كيف تعمل السعودية و"إسرائيل" لمنع إحياء الاتفاق مع إيران؟
سيخسر مثلث الشغب ضلعه الرئيسي برحيل ترامب، لكنّ ذلك لا يعني أنه سيكفّ عن محاولة عرقلة جهود إحياء الاتفاقية النووية، بل على عكس ذلك، فإن الاستعداد الإسرائيلي السعودي لما بعد ترامب قد بدأ بالفعل.
لم يعد الحديث في الولايات المتحدة عن إمكانية العودة إلى الاتفاقية النووية مع إيران من عدمها، وإنّما حول كيفية قيام الإدارة الأميركية الجديدة بذلك ومتى وبأي ثمن.
من وجهة نظر الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن، فإنّ تسريع إيران لبرنامجها النووي والتوترات الإقليمية المتأجّجة، هي نتيجةٌ لمقاربة "الضغوط القصوى" التي اتّبعها الرئيس دونالد ترامب. بايدن على استعدادٍ لرفع العقوبات النووية وإعادة الولايات المتحدة إلى الاتفاق إذا عادت إيران إلى الامتثال له. هذا هو ملخص الخطوة الأميركية الأولى.
الخطوات التالية حدّدها مستشار الأمن القومي القادم، جيك سوليفان: "بعد العودة إلى الصفقة، سيواصل بايدن المفاوضات لتقييد سلوك إيران الإقليمي"، مضيفاً في تصريحٍ لشبكة "سي إن إن"، أنّ برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني "يجب أن يكون على الطاولة".
في الجانب الإيراني، أبدت طهران استعدادها للعودة إلى الاتفاقية على لسان الرئيس حسن روحاني، إلاّ أنّها ربطت ذلك برفع العقوبات الأميركية. يُضاف إلى ذلك الإصرار الذي عبرّ عنه وزير الخارجية محمد جواد ظريف، على عدم استعداد إيران للتفاوض بشأن قضايا خارج برنامجها النووي.
في المحصّلة، تقول إيران إنها ستعود إلى المفاوضات بمجرد أن ترفع الولايات المتحدة العقوبات، بينما يقول بايدن إنه سيرفع العقوبات بمجرد عودة إيران إلى الامتثال. وبعيداً عن جدلية العربة والحصان، فإن روب مالي، مستشار أوباما السابق لشؤون الشرق الأوسط يقول "إنّ اتجاه الأمور سيحدّده في النهاية المرشد الأعلى لإيران".
السيد علي خامنئي رسم بالفعل افتتاحية إيران واستراتيجيتها في المرحلة المقبلة قائلاً: "في حال أُلغيت العقوبات، فإنّ عودة أميركا إلى الاتفاق النووي تصبح ذات معنى، لكن في حال لم تُرفع، فإنّ عودة أميركا ربما ستضرّ بمصالحنا، علينا نحن أيضاً تنظيم اقتصادنا بطريقةٍ يمكننا من خلالها إدارة البلاد حتى لو استمرّت العقوبات".
أبعد من النوايا
كاثرين أشتون، المفوّضة الأوروبية التي قادت محادثات البرنامج النووي الإيراني، تلخّص الوضع بالتفاؤل الحذر، مضيفةً "لن يكون من السهل على إدارة بايدن العودة إلى الصفقة النووية، على الرغم من الكمّ الهائل من النوايا الحسنة".
تكشف أشتون النّقاب عن تفاصيل المفاوضات التي سبقت توقيع الاتفاقية النووية، في مقالٍ نشرته مجلة "التايم" الأميركية، مؤكدةً أنّ الإيرانيين عبّروا حينها عن مخاوفهم بشأن احترام الإدارة الأميركية الجديدة للاتفاقية.
لن يكون من السّهل على بايدن مواجهة جملة معطياتٍ تقف حائلاً أمام العودة المنشودة. المخاوف الإيرانية التي سبقت توقيع الاتفاقية عام 2015 تعزّزت وتأكّدت، لذا هو مُطالبٌ بوضع الصفقة على أسسٍ أكثر ثباتاً، وأن يكون قادراً على ضمان التزام بلاده بها. لكنّ مساره سيصطدم بمعارضة الجمهوريين وبعض الديمقراطيين في الكونغرس.
على صعيدٍ آخر، حاولت إدارة ترامب عرقلة طريق بايدن للعودة إلى الاتفاقية، من خلال تكديس العقوبات على إيران بسبب القضايا غير النووية، ما يعني أنّ إعادة تفعيل الاتفاقية النووية يتطلّب بالضرورة رفع هذه العقوبات، وهو الأمر الذي يستطيع بايدن القيام به من دون موافقة الكونغرس، ولكنّ ذلك لن يعصمه من المواجهة مع أعضائه.
سيواجه بايدن أيضاً معارضةً شرسة من "إسرائيل" ودول الخليج، إضافةً إلى مواجهة التغيّر الذي طرأ على الأطراف الراعية للاتفاقية، فبريطانيا اليوم خارج الاتحاد الأوروبي، والصين في حال نفوذٍ متنامٍ، وروسيا أكثر حزماً من ذي قبل.
ليس هناك الكثير من الوقت
يُجمع المعارضون للاتفاقية النووية على دعوة بايدن إلى عدم الاستعجال، وليس إلى عدم العودة. يعوّل هؤلاء على عامل الوقت وظهور عددٍ من المعطيات التي ستجعل رغبة بايدن تصطدم بالكثير من العراقيل.
في سبيل تجاوز ذلك، يقترح روبرت أينهورن، مفاوض الحدّ من الأسلحة النووية في معهد بروكينغز، العمل على اتفاقٍ مؤقت، تتراجع فيه إيران عن جزءٍ من تعزيزها النووي الحالي مقابل تخفيفٍ جزئي للعقوبات.
لكنّ تعقيدات انتقال السلطة في الولايات المتحدة، والأحداث التي شهدتها واشنطن مؤخّراً، تجعل من الصعوبة إمكانية عقد إطارٍ تفاوضيٍّ سريع. على هذا الأساس، يدعو إيلي جيرانمايه، الخبير الإيراني في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إلى ضرورة إنشاء "قناة خلفيّة" على وجه السرعة بين واشنطن وطهران، تتولّى وضع أسس العودة إلى الاتفاقية، أو على الأقل أسس التفاوض على ذلك.
"إذا أراد بايدن صفقة مع روحاني، فلن يكون أمامه سوى 5 أشهر للحصول عليها" يقول ديف لولر من موقع "أكسيوس"، في إشارةٍ إلى الانتخابات الرئاسية الإيرانية في حزيران/ يونيو المقبل، والتي بحسب معارضي الاتفاقية النووية، ستأتي برئيسٍ محافظٍ بالقياس على تقدّم المحافظين في الانتخابات الأخيرة، ما يعني مزيداً من التشدّد الإيراني إزاء إعادة إحياء الاتفاق النووي، ومزيداً من التعقيد في طريق العودة المفترضة إلى هذه الاتفاقية.
وفي هذه الجزئية تحديداً، يكمن الشغب الذي حاول مثلث السعودية و"إسرائيل" وترامب إثارته.
مثلث الشغب
مع ظهور نوايا بايدن بالعودة إلى الاتفاق النووي، إضافةً إلى الحماس الأوروبي لوضع هذه النوايا على سكّة التنفيذ، سارع هذا المثلث إلى استراتيجية وضع العراقيل.
في هذا الإطار اشتكى بايدن قبل أسابيع من عدم تزويد البنتاغون فريقه بالتقارير الأمنية والاستخبارية بأمر من ترامب، وهو الأمر الذي قُرِئَ على أنّه محاولةٌ لتعطيل عمل إدارة بايدن، وبالتالي عدم تمكّنه من العودة إلى الاتفاق النووي بحلول حزيران/ يونيو.
وفي هذا الإطار أيضاً، رأت سانام وكيل، الباحثة في معهد تشاتام هاوس في لندن أنه يوجد "محاولةٌ واضحة لعرقلة العودة السريعة المقترحة من قبل إدارة بايدن إلى الاتفاق النووي"، بالاستناد إلى الإجراءات التي اتخذها ترامب في الأسابيع الأخيرة، ومن خلال تسريع "اتفاقات أبراهام" وجهود إتمام المصالحة الخليجية، واغتيال العالم الإيراني محسن فخري زاده.
سيخسر هذا المثلث ضلعه الرئيسي برحيل ترامب، لكنّ ذلك لا يعني أنه سيكفّ عن الشغب، ومحاولة عرقلة جهود إحياء الاتفاقية النووية، بل على عكس ذلك، فإن الاستعداد الإسرائيلي السعودي لما بعد ترامب قد بدأ بالفعل.
في 29 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وبناءً على أوامر مباشرة من نتنياهو، أرسل مستشار الأمن القومي الإسرائيلي خطاباً مقتضباً إلى وزير الدفاع بيني غانتس: "وفقاً لتعليمات رئيس الوزراء، ستتمّ صياغة موقف الحكومة بشأن الصفقة النووية الإيرانية بشكلٍ حصريّ من قِبل رئيس الحكومة".
وبعيداً عن ردود الفعل الإسرائيلية على هذه الخطوة، من المؤكّد أنّ نتنياهو يستعدّ لاتخاذ موقفٍ متشدّدٍ للغاية بشأن عودة بايدن للاتفاق النووي، وهو موقفٌ يفضّل فيه الشراكة مع وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، وليس مع مسؤولي حكومته الذين يريدون اتّباع نهجٍ أكثر هدوءاً مع الإدارة الأميركية.
ويتركّز الموقف الإسرائيلي السعودي في المرحلة المقبلة على محاولة تضييق الخناق على إيران، والضغط على إدارة بايدن، وذلك عبر تشكيل جبهةٍ مكوّنةٍ من "إسرائيل" ودول الخليج، بحيث لا تستطيع الإدارة الأميركية الذهاب للحوار مع إيران من دون موافقة هذا التجمّع.
في هذا السياق، تؤكّد صحيفة "نيويورك تايمز" أنّ الاستعجال في إتمام المصالحة الخليجية، جاء في إطار مسعى لتوجيه ضربةٍ للاقتصاد الإيراني، تضع مزيداً من التعقيد في وجه العودة السريعة للاتفاق النووي. وتنقل الصحيفة الأميركية عن مصدرٍ ديبلوماسي قوله، إنّ جاريد كوشنير أثار خلال لقائه بالقادة القطريين احتمال تغيير مسار الرحلات الجوية التجارية من قطر عبر المجال الجوي السعودي بدلاً من إيران.
هذا الإجراء سيحرم إيران من رسومٍ تُقدّر بنحو 100 مليون دولار سنوياً، إضافةً إلى أنه سيحاول التأثير على العلاقات الاقتصادية التي تحسّنت بشكلٍ نوعيّ بين الدوحة وطهران خلال سنوات الأزمة الخليجية، إذ تُشير الإحصاءات الرسمية القطرية إلى أنّ حجم التبادل التجاري السلعي، ارتفع من 357 مليون ريال قطري إلى 1,558 مليون ما بين عامي 2017 و2018.
ويتفق ذلك مع ما نشرته صحيفة "فايننشال تايمز" الأميركية، من أنّ إدارة ترامب عبّرت عن قلقها من تأثير الأزمة الخليجية على "التحالف العربي" ضد إيران، وشعرت بالاحباط من منفعة إيران المالية، حينما أُجبرت الرحلات الجوية من قطر على استخدام الأجواء الإيرانية.
في كلّ الأحوال، تدرك إيران جيداً هذه السياقات، وهي التي اتّسم تعاطيها مع السنوات الأربعة الماضية بالحكمة والذكاء. واليوم، فيما يخرج ترامب مطروداً من واجهة الأحداث، تؤكّد طهران أنّ العودة إلى الاتفاقية النووية ليست غايةً بحد ذاتها، وتدرك أيضاً أنّ انتصارها التراكمي وصمودها في وجه حملة "الضغوط القصوى" الترامبية يجب ألاّ يكونا خارج الحسابات.