"سعادته... السيّد الوزير".. رواية تونسية عن آليات الاستبداد
تتحدث الرواية عن آليات الاستبداد في تونس وخاصة في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
مثل أيّة رائعة من روائع الأدب ستحتاج رواية "سعادته... السيّد الوزير" للتونسي حسين الواد إلى زمن طويل حتى تأخذ مكانها بين أدب الاستبداد والطغيان.
هذه الرواية التي اعتُبِرَت من أحسن مَن شرح آليات الاستبداد وخاصة في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ستصل إلى مسامِع القُرّاء ولو مُتأخّرة. يعرف المُتابِع لإصدارات الروايات الحديثة، لو أن هذه الرواية صدرت في بيروت أو في القاهرة لكانت صفحات الثقافة في الصحف العربية قد توقّفت أمامها ولفتت انتباهنا إلى أهميتها كونها تصف واقع الحال في تونس قبل الثورة، كما توقّفت هذه الصفحات كثيراً أمام رواية "أجنحة الفراشة" للروائي المصري محمّد سلماوي التي تنبّأت بالثورة المصرية وأنها ستنطلق من ميدان التحرير.
"سعادته... السيّد الوزير" رواية لا تُعتبَر من أهم الروايات العربية فحسب، بل هي من أهم الروايات العالمية التي تدخل ضمن أدب الطُغيان، مثل رواية "ثرثرة فوف النيل" أو "أمام العرش" لنجيب محفوظ أو مسرحية "السلطان الحائِر" أو "بنك القلق" لتوفيق الحكيم. لو قُدِّر لها أن تُترجَم إلى اللغات الأخرى فلن تكون أقل قيمة من روايات أميركا اللاتينية التي أبدعت في أدب الطُغيان.
كانت "سعادته... السيّد الوزير" للدكتور حسين الواد، الرواية التونسية الوحيدة التي رُشّحت لجائزة البوكر العربية بقوّة عام 2013. وقد وصفتها لجنة تحكيم البوكر يومها في تقريرها عن الرواية بأنها "غنية بروح الفُكاهة٬ وتصف بنجاح العديد من أوجه الضعف الإنساني". ولم يكن يتوقّع الواد أقل من ذلك. فقد سبق له أن فاز بجائزة "الكومار الذهبي" الأدبية في تونس عام 2010 عن روايته "روائح المدينة" التي أسّست له مكانة مهمة في عالم الرواية بعدما كان عمله محصوراً كأستاذ للأدب العربي قديمه ووسيطه ومعاصره.
يقول حسين الواد في حديث خاص للميادين نت إن "روائح المدينة" تتحدّث عن أربع مراحل مرّت بها تونس من خلال روائحها منذ الاستعمار إلى الدولة. الأولى مرحلة البيات جمع باي، والمرحلة الثانية الحماية والاستعمار مع فرنسا، والمرحلة الثالثة الاستقلال والسيادة، والرابعة دولة العهد الجديد مرحلة بن علي، فأرّخت الرواية تفسّخ الروائح. وبعد صدور "روائح المدينة" أُبلِغ الكاتب من نظام بن علي قبل سقوطه بستة أشهر بأنهم انزعجوا جداً من الرواية.
يقول صاحب رواية "الطلياني" شكري المبخوت الذي قدَّم لـ"سعادته... السيّد الوزير": "كتبَ حسين الواد هذه الرواية قبل الثورة التونسية بسنوات، ولسنا نشكّ في أنه قد استلهم زمن كتابتها من بعض ما كان يُتداول من أخبار عن دولة الفساد والسراق وفضائح وزرائها وزعيمهم وعائلته المالكة".
يقول المبخوت للميادين نت إن "الرواية هي نقد للاستبداد وتشريح لآليات الاستبداد في السياق التونسي بالخصوص". ويؤكّد أن الاشتغال على فترة الاستبداد قبل الثورة كان موجوداً.
"سعادته... السيّد الوزير" جريئة جداً من خلال تشريحها الواقع السياسي التونسي في العهد السابق الذي قامت ضدّه ثورة 14 يناير.
الرواية محاولة فنية من حسين الواد الذي له باع طويل في تدريس المناهج الأدبية القديمة والحديثة، استعمل فيها كل ما أوتيَ من قوّة عِلم الوصف والتصوير فشرح لنا آليات الطُغيان وما ينتج منها على جميع الأصعدة وبالأخصّ منها الشخصي والعائلي والوطني.
تتحدّث الرواية عن واقع تونس ما قبل ثورة 14 جانفي (يناير)، وتُعطي إشارات إلى الممهّدات التي أوصلت البلاد إلى الثورة. تحاول الرواية أن تفصِّل مشاهد ربما كانت خفيّة عن أعين كثيرين، تلِجُ إلى دهاليز القرار وصُنّاعه، فهي تعطينا صورة واقعية كيف كانت تُدار أوطان، وتُباع مقدارت أهلها، كأنها أملاك خاصة للنافذين فيها.
ولا يهتم مُبدِع «سعادته... السيّد الوزير» بتعيين الأسماء ربما لأن أصحابها كانوا من الشهرة بمكان، فثمة «صاحب المقام السامي» وزوجته وبطانته وكثيرون من الأعوان، كانوا شركاء جميعاً في الأسى الذي وصلت إليه البلاد.
وتُفاجأ زوجة سعادته مع شريك حياتها بأن الأبناء قد صار لهم شأن آخر، إذ تحوّلت البنت الكُبرى إلى «عاهِرة» كما نعتها أبوها الوزير، بينما الولدان أدمنا المخدّرات وأشياء أخرى، لتكتمل بذلك الكوارث حول المُعلّم الوزير، وتضيع أحلامه، وأحلام أسرته، من أجل منصب مؤقّت.
إحدى هموم سعادته تصبح صيد «الطرائد» الجميلة، فما من سيّدة رآها إلا وفكّر في جسدها، وما سيمنحه له من خيرات ومسرّات، يستوي في ذلك زميلات المدرسة، أو طالباتها، أو حتى ابنة صديق استعان به ليُعطي لها دروساً، أو حتى سكرتيرات مكتبه بعدما صار وزيراً.
يحاول سعادته تبرئة ساحته أمام المُحقّق ومن ورائه «سعادة» رئيس البلاد ومَن بيدهم القرار، والمُفارقة أن ذلك الوزير لم يتخلَ عن تزلّفه ومحاولاته المُستميتة في أن يُقدِّم قرابين الولاء، حتى بعد أن استشعر أنه مجرّد لعبة في يد ساسة كبار.
تُعتَبر الرواية بمثابة مُرافَعة أمام المحكمة لوزير فاسِد رفض المحامون الدفاع عنه بسبب الجرائم التي ارتكبها، وما وراءه من ملفات الفساد، حيث عمل في حاشية «سيادته» الذي تومئ له الرواية (الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي)، وتتناول مراحل من حياة وزير كان مُعلّماً بسيطاً في المدارس الابتدائية يعاني الفقر والحرمان بجميع أشكاله ومن متاعب الحياة إلى منصب وزير في دولة يحكمها الفساد فقام فيها بمهام قذرة، على نحو غير مُتوقّع، مُنخرطاً حتى النخاع في الفساد المُستشري في أركان الدولة. فهو آتٍ من ماضٍ عثر، وأيام صعبة، وشعاره في الحياة «الحاجة أقوى من الكرامة»، ما أن انتهى دوره فيها حتى أطاح به سيّده في أقبية وزارة الداخلية ومن ثم في مستشفى المجانين.
يختم الكاتب روايته عن نهاية سعادته على يد عجوز من ضحايا التفريط في أحد المصانع نتيجة الخصخصة وبيع المصنع، فهَجَمَ العجوز عليه في المستشفى صاح به "يا بيوع ، يا خائن، يا سارق". سحب من ثيابه نصلاً طعنه به في البطن والصدر مرات ونحر نحراً وهو يصرخ "يا لثارات الشعوب".
يعترف حسين الواد للميادين نت بأن "انطباعه قبل الثورة كان أن الناس منذ عام 2002 تسير يومياً نحو التفسّخ وخرجت في الثورة لأن الأمر لم يعد يحتمل.. ثم نشرت "سعادته.. السيّد الوزير" من باب الامتنان للثورة، لأن بن علي لا يترك أحداً يكتب عن فترة حكمه". ويضيف: "فكرة الرواية عبّرت عن الاستبداد بطريقة فنية وتحدّثت عن نمط الطُغيان الذي يتّخذ ألواناً وأشكالاً مُتعدّدة منها ما هو جذّاب من التلّهي والفرجة والإغراءات الشخصية".
تفاجأ الواد من صدى "سعادته... السيّد الوزير" بعد صدورها ويقول: "لم أكن أتوقّع أن تحظى كتاباتي السردية بإقبال القُرّاء عليها."
لا يمتلك مَن ينتهى من قراءة الرواية إلا أن تستدعي ذاكرته فوراً كتاب "التخلّف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجيا الإنسان المقهور" للباحِث اللبناني مصطفى حجازي، وأداء الراحل الفنان المصري أحمد زكي وهو يؤدّي دور الوزير الفاسِد "رأفت رستم" في فيلم "معالي الوزير".