها بتنفيذ هذه المهمة، انطلاقاً من القاعدة الجوية المصرية في أسوان أو من قاعدة برنيس الجوية/البحرية التي تقع شرقي مدينة أسوان، ناهيك بإمكانية تنفيذ هذه الضربات من الأراضي السودانية، وخصوصاً أنَّ المقاتلات المصرية من نوع "ميج -29" نفذت مناورتين مع سلاح الجو السوداني مؤخراً تحت اسم لافت هو "نسور النيل".
حتى الآن، لا توجد مؤشرات واضحة حول مدى الفعالية التي قد تتسم بها هذه الضربة، ومدى تأثيرها في هيكل خرساني بهذا الحجم، وما إذا كانت ستسفر عن أضرار جزئية في السد أو ستتمكن من تدميره بشكل تام. هذا كله يعتمد على مدى امتلاك القاهرة معلومات تفصيلية حول نقاط الضعف الأساسية في هيكل السد.
على مستوى التسليح، تمتلك القاهرة نوعين من أنواع الذخائر الجوية القادرة على استهداف السد من مسافات متوسطة؛ النوع الأول هو صواريخ كروز "سكالب"، التي تتسلّح بها مقاتلات "الرافال"، ويبلغ مداها ما بين 220 و300 كيلومتر، والنوع الآخر هو الصاروخ الروسي "كي أتش -59"، الذي يمتلك رأساً حربياً تبلغ زنته 320 كيلوغراماً.
يضاف إلى ذلك توقيع مصر خلال الأسابيع الماضية على اتفاقيتين عسكريتين للتعاون والتدريب مع كل من أوغندا وبوروندي، وهو ما يُنظر إليه - إلى جانب العلاقات القوية بين مصر وجنوب السودان - بوصفه سعياً مصرياً لتأمين القدر الأكبر من التواجد العسكري حول إثيوبيا، انتظاراً لما ستسفر عنه مجريات الأسابيع المقبلة، التي قد تحمل حلاً سلمياً - ما زال من الممكن جداً التوصل إليه - أو حلاً عسكرياً سيُدخل المنطقة كلها في مرحلة جديدة كلياً.