ملامح تغيّرت إلى الأبد.. كل ذلك حصل خلال عقدين
صورة جنود أميركيين ينهبون متحف بغداد، تقابلها صورة مقاوم يلقي التحية العسكرية لتمثال السيدة العذراء في سوريا. صورتان تختزلان واقع الصراع في المنطقة وعليها. مشروع للهيمنة شوّه فسيفساء الشرق، مقابل مشروع المقاومة الآتي من رحم الحضارة والتاريخ.
منعطفات كثيرة مرت بها المنطقة. تحوّلات تراكمت وراء كل منعطف. كثيرة هي الصور التي تختزل الدلالات. بعد سنوات أو عقود، ما فائدة الصورة ما لم نرَها؟
يمكن الرجوع كثيراً إلى الوراء. بداية الاستيطان الصهيوني أو انحلال السلطنة العثمانية أو ما هو أبعد وأقدم. كلما أزحنا طبقة من التاريخ، اكتشفنا طبقات أعمق من مشاريع مرّت على المنطقة. مرّ علينا الكثير. التاريخ سيرورة. متى دار الزمن أصبح حكاية تُحكى.
ثمة حكايات لا تنقطع. تغيّرت وجوه الغزاة، وتبدلت أساليبهم. ذهبوا وبقي الغزو. كُتب على الفلسطيني أنه هندي أحمر. لم تمت فلسطين، ولم تُبَد بالجدري. إرادة المستعمرين ليست قدراً محتوماً، لكن أحياناً، أو مراراً، ثمة حكايات لا تنقطع.
كي لا نقلّب كثيراً في صفحات التاريخ، هذه حكاية من القرن العشرين. آثارها وتبعاتها ما زالت مستمرة.
نسبة المسيحيين في الأراضي الفلسطينية لا تتجاوز اليوم 1 في المئة. قبل نكبة العام 1948، كانوا يشكلون حوالى 11.2 في المئة. هذه إحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. السبب الرئيس لهذا الانخفاض هو الهجرة. السبب الرئيس للهجرة هو الاحتلال.
في فلسطين اليوم 40 ألف مسيحي فقط. يؤكد ذلك رئيس الهيئة الإسلامية المسيحية لنصرة القدس والمقدسات حنا عيسى. مدينة القدس كان يقطنها 27 ألف مسيحي عربي في العام 1948. عددهم اليوم لا يتجاوز أربعة آلاف. العالم المسيحي لا يحرك ساكناً إزاء هذه النكبة. على العكس من ذلك، يدعم الغرب "إسرائيل"، ويساند الإنجيليون الصهاينة في أميركا جهود الاحتلال لأسباب عقائدية.
فلسطين مهد المسيح والمسيحية وفق المنظور الإيماني الديني. أي طعم وأي لون لفلسطين من دون رعاياها المسيحيين؟ لا يتعلق الأمر هنا بالجانب الديني، بل بالإرث الحضاري للمنطقة ووجهها وقيمتها الإنسانية.
في قطاع غزة، هناك 850 مسيحياً فقط. عندما عاد الرئيس الراحل ياسر عرفات إلى الوطن، كانوا بحدود 5500 مسيحي.
وفق مُعطيات "معهد القدس لبحث السياسات الإسرائيلية" للعام 2019، يمثل المسيحيون في القدس حوالى 1,7% من مجموع السكان، في حين كانوا يُمثّلون 19% في العام 1947. خسر هؤلاء 50% من منازلهم في الشطر الغربي من القدس في العام 1948، فيما صادر الاحتلال 30% من الأراضي التي يمتلكونها في الشطر الشرقي من القدس بعد احتلال العام 1967.
في العقدين الأخيرين، تسارعت مشاريع الهيمنة من خارج المنطقة. اتخذت أشكالاً مختلفة. بعضها معلن وعنيف، وبعضها الآخر ناعم ومقنّع. أحداث شعرنا بها، عشناها، رأيناها، وخبرناها.
بمعزل عن التجربة الشخصية، تؤدي وسائل الإعلام دوراً حيوياً في التجربة الجمعية؛ تلك التي نختبرها من وراء الشاشات، سواء كانت كبيرة بحجم تلفاز أو صغيرة بحجم كف اليد. الشاشات ليست حيادية. أساس وجودها وغرضها صياغة السرديات. لأنها كذلك، تصبح الروايات عرضة للتحريف. ثمة روايات تعكس الحقيقة، وثمة حقائق تُعاد روايتها لتخدم الشاشات.
أي خراب حلّ بالمنطقة في غضون عقدين؟ من حقن نضارتها بدم فاسد وشوّه وجهها الجميل؟
تتالت أحداث كثيرة على مدى عشرين عاماً. احتلال العراق 2003 كان توطئة للهجوم لاحقاً على إيران وسوريا ومحاصرتهما وإخضاعهما. حرب تموز 2006 كانت مقدمة نحو شرق أوسط جديد. نهاية 2010 كانت بداية "الربيع العربي". 2011 وما تلاها كانت حراكات وانتفاضات وثورات مُوجهة، واختلاط للحق بالباطل، وغرف سوداء، وأجهزة دعاية، وشعوب متوثبة. قبل ذلك وبعده، أربع حروب على غزة. في العام 2014 كان ظهور داعش وتدمير ممنهج للتاريخ والتراث والثقافة والحضارة والإنسان في المنطقة.
لم ننته بعد. صفقة القرن، الأسرلة، التطبيع، تفعيل الناتو العربي مقابل محور المقاومة، قانون قيصر، العقوبات الاقتصادية.. وأخيراً داعش من جديد. أدوات ومشاريع لهدف واحد: الهيمنة والسيطرة وإخضاع جذوات الرفض والمقاومة.
في معركة الإعلام وكي الوعي، يجري قلب الحقائق وإعطاء تفسيرات أخرى للصورة، كأن كل ما سبق من محاولات لم تجد نفعاً، فاجتمعت الأدوات كلها اليوم دفعة واحدة. مرحلة تكثيف تُؤذن بالانفجار..
السريانية هي اللغة التي تكلم بها السيّد المسيح. لغة حيّة ما زالت القداديس تترنّم بها في الكنائس الشرقية. معلولا واحدة من بضع قرى في سوريا ما زالت تتكلم السريانية كلغة محكية متداولة. بفعل الحرب، بات هذا الإرث الحضاري مهدداً بالانقراض. لا يزيد عدد سكان معلولا اليوم على 2000 شخص. قبل الحرب، كانوا بين 10 آلاف و15 ألف سوري. اللغة تحيا بحامليها. إذا رحل الناطقون بها، كيف سيعلو صوتها؟ "معهد تعليم اللغة الآرامية" الوحيد في سوريا تأسّس في معلولا في العام 2006، أُغلق عام 2011، ولم يُعد افتتاحه حتى اليوم.
لنعد إلى الصورة. صور كثيرة تختزل المعاني والدلالات. ماذا يبقى من الصورة ما لم نرها ولم نفهم دلالاتها ورمزيتها المكثفة؟ عقدان وجيلان. منعطفات تكمل بعضها البعض، كصفحات في كتاب، كفصول لعنوان كبير على الغلاف.
صورتان تختزلان المشاريع في المنطقة. إحداهما لجنود أميركيين في متحف بغداد. نهب وسرقة وتخلّف قادم من بلاد العنصرية. "اليانكي" الذي يريد أن يعلّمنا معنى الحرية. في المقابل، صورة مقاوم ينتمي إلى شعوب المنطقة، إسلامي العقيدة، يلقي التحية العسكرية أمام تمثال السيدة العذراء في سوريا.
لماذا هاتان الصورتان؟ لأنهما تختزلان الصراع والمشاريع من خارج المنطقة ومن رحمها. منطقة تنفرد عن سائر بقاع الأرض بأنها مهد الحضارات ورحم الديانات السماوية. فسيفساء فريدة من الإثنيات والثقافات والأديان والحضارات لا مثيل لها في العالم. مكونات تم تشويهها إلى الأبد بفعل مشاريع لا تأبه لقيمة التنوّع في بيئته الأصلية. كنز إنساني متوارث منذ آلاف السنين.
ظهر الكلدانيون في العراق منذ العام 539 ق.م. كان لهم ملوك حكموا بلاد ما بين النهرين. اعتنقوا المسيحية، لكنهم حافظوا على لغتهم الكلدانية التي يتحدث بها الكهنة أثناء القداديس. هم يشكلون نحو 70 في المئة من مسيحيي العراق.
ست سنوات على غزو داعش، الوجه الآخر للصهيونية، لم تنه معاناة الأيزيديين. دراسة صادرة عن جمعية "الدفاع عن الشعوب المهددة في ألمانيا" تشير إلى أن 280 ألف شخص من الأيزيديين ما يزالون يعيشون في مخيمات اللاجئين في العراق وسوريا. تقدر الأمم المتحدة أن تنظيم "داعش" قتل حوالى 5 آلاف رجل أيزيدي، وخطف واستعبد 7 آلاف امرأة. يعتقد البعض أن الأيزيديين ودينهم وجدا منذ آلاف السنين. تذهب روايات أخرى إلى أنهم انبثقوا عن الديانة البابلية القديمة في بلاد ما بين النهرين. مهما تعددت الروايات، فالثابت أنهم جزء أصيل من المنطقة. لطالما كانوا هنا، لكن الأمر تغيّر منذ ظهور داعش.
تعود جذور الآشوريين إلى الإمبراطورية الآشورية التي حكمت بلاد ما بين النهرين قبل ظهور المسيحية بنحو 2500 عام. يعيش الآشوريون اليوم كمكونات اجتماعية في بعض مناطق سوريا والعراق. إحصائيات غير رسمية تقدّر عددهم في سوريا بنحو 30 ألفاً قبل الأحداث. أغلب المكونات الاجتماعية في المنطقة اليوم تبحث عن الهجرة. تعزز ذلك بعد احتلال العراق وبعد احتلال داعش، صنيعة عهد أوباما، بحسب اتهامات ترامب.
الإعلام يسبق المشاريع، يواكبها، يغذيها، يقولبها ويصدرها في سردية تخدم الأجندة الآتية من وراء البحار. هو يفعل ذلك بلغتنا وثقافتنا. مرّت المنطقة بتحوّلات ومنعطفات. كان دائماً هناك مشروعان متوازيان. مشروع الهيمنة على المنطقة ومشروع مقاومة الهيمنة.
زُرعت "إسرائيل" كقاعدة عسكرية في المنطقة لتأبيد هذه الهيمنة. وُجد داعش كنطفة في الظلام لخدمة هذا المشروع. من ضفاف نهر الأردن وحتى شواطئ المتوسط إلى ضفاف النيل والفرات، كانت حضارة هذه المنطقة تُذبح وتُباد بعقلية واحدة وخلفية إيديولوجية واحدة. كل من ليس منا هو "الغير". يستحق الذبح والسبي والمعاملة كالعبيد.
في المقابل، كان مشروع أهل المنطقة؛ مشروع قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس. مقاتلون يمثلون فسيسفاء المنطقة المزخرفة بألوان العقائد والمذاهب والثقافات والفنون. مقاتلون بخلفيات عقائدية إسلامية ومسيحية، كلدان وآشوريون، قوميون ووطنيون، علمانيون ودينيون، يجمعهم تاريخ مشترك، مصلحة مشتركة، ومستقبل مشترك، وجغرافيا واحدة.
تجتهد سردية الهيمنة لقلب الحقيقة وتسويغ وجودها ومشروعها. هكذا يتحوّل مشروع الدفاع عن المنطقة وشعوبها إلى مشروع نفوذ في آلتها الدعائية.
دراسة أجرتها منظمة "المعونة" التابعة للكنيسة المسيحية الكاثوليكية في العام 2019، أفادت بأن الهجرة المسيحية من مناطق الشرق الأوسط وصلت إلى أبعاد مزعجة، ولا يمكن إيقافها إلا بمساعدة المجتمع الدولي. هو نفسه المجتمع الدولي "الحريص" على مكونات المنطقة بعد النكبة، لكنه أكثر حرصاً عندما يتعلق الأمر بتشكيل تحالف دولي بذريعة محاربة داعش؛ التنظيم الذي أوجدته أجهزة استخباراته ودفعت متطرفين في أوروبا إلى الالتحاق به في العراق وسوريا تحت أعينها ورقابتها.
بينت الدراسة أن نسبة المسيحيين في العراق انخفضت إلى 90%. على الرغم من هزيمة داعش، فإن تأثير الإبادة الجماعية أدى إلى هجرة وتناقص أعداد كبيرة من المسيحيين من المنطقة.
كان هناك حوالى 1.5 مليون مسيحي في العراق قبل العام 2003. بحلول منتصف العام 2019، انخفض هذا الرقم إلى أقل من 150 ألف شخص بحسب بعض التقديرات.
في ما يتعلق بسوريا، انخفض عدد السكان المسيحيين بمقدار الثلثين منذ بدء الاضطرابات في البلاد في العام 2011. كان عدد المسيحيين آنذاك في سوريا أكثر من مليوني شخص.
كل ما حدث منذ عقدين لا يعفينا من المسؤولية. لا يلغي أخطاءنا، نحن أبناء المنطقة، حكامها ومحكوميها. المشاريع الآتية من الخارج تتخطى، رغم ذلك، كل مساوئنا.
الشاشات ليست حيادية. الصور تصنع سرديتها الخاصة ومبررتها وذرائعها. على مدى عقدين، تغيّر وجه المنطقة من بوابة "الحرية والديموقراطية ومحاربة الاستبداد والطغاة". دخل الطغاة متاحفنا بلباس المحرِرين، ثم انسحبوا وأفتلوا داعش.
وقف مقاوم يحيي تمثال العذراء بعد تحريره من التكفيريين. كيف نجحت آلة الدعاية إلى هذا الحد؟ زرعت فينا الحقد كي نصدّق أنه العدو.