عبد الوهاب المسيري ونقد الحداثة والصهيونية
في ذكرى رحيل المفكر الدكتور عبد الوهاب المسيري نعرض دراسة تتناول رؤيته النقدية للحداثة الغربية والحركة الصهيونية .
لعل كتاب "في نقد الخطاب الحداثي: عبد الوهاب المسيري ومنهجية النماذج"، للكاتب المغربي الدكتور عبدالله ادالكوس، الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، من أهم الكتب التي فكّكت منهجية المسيري المعرفية النقدية للحداثة الغربية.
وقد نجح الكاتب ادالكوس في احتواء أهم المفاهيم الحداثية الغربية التي عمل المسيري على انتقادها. لذلك يُعدّ هذا البحث دراسة لإحدى المُقاربات النقدية لموضوعة الحداثة في الفكر العربي والإسلامي المعاصر.
لا يخفي ادالكوس إعجابه بمشروع عبد الوهاب المسيري "ومجهوداته الجبّارة والفريدة ومكانته العلمية في عالم الفكر. فالمسيري كان ذا رؤية نقدية فريدة تتّسم بترسانة مفاهيمية هائلة ومتنوّعة المصادر تمنحه فاعلية نقدية فريدة مستمدة أساساً من تجربته في البحث العلمي في الثورة الابستمولوجية في مجال الإنسانيات والروح النقدية".
الكاتب ادالكوس اختار دراسة الأُسس المؤطّرة لرؤية المسيري النقدية في فصلين مع مدخل وخاتمة. أما الفصل الأول فيتضمّن مبحثين أساسيين وفي كل مبحث مطلبان، الأول حول أهمية الدرس المعرفي، والثاني حول المرجعيات النقدية لعبد الوهاب المسيري.
الفصل الثاني وفيه مبحثان أيضاً، الأول حول الإنسان في منظومة الحداثة الغربية، حيث يشرح لنا المسيري كيف تحوّل الإنسان إلى مجرّد مادة لا أكثر، والثاني حول العقد الصامت بين الحداثة الإمبريالية والأيدلوجية الصهيونية.
يقول ادالكوس إن عدداً من الباحثين يُرجِع أسباب هذه المسلكية التي اتبعتها المعرفة الحداثية الغربية إلى ما سمّاه المسيري بـ"واحدية العلوم" التي يسعى دُعاتها إلى فصل النشاطات الإنسانية عن كل المعايير الأخلاقية، فلا يصبح هناك فرق بين الإنسان والطبيعة المادية، فتغدو معرفتنا بالإنسان أشبه بمعرفتنا بالظواهر الطبيعية.
يرى ادالكوس أنه لا يمكن للعلوم الإنسانية أن تصل إلى تلك الدقّة الصارِمة التي تميّز العلوم التجريبية. كما أن من الصعب أن تتبنّى العلوم الإنسانية مقولات من قبيل "إذا حصل كذا، ينتج منه كذا". فالعلوم الإنسانية تفتقر إلى معايير قادرة على أن تؤكّد لنا أن المقدّمات وصلت إلى درجة الوضوح والدقّة. فلا يمكن الحديث في العلوم الإنسانية عن البديهيات.
استطاع المسيري - بحسب وصف الباحث المصري رفيق حبيب - أن "يُحدد مفاهيم، كل مفهوم يصف جانباً من الظاهرة، ويصبح إسماً له، ثم يقيم العلاقة بين مفهوم وآخر من خلال حال التقابل واللقاء".
ويُشهد للمسيري أنه أبدع في التخلّص من القبضة الحديدية التي تفرضها النماذج المعرفية الغربية، وأن يخلق إطاراً معرفياً يرتبط بالحقل التداولي العربي، تتم من خلاله عملية اكتشاف الذات والآخر معاً. وهذا ما دفع بمؤرّخ غربي بارز هو كافين رايت بأن يصف المسيري بأنه "مفكّر عربي في سياق عالمي".
تبرز التكنولوجيا باعتبارها أبرز فاعل في ترسيخ السلطة، حيث تتعدّى البُعد التقني وتغدو أيديولوجيا للقوة. بيد الدولة المركزية لضبط عناصر المجتمع، ما يعني أن مسارات التحديث يتم اختزالها في بُعدٍ واحدٍ ذي نزعة كلية استبدادية تستلب الإنسان وتختزله في الاستهلاك الذي يحكمه عنصرا الإنتاج والتوزيع.
إن المجتمع الغربي يكشف عن اغتراب الإنسان وتشيوئه في ظواهر عديدة. فالإنسان قد تحوّل في ظل علاقات العمل الصناعية والرأسمالية إلى مجرّد عنصر أو جزء ضئيل من جهاز الإنتاج الهائل وصار عجلة صغيرة مجهولة قابلة لأن تُستبدَل.
إن الإنسان داخل هذا النمط التقني الحداثي يقع تحت ضغط الآلات التي تفرض عليه ألواناً من السلوك النمَطي الرتيب. وتسدّ عليه منافذ المبادرة الشخصية، وتعوق تحديده لذاته، وتخنق فاعليّته الخلاّقة. يقول الفيلسوف أريك فروم في كتابه "الإنسان بين الجوهر والمظهر": "عندما يتغيّر في المجتمع أي جانب هام كما حدث عندما تحوّل الإقطاع إلى الرأسمالية، أو عندما حلّ نظام المصانع محل الحِرفيّة الفردية، فن مثل هذا التغيّر يحتمل أن يؤدّي إلى اضطراب في الطبائع الاجتماعية للناس، ولا يصبح التكوين القديم للطبائع مناسباً للمجتمع الحديث ما يزيد من الشعور بالاغتراب واليأس وأثناء هذه الفترات الانتقالية يصبح ضحيّة لجميع أنواع المزاعم والادّعاءات التي تُهيّئ له ملاذاً من الشعور بالوحدة".
إن هناك تماثلاً بين الرؤية الإمبريالية المعرفية والرؤية الصهيونية، الأولى تعتبر الإنسان الأبيض (الغربي) مركز الكون. أما الصهيونية فجعلت من اليهود شعباً مختاراً، وهذا يعني تمتعه بحقوق مُطلقة تنكر حقوق الآخر وتلغي كل المنظومات الأخلاقية القيمية، إلا أخلاق القوة. ولعلّ أبرز مظاهر التماثل بين الرؤيتين تكمن في كونهما مبنيين على "تصدير المشكلات إلى الخارج، بحيث يدفع بقية العالم فواتير التقدّم الأوروبي، والحل الصهيوني بهذا المعنى هو حل إمبريالي مبني على تصدير المسألة اليهودية إلى فلسطين لحل مشكلات أوروبا، وتوظيف العنصر البشري لصالحها. وقد قامت الإمبريالية الغربية بتأسيس الدولة الصهيونية، بحيث أصبحت قاعدة للاستعمار الغربي وتدين له ببقائها فهي دولة وظيفية تابعة للإمبريالية الغربية".
إن الصهيونية لم تنبع من واقع أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، وإنما هي صيغة فرضتها الحضارة الغربية في عصر نهضتها، وبداية تجربتها الاستعمارية للتعامل مع الجماعات اليهودية، أي أن حال التبعية والذيلية الصهيونية للعالم الغربي، ليست مسألة تنصرف إلى أمور السياسة والاقتصاد، بل إلى بنية الأيديولوجيا نفسها وأصولها الحضارية والفكرية. فقد تبنّت الصهيونية كل هذه الأفكار الخاصة بالدولة القومية وتحرّكت في إطارها فأنشأت علاقة مع النظامين الفاشي والنازي، لذلك لا يمكن رؤية الحركة الصهيونية، ومن ثم فهم الخطاب الصهيوني خارج هذا الإطار.
عندما تولّى هتلر الحُكم في ألمانيا عام 1933، اتّخذ السياسة العرقية العنصرية سياسة رسمية للدولة الألمانية، حيئذ بدأت الاتصالات السرية بين قيادة الحركة الصهيونية والنازيين، وقد بقيت هذه الاتصالات طيّ الكتمان ردحاً طويلاً من الزمن بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. فالصهيونية أقامت العلاقة مع النازية لإنقاذ حياة اليهود من الاضطهاد النازي في ظاهر الأمر. أما الحقيقة فهي تتعلّق بإقامة دولة يهودية في فلسطين، وإجبار اليهود على الهجرة إليها. ومما لا ريب فيه أن النازية كانت ترغب في التخلّص من اليهود الألمان، كما أن الحركة الصهيونية كانت ترغب في الاستفادة من بعض اليهود الراغبين والقادرين على إقامة الدولة اليهودية في فلسطين، لذلك التقت الرغبتان على هدف واحد كانت ضحيته بقية اليهود وهم الغالبية العظمى.
ولا بد من التوضيح أن الظاهرة الصهيونية هي لصيقة بالحضارة الغربية وهي إفراز طبيعي للاستعمار الغربي، إلا أن مُصطلح الصهيونية لم يسلك إلا في القرن 19، ولكنه مع ذلك يستخدم للإشارة إلى بعض النزاعات في التاريخ الغربي.
لقد صاغ المسيري إطاراً معرفياً سمّاه "الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة" التي تُعدّ جزءاً من عقد صامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية بشأن يهود العالم: شعب عضوي منبوذ – نافع – ينقل خارج أوروبا إلى فلسطين ليوظّف لصالحها في إطار الدولة الوظيفية التي أصبحت إطاراً للتعامل مع اليهود والمسألة اليهودية.
هناك ديباجة أخرى بصيغة دينية يهودية هي "الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المتهوّدة" التي تُعبّر عن الإجماع الصهيوني والهدف منها احتواء المادة البشرية اليهودية، تذهب إلى أن "العالم هو المنفى" وأن اليهود يشكّلون "شعباً عضوياً واحداً" لا بد من أن ينقل من المنفى - فهو شعب عضوي منبوذ - إلى فلسطين "أرض الميعاد". والهدف من النقل ليس التخلّص من اليهود وتأسيس دولة وظيفية، وإنما أصلاح الشخصية اليهودية وتطبيعها. كما اكتسب المكان الذي سينقل إليه الشعب اليهودي معنى داخلياً إذ تصبح الأرض هي الأرض الوحيدة التي تصلح للخلاص(المشيخاني أو الاشتراكي أو الليبرالي)، فهي أرض الميعاد الدينية الإثنية الدينية أو العلمانية، بل أن خلاص الشعب هو خلاص الأرض وهو نفسه مشيئة الإله".
خلاصة القول إن "الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة" و"الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المتهوّدة" تشكّلان أساس العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، الذي يقضي بأن تلتزم المنظمة الصهيونية بموجبه بإخلاء أوروبا من يهودها أو على الأقل من الفائض البشري اليهودي وتوطينهم في فلسطين، على أن يقوم الغرب بحمايتهم ودعمهم وضمان بقائهم وتوظيفهم لمصلحته.