إيطاليا المأزومة مُهدَّدة بعودة الفاشية

إيطاليا اليوم التي تنبض بحكومةٍ شبه مُستقيلة، مُنبثقة عن تحالف حزبي اليمين (حراك 5 نجوم) واليمين المُتطرِّف (الرابطة La Lega) التي تشكّلت بعد نتائج انتخابات العام الماضي في الرابع من شهر مارس/آذار 2018، هي في أزمة (crisi) مُفتَعلة من قِبَل أحد أطراف هذا التحالف وهو وزير الداخلية ماتيو سالفيني الذي يشغل أيضاً منصب نائب رئيس الحكومة الأول بصفته زعيم حزب (La Lega) طمعاً بالدعوة لانعقاد انتخابات مُبكِرة، وذلك طعناً لشريكه في التحالف، لويجي دي مايو، وزير العمل والنائب الثاني لرئيس الحكومة، بصفته رئيس (حراك خمسة نجوم) وحتى رئيس الحكومة نفسه جوزبي كونتي، المُعيَّن من قِبَل (حراك خمسة نجوم).

ماتيو سالفيني وزير الداخلية الألماني يصف حزب الله اللبناني بـ "الإرهابي الإسلامي"

هذه الحكومة المبنية على اتفاق مكتوب ومُعلَن من قِبَل الطرفين لم تتشكّل تلقائياً بعد نتائج الانتخابات ولكن بعد أربعة أشهر، وذلك لضغوطٍ مباشرةٍ قد شدّدت على رئيس الجمهورية الإيطالية بصفته هو مَن يوافق ويُطلِع على الرئيس المُكلَّف والوزراء المطروحين. وأيضاً على الاقتصاد الإيطالي من قِبَل عدَّة بلدان في الاتحاد الأوروبي. الأمر المُشترك بين حزبيّ التحالف، الرابطة وخمسة نجوم، هو عدم الرضى عن سياسات الاتحاد الأوروبي، والدعوات إلى إيجاد البديل، وخصوصاً مُقارعة الطَمَع الفرنسي والألماني وأهميتهما في داخل الاتحاد واقتصاده.
ولكن مع وجود اختلافات في الرؤى في مسائل أخرى عديدة بين الحزبين. 


الأزمة بدأت حينما قام رئيس حزب الرابطة ماتيو سالفيني في (08/08/2019) بطلب سحب الثقة من الحكومة من دون أن يُقيل أحداً من وزرائه في داخل الحكومة التي هو نفسه كوزير فيها، والدعوة لتحديد موعد انتخابات مُبكرة، حتى أنّ هذه الخطوة في الدستور الإيطالي هي من صلاحية رئيس الجمهورية الإيطالية حَصْراً. الردّ كان من رئيس الحكومة جوزبي كونتي الذي دعا إلى النقاش وإحالة الأمر أمام البرلمان لكي يسمح لكلا الطرفان تقديم ما لديهما أمام البرلمان وأمام الرأي العام. وهذا الذي حصل في ظهر الثلاثاء 20/08/2019، وفي هذه الجلسة ألقى رئيس الحكومة كونتي كلمة بيَّن فيها الجوانب الداخلية والخارجية التي شجَّعت طلب سَحْب الثقة من قِبَل رئيس حزب الرابطة وغيره من اليمين في هذا الوقت تحديداً، التي كان أبرزها، العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، كونتي كشف أن هناك تعيينات يجب على إيطاليا شغرها في الاتحاد الأوروبي في مناسباتٍ قريبة، ولمَّحَ أيضاً إلى دور روسيا وسالفيني في بعض المواضيع، وحتى في ما يخصّ الجانب الداخلي، ذكر كونتي أنهم كانوا بصَدَد وضع نصّ دستوري جديد للبلاد، عوضاً عن العديد من المراكز في الدولة التي كانوا بصَدَد ملئها. 
الأهم أنّ رئيس الحكومة جوزبي كونتي المُعيَّن من قِبَل حراك خمسة نجوم، ختم كلمته بأنه سيُقدِّم استقالته لرئيس الجمهورية، ليستلم الأخير زِمام الأمور.
إيطاليا ما قبل انتخابات 2018 كانت ولعدَّة سنوات مُتتالية محكومة من قِبَل حزبين، الحزب الديمقراطي والذي يُعرِّف عن نفسه باليساري الوسطي، ولكن ولاءه باتجاه الاتحاد الأوروبي كبير، والحزب التقليدي الثاني هو حزب وسطي يميني بقيادة سيلفيو برلسكوني، الذي باعَدَته عن منصبه ضغوط أوروبية خصوصاً من أنجيلا ميركل مورِست عليه في بدايات الأزمة الليبية.
الأسباب التي بدَّلت موقف الناخِب الإيطالي من اليسار والوسطية إلى اليمين المُتطرّف نقلة واحدة، مُكتسِحاً الأخير عدَّة مدن كانت لأكثر من 50 عاماً تُعدّ تقليدياً لليسار، كمدينة جنوة البحرية والعديد من المدن الأخرى في جنوب البلاد التي منها نهضت حملات مقاومة الفاشيين في نهاية الحرب العالمية الثانية.
أبرز تلك الأسباب:
إيطاليا وبمكانها الجغرافي تُعدّ إحدى بوابات أوروبا الرئيسة من جهة البحر المتوسّط مع أختيها إسبانيا واليونان، بدايةً، الأمر المشترك بين تلك البلدان الوضع الاقتصادي المشلول وفي بعض أقسامه منهار ومثبت على إعانات أوروبية.

إنّ سياسات الاتحاد الأوروبي في ما يخصّ استقبال (المُهاجرين) الوافِدين من البحر، هي مهمة موكَلة إلى بلدان الساحل التي ذكرناها، ومن بعدها يتمّ دَمْج مَن هو "صالِح" في البلدان الأوروبية الأخرى ولكن بعد الإبقاء على رعايتهم في أماكن مُستأجرة من قِبَل الدول الساحلية المُستقبلة لسنتين كحدٍ أقصى، من دون أية خطة عودة إلى أي بلد من البلدان القادمين منها الوافدون، ما عدا دولة نيجيريا، التي بينها وبين إيطاليا اتفاق ثنائي في هذا الخصوص.

وذلك وبعد مرور أكثر من 7 سنوات على تنفيذ تلك السياسات (مع اندلاع الأزمات والحروب في البلدان الإفريقية ومنها ما سُمّي بالربيع العربي)، كانت أعداد الوافدين قد تضاعفت، وبدأت بلدان كفرنسا وألمانيا، بزيادة القيود على شروط استقبال الوافدين من إيطاليا، وخصوصاً مراوحة تركيا في هذا الخصوص مع البلدان الأوروبية، هذه العلاقة التي كانت مرهونة نتائجها بإدخال تركيا ضمن بلدان الاتحاد الأوروبي. ما زاد أعداد المُستَغنى عنهم في بلدان الساحل بشكلٍ ملحوظ، باتوا يملأون الساحات العامة مُنخرطين في مجتمعٍ فقيرٍ الذي بدأ يرى الوافدين الذين يعيشون ويبيتون على نفقة الاتحاد الأوروبي، كأساس المشكلة في وضعهم الاقتصادي السيّئ.

تلك الحال الاجتماعية الصعبة التي وصفناها وخصوصاً مع تاريخٍ مليء باليمينية المُتطرِّفة التي صوَّتت لوصول الفاشية إلى الحُكم منذ العام 1922 إلى نهايتها مع تعليق مشنقة رئيسها بنيتو موسوليني وزوجته في إعدام شعبي. هي أبرز أرضية يمكن لليمين المُتطرِّف أن يستغلّها لعودته، إنّ حزب الرابطة الذي هو اليوم بقيادة ماتيو سالفيني يُعدّ قديماً نسبياً في الحياة السياسية الإيطالية، وعُرِفَ دائماً بخدمته ليس فقط للنهج اليميني ورفض المُهاجرين و"الأجنبي"، بل أيضاً ضد المُهاجرين الداخليين الآتين من الجنوب الإيطالي، حتى أنّ إسم الحزب كان (الرابطة الشمالية) تمّ تغييره إلى (الرابطة سالفيني) مع وصول سالفيني إلى رئاسته الذي هو في الأربعينات من العُمر فقط، وتفعيل نشاط الحزب من جديد ما قبل انتخابات 2018، وذلك استقطاباً للناخِب الجنوبي، واستعمال اللغة الشعبوية وفي كثيرٍ من الأحيان تكون تهجّمية على الآخرين.

جاء دور اليمين في هذه الظروف ليعزِّز النمط الاجتماعي المُحافِظ، هذا طبيعي الحدوث في مجتمع أكثرية شعبه من الكبار في السن، فهو يفضّل الانغلاق على نفسه أكثر. خصوصاً أن اليمين المُتطرِّف في إيطاليا الآن جاء مُسترجِعاً لماضٍ يعكس النَمَط والتعامُل الفاشي العصري "العصري: أي المُحبّ لإسرائيل"، وزيادة على ذلك، كراهية ومُعاداة للدين الإسلامي بالقول الصريح، وهذا ما حرَّك نفوساً كثيرة من الشعب الإيطالي مُلبّية ومُسترجِعةً الحنين لأيام الأجداد، ودليل ذلك، فوز ماتيو سالفيني نفسه في تلك الانتخابات مُحصِّلاً 17% من الأصوات بعد أن كان أقصاه 5% في انتخابات العام 2013، وهذا ما خوَّله تشكيل تحالف مع صاحب المركز الأول في الانتخابات، أي منافسه الانتخابي وهو حراك "خمسة نجوم"، هو أيضاً حزب يُعدّ يمينياً ولكن ليس مُتطرّفاً، وهو حديث المنشأ في الساحة السياسية الإيطالية، أنشأته شخصية معروفة في المجتمع الإيطالي في مجال المسرح الساخِر، لها باع طويل في القضايا السياسية ولكن كانت دائماً في إطارٍ مسرحي، وليس تنفيذياً، وحتى أنه بالرغم من إنشائها للحراك هذه الشخصية لم تبقِ نفسها على رئاسة الحراك بعد الفوز في الانتخابات، بل أفسحت المجال لوجوهٍ جديدةٍ وأشخاصٍ مُنتخَبين وعادت إلى عملها في المسرح الساخِر.

حراك "خمسة نجوم؟ حَصَدَ في الانتخابات الأخيرة المركز الأول مع 31% من الأصوات. التحالف بين الطرفين أفضى إلى الاتفاق على أن يكون رئيس الحكومة مُتوافقاً عليه وتابعاً للحزب الأول (حراك خمسة نجوم) ويكون نائبان إثنان له، يشغلان مهام وزارية في نفس الوقت، النائب الأول هو رئيس حراك "خمسة نجوم"، لويجي دي مايو، هو أيضاً شاب في الثلاثينات من عُمره ويشغل منصب وزير العمل حتى لو أنه مع آخرين في الحراك لم يكن لهم دور في الحياة السياسية القديمة، ومعظمهم من فئة الشباب من دون خبرة ما سمح لليمين المُتمرّس سياسياً حَصْر الحُكم الفعلي في البلاد في يده المُتمثّلة بماتيو سالفيني.

أما في ما يخصّ إسرائيل واليمين الإيطالي، فالعلاقة لا تقتصر على رَفْعِ عَلمِ دولة العدو في تجمّعاتها، فإن ماتيو سالفيني قد سبق له وأن لبّى دعوة تأييدية من خلال قدومه إلى الحدود اللبنانية من جهة الأراضي المحتلة وتحديداً لمُعاينة ما زعمته حكومة الاحتلال اكتشافاً لأنفاق لحزب الله في 11/12/2018. وعادة ما تتوخّى إيطاليا الحَذَر في ما يتعلّق بحزب الله رغبة في عدم إثارة مشاكل للقوات الإيطالية العاملة في لبنان ضمن قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (يونيفيل)، وأيضاً لأسبابٍ اقتصاديةٍ مع لبنان، وفي بعض الأحيان تكون مواقف جيّدة ومُنصِفة.

هدف الزيارة كان واضحاً في كلام نائب رئيس الحكومة الإيطالية الوزير سالفيني، والذي تهجَّم فيه على حزب الله بالإسم ووصفهم بالإرهابيين. أتى الردّ السريع من روما والتي سارعت مصادر في وزارة الدفاع الإيطالية وفي قيادة قوّة الأمم المتحدة المؤقّتة في لبنان (يونيفيل) إلى الإعراب عن "القلق" والشعور بـ "الإحراج"، إثر تغريدة وزير الداخلية ماتيو سالفيني، والتي وصف فيها حزب الله اللبناني بـ "الإرهابي الإسلامي". ونوهَّت تلك المصادر بأنه "لا نريد إثارة أيّ جدل… لكن مثل هذه التصريحات تضع رجالنا، المُنتشرين في جنوب لبنان ضمن مهمة يونيفيل على طول الخط الأزرق، في موقفٍ واضح الصعوبة". وأضافت "ذلك لأن دورنا الحيادي، على مَقرُبة من إسرائيل ومن الشعب اللبناني على حدٍ سواء، يحظى دائماً بالاعتراف في المنطقة". وبعدها رد سالفيني في تسجيل على صفحته على فيسبوك قائلاً "من الغريب أن تقرأ في الصحف الإيطالية أن بعض الناس يتعجَّبون من وصفي الإرهابيين الإسلاميين بما هم عليه، إرهابيون إسلاميون".

من جهة أخرى حثَّت وزيرة الدفاع إليزابيتا ترينتا، العضو في حراك (خمسة نجوم)، سالفيني على التفكير جيداً في ما يقوله. وقالت في بيان "يتعيَّن علينا دائماً أن نضع في اعتبارنا أن جنودنا يخاطرون بحياتهم كل يوم من أجل استقرارنا". ومضى مانيلو دي ستيفانو وكيل وزارة الخارجية والعضو في حراك (خمسة نجوم) إلى أبعد من ذلك قائلاً "أن تتحدَّث عن اعتباراتٍ جيوسياسيةٍ من دون فَهْم الأسباب وتدعم فقط الطرف الأقوى، فهذا أمر يُلحِق الضَرَر بالشعب والسلام في المنطقة". ومن تلك التصريحات يمكننا أن نستنج أن ما قام به نائب رئيس الحكومة الإيطالية سالفيني، لم يكن رغبة حكومية بل كان استجابةً لإسرائيل من أحد أزلامها، ليس إلا.

الآن ومع توقّع حصول انتخابات جديدة، أظهرت الاستطلاعات مُسبقاً أن حزب الرابطة يمكنه إحراز 33% من الأصوات لوحده هذه المرة، ما يخوِّله التحالف مع الأحزاب الوسطية اليمينية وغيرها من اليمين، الذين يمكنهم أن يشكَّلوا سوياً أكثرية برلمانية لتشكيل الحكومة المقبلة مُنفردين، وذلك على قاعدة أنّ أيّ صوت جديد لليمين هو خسارة صوت لغيرهم.