وسطاء الخداع: كيف قوّضت أميركا عملية التسوية
سياسات أوباما إزاء فلسطين والقضايا العربية لا تختلف جذرياً عن سياسات الرؤساء الأميركيين الأربعة الذين سبقوه في السنوات الـ35 الأخيرة
المؤرّخ الفلسطيني رشيد الخالدي هو من طراز المفكّرين الفلسطينيين إدوارد سعيد وهشام شرابي ووليد الخالدي. ولاشك بأن إصداراته تحدث حواراً ونقاشاً حادين لدرجة اتهامه بالإرهاب من قبل اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة.
يكشف كتاب "وسطاء الخداع: كيف قوّضت الولايات المتحدة الأميركية عملية السلام في الشرق الأوسط" للمؤرّخ الفلسطيني الأميركي البروفيسور رشيد الخالدي، الدور الأميركي كوسيطٍ غير نزيه في الصراع العربي - الإسرائيلي المتواصل منذ نحو سبعة عقود. ويكتسب الكتاب أهمية خاصة لكون الخالدي (1948) الذي يحتل كرسيّ الراحل إدوارد سعيد في جامعة كولومبيا في نيويورك، كان أحد المشاركين في المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية في تسعينات القرن العشرين وقد اطّلع على الأمور التي لم تُنشَر عن هذه المفاوضات، وجمعَ وثائق عن المفاوضات السابقة واللاحقة (السرّية وغير السرّية).
يتوقّف الخالدي عند ثلاث محطات، تكشف التواطوء الأميركي الإسرائيلي للحؤول دون إقامة دولة فلسطينية، كما تميط اللثام عن الدور الذي لعبته الإدارات الأميركية المُتعاقبة في إعاقة التوصّل إلى تسويةٍ سلميةٍ عادلة، عبر «وساطة»، أقل ما توصَف بأنها مُخادِعة، مُراوِغة، ومُنحازَة بالمُطلَق للطرف الإسرائيلي.
أول هذه المحطات هي ما سُمّي بخطة الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان عام 1982، إثر إقصاء منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، ونفيها في جغرافيا مُتناثِرة، حيث رفضَ رئيس وزراء (إسرائيل) مناحيم بيغن، القبول بخطة ريغان، لإعادة تأطير اتفاق كامب ديفيد (مع مصر)، بما يُفسِح المجال لقيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح.
وضعَ بيغن الأسُس لمُقاربة استخدمها جميع رؤساء وزارات (إسرائيل) بعده، ألا وهي أنّ من غير المسموح تقديم دولة مستقلة للفلسطينيين وإعادة الأراضي التي احتلتها (إسرائيل) إلى القيادة الفلسطينية، وقبول (إسرائيل) بالتخلّي عن مشاريع الاستيطان في هذه الأراضي. كل ما يمكن تقديمه للفلسطينيين ـ بحسب بيغن ـ هو سلطة ذاتية في بعض المناطق، لكن على أن تبقى ملكية أراضي هذه المناطق لإسرائيل. وسمحَ الرؤساء الأميركيون لبيغن بفرض هذا التوجّه على السياسة الأميركية (هو ومَن تبعه من قادة "إسرائيل") منذ نهاية السبعينات حتى الساعة، ولو بدرجاتٍ مُتفاوِتة.
المحطة الثانية "جاءت في سياق مؤتمر مدريد 1991، وما تبعه من مفاوضات سرّية مباشرة بين الفلسطينيين و(إسرائيل) – من دون معرفة شُركاء الفلسطينيين العرب مثل سوريا – الذي أدّى في النهاية إلى توقيع اتفاقات أوسلو، في أيلول - سبتمبر 1993، والتي جاءت بمثابة التسليم الفلسطيني للهيمنة الإسرائيلية وتبرِئتها إلى حدٍ كبيرٍ من أثقال وجرائم الاحتلال، والتعامُل مع الفلسطينيين، وكأنهم الندّ بالندّ. وهو ما يُبِعد الواقع بُعْد الكواكب عن بعضها البعض، تحت الوصاية الأميركية التي رغم معرفتها بكل التفاصيل، ليس فقط أمعنت في إصرارها على ندّية المفاوضين، بل أصرّت على ذلك السلوك وهي تقدّم لإسرائيل كل مقوّمات التسلّط وانتهاك الالتزامات.
وتكشف الوثائق الفلسطينية - التي تمكّن الخالدي من الاطّلاع عليها بحُكم عمله مستشاراً للمفاوضين الفلسطينيين- عن تنسيق عالي المستوي بين الوفدين الأميركي والإسرائيلي وخاصة موقف تل أبيب من الحُكم الذاتي الفلسطيني وهو ما لم يتغيّر من بيغن إلى إسحق شامير إلى إسحق رابين ثم شيمون بيريز ومن جاؤوا بعدهم.
المرحلة الثالثة هي الأربع سنوات الأولى لحُكم باراك أوباما حيث تعرّض الرئيس الأميركي لضغوطٍ شديدةٍ من بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية، بعدما صعدت إلى السلطة في )إسرائيل( حكومة مُتطرّفة إلى أقصى الدرجات في شباط (فبراير) 2009 بقيادته، مباشرة بعد انتخاب باراك أوباما لولايته الرئاسية الأميركية الأولى. وبتنسيقٍ كاملٍ مع القيادة الجمهورية في الكونغرس (خاصة بعد وصول كتلة حزب الشاي اليميني إلى مجلس النواب) ومنظمة الإيباك كُبرى جماعات اللوبي الموالي لإسرائيل واليمين المسيحي، وهو ما أدّى إلى تراجُع أوباما عن كل المواقف السابقة في العامين الأوّلين لحُكمه. وأبرز تلك المواقف تجميد شروطه الخاصة بضرورة وقف التوسّع في بناء المستوطنات في الضفة الغربية لاستئناف المفاوضات، وتأكيده على ضرورة التوصّل إلى حلٍ سريعٍ لظهور الدولة الفلسطينية بالعودة إلى حدود 1967 بتعديلات طفيفة وفقاً للقرار الدولي رقم 242. وقد وصلت قمّة التراجُع الأميركي في خريف عام 2011، حيث قادت الولايات المتحدة حملة كبرى ضد الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، حتى أن أوباما ألقى في تشرين الأول – أكتوبر 2011 واحداً من أكثر خطاباته تأييداً لإسرائيل من جانب الرؤساء الأميركيين من فوق منبر الأمم المتحدة، وبعدها في آذار – مارس 2012 التقى أوباما ونتانياهو في البيت الأبيض، وحسب مستشار لرئيس الحكومة الإسرائيلية كانت المرة الأولى التي يلتقي رئيس أميركي برئيس الوزراء الإسرائيلي من دون أن يتطرّقا إلى القضية الفلسطينية حيث سيطرت القضية النووية الإيرانية على اللقاء.
يرى الخالدي، وهو صديق سابق لأوباما وجار له ومُطّلع على خلفيّاته الشخصية وخلفيّات سياساته، أنّ أوباما حاول اعتماد مشروع مختلف عن أسلافه من الرؤساء الأميركيين في التعامل مع القضايا الإسلامية والعربية ومع قضية فلسطين. لكن اللوبي الصهيوني القوّي في أميركا المدعوم من مُعظم أعضاء الكونغرس وضغوط الإعلام المؤيّد لإسرائيل في الولايات المتحدة، وسكوت الأنظمة العربية حالت دون نجاحه في هذا التحوّل، كما حدث سابقاً لرؤساء أميركيين جرّبوا هذا الخيار ودفعوا ثمنه بينهم جيمي كارتر وجورج بوش الأب. ويشير الخالدي أيضاً إلى أنّ الانقسام بين حركتي «حماس» و«فتح» في فلسطين والانقسامات بين الأنظمة العربية في الشأن السوري والإيراني أسهما في تصعيب عملية دعم أوباما للمواقف العربية.
مع ذلك، يشير الخالدي إلى أنّه في السنتين الأوليين من ولاية أوباما الأولى، حاول تبنّي سياسات إزاء فلسطين وإسرائيل أقرب إلى سياسات جورج بوش الأب وجيمي كارتر وبيل كلينتون وبعض سياسات رونالد ريغان. لكن بعد فوز الجمهوريين في الانتخابات النيابية النصفية لمجلس النواب عام 2010 بفضل تأييد اللوبي الصهيوني، شعرَ أوباما بأنّ السكّين قد تصل إلى عُنقه في الولاية الثانية. انطلاقاً من ذلك، تجنّب أوباما الخطوات التي قد تؤدّي إلى هزيمته، وعاد إلى البراغماتية المُحافظة، وتأثّر بمستشارين مؤيّدين لإسرائيل.
ويتناول الخالدي بدايات انخراط الولايات المتحدة في سياسات الشرق الأوسط بعد مؤتمر يالطا في عام 1945، ويقول "إنّ العاهل السعودي الوحيد الذي حاول مواجهة قادة أميركا وسياساتهم التعسّفية نحو العرب، كان الملك فيصل بن عبد العزيز الذي مات اغتيالاً. عِلماً أنّه كان يحاول التمسّك بوعدٍ قدّمه الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت لوالده الملك عبد العزيز بن سعود، تعهّد فيه التشاور مع السعودية قبل اعتماد سياسات مُتعلّقة بحقوق الفلسطينيين والعرب، وتعهّد به روزفلت على خلفيّة تنامي دور البترول في الحرب (العالمية) الثانية، واستخدام قواعد عسكرية في الأراضي السعودية. ثم جاء الرئيس هاري ترومان بخلفيّة سياسية محدودة رغم مشاركته في الحرب الثانية، وكان أقل معرفة بالأهمية الاستراتيجية للبترول العربي وساندَ الحركة الصهيونية في ضغوطها على بريطانيا للسماح بالهجرات اليهودية إلى فلسطين، وأنكر وعد روزفلت لملك السعودية وسار في طريق يغلب الاعتبارات الداخلية الأميركية في السياسة الأميركية حيال القضية الفلسطينية بتأثير مستشاريه من أصحاب الميول الصهيونية، ومتجاهلاً تقديرات وزارة الخارجية من خطورة تأييد الدولة الجديدة من دون اعتبار لشعوب الشرق الأوسط".
إن ترومان كان بعيد النظر في عدم توقّع حدوث مُضاعفات لتراجُعه عن وعود روزفلت بسبب اعتماد أنظمة عربية على الولايات المتحدة تماماً. فأسّس ترومان لنموذجٍ أميركي أستقرّ لمدة ثلاثة أرباع قرن تقريباً وأثبت أن التحالف مع النُظم السلطوية لا يمسّ الدعم الأميركي لإسرائيل. وفي ظرفٍ مُشابهٍ لما يحدث اليوم، استفادت الولايات المتحدة وإسرائيل من انقسام العالم العربي إلى معسكرين أثناء الحرب الباردة، هما الحكومات الراديكالية في جانب والأنظمة التقليدية التي كانت تخشى المد القومي في جانبٍ آخر، وهو ما ساهم في مزيدٍ من ضعف تأثير السياسة العربية على الموقف الأميركي رغم موقف الرئيس إيزنهاور من العدوان الثلاثي وعدم قربه من إسرائيل مثل ترومان أو مثل ليندون جونسون أثناء حرب 1967.
وفي استمرار للنهج نفسه، استثمرت الولايات المتحدة توتّرات الحرب الباردة لمناورة السوفيات في الشرق الأوسط، وهو ما حدث في مواقف عديدة أهمها بعد قيام مصر ببدء حرب تحرير الأرض في عام 1973، وتدخّل واشنطن وموسكو في وقف إطلاق النار بما يحقّق مصالحهما.
وينقل خالدي عن المُفاوض الشهير أرون ديفيد ميللر تأكيده "أن الولايات المتحدة ليست سوى محامي إسرائيل في ما يُسمّى بعملية السلام". ويؤكّد أن العكس تماماً حدث منذ منتصف سبعينات القرن الماضي، إذ تعهّدت القيادات الأميركية التشاور مع القيادات الإسرائيلية قبل اتخاذ أي قرار متعلّق بسياساتها في الشرق الأوسط. واعتمدت هذه الخيارات بفضل شخصيات أميركية مؤيّدة لإسرائيل توصلّت إلى أعلى المراكز في القيادة الأميركية على شاكِلة هنري كيسنجر، ودنيس روس المُساعد السابق في مجلس الأمن القومي، وأليوت إبرامز.
ويُحلّل الخالدي سياسات أوباما تجاه السلام في الشرق الأوسط، ويرى أن المشكلة ليست فقط في السياسات المُعاكسة لمؤيّدي إسرائيل ، ولكن في التصوّر المطروح لعملية تحقيق السلام وحل الدولتين، حيث لا تقر الإدارة الحالية أن كل الاتفاقيات والعمليات التي جرت من أوسلو إلى مدريد مروراً بكامب ديفيد في عام 1978 لم تُفلح في وضعِ إطارٍ واضحٍ للقضية الفلسطينية. ولم ينجح الرئيس الأميركي في صوغِ إطارٍ جديدٍ بسبب الأخطاء الشخصية وعدم تغيّر ديناميكيات السياسة الأميركية تجاه القضية لمدة تزيد على 70 عاماً، نتيجة إحكام مجموعات سياسية بعينها القبضة ممَن وصفهم الرئيس هاري ترومان في الأربعينات بأنهم في حال شغف لنجاح الصهيونية، وهو ما يجعل أوباما غير راغِب في تحدّي تلك القوى السياسية التي قد تكلّفه الكثير.
يرى الخالدي أنّ سياسات أوباما إزاء فلسطين وإسرائيل والقضايا العربية لا تختلف جذرياً عن سياسات الرؤساء الأميركيين الأربعة الذين سبقوه في السنوات الـ35 الأخيرة. يُعيد هذه المواقف إلى ما قاله ترومان الذي ترأس أميركا مباشرة بعد روزفلت (بعد الحرب العالمية الثانية). يومها، زاره وفد من الشخصيات العربية الأميركية، فقال له إنّه لا مجموعات عربية فاعِلة على الساحة الأميركية تؤثّر في نتائج الانتخابات، فيما توجد لوبيات أميركية ناشطة تدعم إسرائيل وتؤثّر في النتيجة، ولهذا، دعمَ إسرائيل واعترفَ بها كدولة.
مع نهاية الحرب أصبحت إيران محطّ الاهتمام الأميركي وأضحت هوَساً دائماً. بَيْدَ أن تطوّراً آخراً وغير ملحوظ كان يحدث وهو النقطة التي بدأت فيها الدولتان الحلفان: السعودية وإسرائيل بلعب دورٍ متنامٍ في تحديد أعداء أميركا في الشرق الأوسط وشكّلت إيران بالنسبة للحلفين مصدر القلق الرئيس.
وعملَ هذا الدور المُتنامي للحلفين، إسرائيل والسعودية، في تحديد تصوّرات أميركا عن أعدائها في المنطقة. كما كان له على نحوٍ مُتزايد تاثير في جعل أعداء هاتين الدولتين أعداء للولايات المتحدة. وأدّى هذا الوضع إلى تورّط الولايات المتحدة في حملة طائفية بقيادة سنّية وإيعاز سعودي تشمل المنطقة بأسْرِها ضد إيران.
كتاب الخالدي وثيقة قيّمة من مؤرّخٍ مرموق وكاتب أكاديمي بارز ومفاوض مُتمرّس ومُقرّب من أصحاب القرار في أميركا يشرح فيها العلاقة الحميمة بين أميركا وإسرائيل. وتجربته تشبه تجربة مستشار الرئيس كارتر وليم كوانت عندما ألّف كتابه "كامب ديفيد" عن تجربته في المفاوضات الامريكية -المصرية، وتجرية الدكتور الفلسطيني عبد العزيز ربيع في كتابه "الحوار الفلسطيني – الأميركي" عن تجربته في المفاوضات بين الولايات المتحدة وياسر عرفات.