كيف توقّفت أن أكون يهودياً

هل اليهودية نادٍ حصري مغلق يتم اختيار البشر وفقاً لأصلهم، ولا يوجد اختيار طوعي حر، وبهذا المعنى لا توجد يهودية علمانية داخل وخارج إسرائيل؟

كتاب "كيف توقّفت أن أكون يهودياً" للكاتب الإسرائيلي شلومو زاند

يشكّل كتاب "كيف توقّفت عن كوني يهودياً" للكاتب الإسرائيلي شلومو زاند جزءاً أخيراً من ثلاثية كرّس فيها جهداً كبيراً لمهاجمة فكرة العرق التاريخي اليهودي الذي يفرض حقوقاً وامتيازات.

ويعيد الكاتب من خلال هذه الثلاثية النظر في مسلّمات صهيونية عدّة، بواسطة إخضاعها لمحاكمة تاريخية صارِمة. ففي الجزء الأول "اختراع الشعب اليهودي" (الترجمة العربية 2010)، صبّ المؤلف جهده على تفكيك المقولات المتعلّقة بإعادة كتابة وقائع الماضي اليهودي من طرف من سمّاهم "كتّاباً أكفاء" اختلقوا شجرة أنساب متسلسلة لـ"الشعب اليهودي". وذهب في الجزء الثاني "اختراع أرض إسرائيل" (الترجمة العربية 2013)، نحو تفكيك أكاذيب متعلّقة بتوكيد صِلة هذا "الشعب اليهودي" المُختلَق بفلسطين، حيث قام بتقويض أسطورة كون "أرض إسرائيل" الوطن التاريخي للشعب اليهودي، وأثبت أن الحركة الصهيونية هي التي سرقت هذا المُصطلح ("أرض إسرائيل") وهو ديني في جوهره، وحوّلته إلى مصطلح جيو- سياسي، وبموجبه جعلت تلك "الأرض" وطن اليهود.

يبدأ ساند من يهوديته هو، التي اكتسبها من طريق والدته، التي بحسب ما يسرد، "كانت يهودية؛ لأن جَدّتي اعتُبرت يهودية بفضل جَدّة جَدتي.. وهكذا على طول سلسلة طويلة من الأجيال المتعاقبة.. وتمّ اعتبار والدتي يهودية منذ وصولها إلى إسرائيل في نهاية عام 1948"، ووالده النمساويّ "لو كان والدي فقط يهودياً، بينما كانت والدتي- في نظر القانون الإسرائيلي- من "الأغيار" (الغوييم)، لكانت السلطات المعنية في إسرائيل قد اعتبرت قوميّتي نمساوية، نظراً إلى أنني ولِدت صدفة في معسكر صغير للمُهجَّرين في مدينة لينتز".

هذه مسألة أساسية في اكتساب "اليهودية"، وهي لا علاقة لها بدينٍ ولا بقومية (عِرق)، بل بقوانين جديدة وضعتها الحركة الصهيونية. يقول الكاتب إن "حقيقة أنني أتحدّث وأحلم وأشتم وأدرّس وأكتب بالعبرية، وأنني درست في مدارس إسرائيلية حين كنت شاباً، لم تكن لتسعفني قطّ، بل كنت سأعتبر، طوال حياتي كلها، إبناً شرعياً للأمّة النمساوية"، أي لن يكون يهودياً "عميقاً".

يتحدّث زاند عن قوّة النزعة القومية في "إسرائيل"، فهي تنكر مبدأ الجنسية المدنية وتستعيض عنها بجنسية "يهودية" تحدّد انتماءً قوميّاً لا انتماء دينيّاً. ويشير الكاتب إلى أنّ "عرب إسرائيل" محرومون من هذا الانتماء، لأنّهم لم يولدوا من أمٍّ يهودية، ناهيك عن أنّ الحركة الصهيونية تستخدم التوراة كصك ملكيّة لاحتلال فلسطين.

ويرى زاند أنه منذ أواخر سبعينات القرن العشرين، وأكثر حتى في الثمانينات منه، ثمة تشديد على أنّ "إسرائيل" دولة يهودية لا إسرائيلية. فالصفة الأولى تشمل يهود العالم بأسره، ولا تشمل الثانية "سوى" مجموع مواطني "إسرائيل": من مسلمين ومسيحيين ودروز ويهود من دون التمييز في ما بينهم.

مارس زاند في كتابه " كيف توقّفت عن كوني يهودياً " نقداً عميقاً عبر إثني عشر فصلاً متسلّحاً بالأدلّة والحِجج إبتداءً من الفرضية التي استهل بها هذا الكتاب وهي إستحالة الجمْع بين الثقافة اليهودية بنسختها الإسرائيلية على جناح من التناقض بين العلمانية من جهة، وبين التعاليم اليهودية من جهة أخرى، وأيّ تناقض أكثر وضوحأ من الذي يجمع العلمانية بالأهداف الدينية؟.

ويُجيب زاند عن السؤال المطروح: هل هناك ثقافة يهودية علمانية؟ بقوله "لا"، لأن التوفيق ما بين العلمانية والانتماء إلى اليهودية أمرٌ مستحيل، وقد ينطبق هذا الأمر على سائر الأديان أيضاً. فلا توجد أية لغة مشتركة أو نمط حياة مشترك بين اليهود العلمانيين، وغياب أية أعمال فنية أو أدبية يهودية علمانية، على الرغم من إمكانية التعرّف إلى ملامح ثقافة علمانية يهودية في فكر كارل ماركس وألبرت أينشتاين وسيغموند فرويد مثلاً. بَيْدَ أنّ هؤلاء عبّروا انطلاقاً من ثقافاتهم الخاصّة، ولم يرسوا أسس فكر يهودي علماني.

يقول زاند: منذ تأسيس دولة إسرائيل، واجهت الصهيونية العلمانية سؤالاً أساسيّاً لم تُجب عنه حتى اليوم، ولم يُجب عنه كذلك مؤيّدوها في الخارج، وهو: مَن هو اليهوديّ؟. ويضيف: لم تطرح اليهودية التلمودية هذا النوع من الأسئلة. فعلى خلاف التوراة التي تصف اليهودي على أنّه المؤمِن بالله، لطالما كان اليهوديّ هو الذي ولِدَ من أمّ يهودية أو الذي اعتنق الديانة اليهودية وفقاً للقانون الديني وأتمّ التعاليم الأساسية. في الزمن الذي لم يكن فيه الإلحاد خياراً، كان الذي يتخلّى عن الديانة اليهودية لاعتناق ديانة أخرى (كحال كثيرين آنذاك)، يكفّ عن كونه يهوديّاً في نظر أتباع الديانة. ومع ظهور العلمانية، أصبح اليهودي الذي يكفّ عن تأدية الفرائض الدينية من دون أن يعتنق ديانة أخرى، يثير أسى المُقرّبين منه، ولكنّه يبقى يهوديّاً بالنسبة إليهم، ذلك أنّ الأمل يبقى موجوداً بأن يعود مُجدّداً إلى ربوع الإيمان.

في السنوات الأولى بعد تأسيس دولة "إسرائيل"، حين أرسلتْ موجاتُ الهجرات حصّتَها من "الأزواج المُختلطين"، حاولت الصهيونية تخفيف حدّة المشكلة، بَيْدَ أنّها سرعان ما فهمت أنّ تعريف اليهوديّ لا يمكن أن يرتكز على مبدأ التطوّع. بموجب "قانون العودة"، منحت الدولة الجديدة تلقائيّاً إمكانية الهجرة والحصول على الجنسية إلى جميع الذين يُعرَّف عنهم على أنّهم يهود. كان يحتمل أن يزعزع فتحُ أبواب الهجرة على هذا الشكل شرعيةَ الاستيطان الإثنية الدينية التي ترتكز عليها الصهيونية العلمانية. بالإضافة إلى ذلك، عرّفت الصهيونية اليهود على أنّهم "شعب" من أصل واحد، الأمر الذي جعلها تخشى، على غرار اليهودية قبلها، "تشبيه" اليهود بالشعوب المجاورة.

الصهيونية تخشى من ذوبان اليهود في "الأغيار"، لذا فقد منعت الدولة فور قيامها الزواج المدني ولا يسمح إلا بالزواج الديني، ولا يجوز تبني زوجين يهوديين لطفل غير يهودي إلا بعد جعله يهودياً.

فمنذ الثمانينات ثمة تشديد على أن "إسرائيل" دولة يهودية، دولة لليهود فقط، باعتبار غير اليهود خطراً يهدّد الوجود اليهودي. فعلى خلاف التفكير السائد، لا يُعزى استمرار هذا التشريع الديني الكاذب والمُضاد للّيبرالية إلى القوة الانتخابية التي يتمتّع بها المُتديّنون، بل إلى الشكوك التي تحوم حول الهوية الوطنية العلمانية وإرادة الحفاظ على العرقية اليهودية. لم تظهر إسرائيل يوماً على أنّها ثيوقراطية حاخامية، إذ ما زالت منذ تأسيسها عبارة عن إثنوقراطية صهيونية. لطالما واجهت هذه الإثنوقراطية مسألة في غاية الأهمية: فهي تعرّف عن نفسها على أنّها "دولة يهودية"، أو حتى "دولة الشعب اليهودي" من جميع أنحاء العالم، بَيْدَ أنّها عاجزة عن تحديد من هو اليهودي.

ويسخر الكاتب من المحاولات الصهيونية التي عرّفت اليهود على أنهم شعب من أصل واحد أي عرق واحد. وعبثاً حاول بعض العلماء الصهاينة في "إسرائيل" وخارجها التأكيد على "نقاوة وراثية" حافظ عليها اليهود على مرّ الأجيال، من خلال محاولات عبر البصمة أو الاختبارات الحديثة العهد الرامية إلى تمييز الحَمْض النووي اليهودي التي تجعل اليهودي يختلف عن البشر لكنها فشلت.

يلحّ زاند على أن ترسيخ هوية يهودية جوهرانية لا دينية، يشجّع على التمسّك بمواقف عرقية، عنصرية أو شبه عنصرية، لدى أوساط عديدة واسعة، في "إسرائيل" وفي خارجها على حد سواء.

ويجري الكاتب مقارنة مع تجارب أخرى، فإذا قرّرت الولايات المتحدة أنها دولة (أنغلو – ساكسونيين بروتستانت) فماذا سيكون مصير الآخرين بمن في ذلك اليهود. وإذا قرّرت فرنسا تعديل دستورها وعرّفت البلاد على أنها دولة كاثوليكية ولا يجوز بيع أراضيها لغير الكاثوليك وأن مواطنيها البروتستانت والمسلمين واليهود لا يتمتّعون بحق الاقتراع والترشّح للانتخابات ماذا سيحدث لفرنسا؟ وماذا لو فعلت المملكة المتحدة وإسبانيا الشيء ذاته؟ ويتساءل ساند: ألا يتطابق وضع اليهودي في دولة "إسرائيل" في العقد الثاني من القرن مع البيض في جنوب الولايات المتحدة في الخمسينات من القرن 20، ومع الفرنسيين في الجزائر قبل عام 1962 والجنوب أفريقيين قبل عام 1994.

ويسأل زاند بسخرية: هل اليهودية نادٍ حصري مغلق يتم اختيار البشر وفقاً لأصلهم، ولا يوجد اختيار طوعي حر، وبهذا المعنى لا توجد يهودية علمانية داخل وخارج إسرائيل؟

ويُضيف: أن تكون يهودياً يعني أن تتمتّع بامتيازات لا يتمتع بها غير اليهود، يستطيع اليهودي أن يمتلك الأرض، ويقيم بؤرة استيطانية في أرض غير اليهود، وأن يكون وزيراً للخارجية ويعيش في مستوطنة غير قانونية بحسب القانون الدولي. وكل هذا التمييز لا يمكن تسميته إلا عنصرية أكثر من 50% - أصبحت 60% - من نسل اليهود الأميركيين ونسبة ليست أقل من نسل اليهود الأوروبيين يتزوّجون من "أغيار". وبمفهوم المُتعصبين للدولة اليهودية فإن كل مَن يتزوّج أو تتزوّج من الأغيار إنما ينضم للملايين الستة ضحايا النازية.

لا يمكن تسمية صيانة الهوية اليهودية وكبح العلاقات الإنسانية أو الحب بين البشر إلا عنصرية، وبناء هوية بوساطة التجنيد الدائم لصدمة في الماضي لا يمكن رؤيتها إلا بوصفها حالة مرضية تلحق أشد الأذى والخطر بالأفراد والجماعات التي تأخذ بها طوعاً أو فرضاً.

ثم يصل الكاتب إلى النتيجة التالية: "أرى من واجبي الأخلاقي الانفصال نهائياً عن اليهودية المُتمركزة حول ذاتها القبلية. عندما يصنّفونني ضمن اثنوس خيالي ويشملونني في نادٍ حصري فإنني أطلب الانسحاب".

إن العنصرية موجودة في كل مكان تقريباً، لكن في "إسرائيل" العنصرية بنيوية بروح القوانين، وتدرس في جهاز التربية والتعليم ومنتشرة في وسائل الإعلام، وتطبّق على الفلسطينيين بشكل سافِر. 

والامر المروّع أكثر هو أن العنصريين في "إسرائيل" لا يعرفون أنهم كذلك ولا يشعرون بوجوب الاعتذار. وتشكّل "إسرائيل" نموذجاً يُحتذى به في نظر معظم حركات اليمين المتطرّف في أنحاء العالم والتي كانت مُعادية للسامية.

هذه العنصرية بنيت على أساطير كوجود شعب في مرحلة تاريخية لم تشهد فيها ولادة الشعوب بعد، ونفي هذا الشعب مع وجود دلائل على عدم النفي، وإنكار التهوّد الطوعي وبالقوّة (إنكار دولة الخزر ومملكة حدياب ومملكة حمير والبرابرة المتهوّدين في شمال أفريقيا، وإنكار أن أصل معظم يهود أوروبا الشرقية بما في ذلك أوكرانيا وروسيا متسلسل من قبائل عاشت تحت حكم الإمبراطورية الخزرية).

يذهب زاند أبعد من ذلك، إذ يطرح أسئلة عن جذور "اليهودية" منذ مملكة سليمان، التي ينفي أيّ وجود تاريخي لها، فضلاً عن سؤال العلاقة بين الدين والقومية، ونفي وجود "قومية/عرق". هؤلاء حقيقة جاؤوا كمستعمرين ومارسوا أبشع أشكال النهب والقهر المُغطى بأمر إلهي وصكّ ملكية غير قابلة للنقاش. فالصهيونية تعيد إنتاج "مملكة صليبية جديدة استعراقية منعزلة في قلب الشرق، هذه المملكة يكتنف مستقبلها الشك" كما يختم كتابه، شلومو زاند الذي لم يعد يهودياً.