لقاء غيفارا مع الرئيس عبد الناصر

لا نبالغ إذا ما قلنا بأن محاضر جلسات عبد الناصر مع غيفارا التي نشرها الكاتب محمد حسنين هيكل في كتابه"عبد الناصر والعالم"حول زيارات غيفارا إلى القاهرة، الأولى عام 1959 والثانية والثالثة في عام 1965. هي من أروع ما يفسر الثورة والثوريين.

لقاء غيفارا مع عبد الناصر

 

يقول الكاتب محمد حسنيين هيكل عن الزيارة الأولى "أنه لم يكن هناك أي اتصال حقيقى بين الحركتين حتى يونيو/ حزيران عام 1959 عندما وصل تشى غيفارا إلى القاهرة في زيارة لمدة خمسة عشر يوماً لدراسة تجربة الإصلاح الزراعى في مصر.
وكانت هذه هى أول مرة يلتقى فيها عبد الناصر وتشى غيفارا.
في هذا اللقاء الأول، روى تشى لعبد الناصر أنه عندما كان كاسترو يجابه المصاعب والنكسات-وهو يقود حرب العصابات في قمم التلال الكوبية في سنة 1956 -- كان يستمد كثيراً من الشجاعة من الطريقة التي صمدت بها مصر للعدوان الثلاثي البريطاني- الفرنسى- الإسرائيلى . وقال إن عبد الناصر كان مصدر قوة روحية وأدبية لرجاله.
ويروي هيكل تفاصيل أكثر عن غيفارا في زيارته الثانية "عاد غيفارا إلى القاهرة فى فبراير/ شباط عام 1965 ومكث فى المنطقة العربية حتى نهاية مارس/ آذار. وفى ذلك الحين كان عبد الناصر قد نبذ تماماً شكوكه الأولية فى الكوبيين وأخذ يعجب بهم لاندفاعهم فى تأييد مصر وقت السويس وفى صراعهم من أجل الحفاظ على ثورتهم .
وكان عبد الناصر يرى فى كفاحهم ضد الولايات المتحدة فى معركة خليج الخنازير وأزمة الصواريخ الروسية، صراع سمك السردين مع الحوت. وكان إعجابه كله لسمك السردين.
ويقول هيكل إن غيفارا أخبر الرئيس عبد الناصر"أنه ذاهب إلى تانزانيا حيث ألفت لجنة لمساعدة حركات التحرير الأفريقية فى دار السلام، ولكن عبد الناصر شعر بأن غيفارا لا يتجه إلى تانزانيا بكل قلبه.
وعاد غيفارا بعد عشرة أيام قضى بعضها فى الكونغو وقال للرئيس إن ما شاهده هناك أحزنه وحز في قلبه. وقال إنه قام بزيارة كتيبتين من الزنوج الكوبيين ألفتا وأرسلتا من كوبا للقتال من أجل أنطوان جيزنجا الرجل الذى حاول أن يرث زعامة لومومبا. ومضى يبلغ الرئيس أنه "يفكر في الانضمام إلى الكفاح وفى تولى قيادة الكتيبتين.
يؤكد هيكل أن" عبد الناصر كان يحب غيفارا. وكان يشعر بميل عاطفى خاص نحو هذا الزعيم الكوبي" ويقول عن غيفارا إنه "كان يشعر بأنه يتخبط فى أزمة. فقد كانت لديه أسئلة عديدة لا يستطيع أن يجد لها جوابا.
ولأن التعاطف متبادل مع عبد الناصر يمضي غيفارا في إخباره عن هواجسه"لقد تعودت أن أتحدث كثيراً عن التحول الاجتماعى. ومن ثم كلفت مهمة الإشراف على ذلك التحول، وكان المشكل الأول الذى واجهته هو إيجاد الأشخاص الذين يمكنهم أن يديروا المؤسسات المؤممة ثم وجدناهم وظننا أنهم سيكونون ممثلين للثورة، فاكتشفنا أنهم لا ينتمون إلى الحزب الثوري إنما إلى الحزب الإدارى.
ويصف هيكل حماس غيفارا "كان غيفارا يتكلم بملء اندفاعه. كانت خيبة أمله واضحة وضوح حزنه وكربه وكان صدره مليئا بأسثلة تفتقرإلى جواب.
ويسأل "من هو الشيوعي؟ ماهو دور الحزب؟ هل الشيوعي مجرد ملحد؟ هل يتعين على الشيوعى أن يعمل أكثر من الآخرين؟ لقد قلت ذات يوم إن على الشيوعي أن يكون آخر من يأكل وآخر من ينام وأول من يستيقظ . لكننى تبينت أن ما قلت هو وصف لعامل جيد وليس وصفا لشيوعى جيد.
من يسن القوانين؟ ما هى العلاقة بين الحزب والدولة؟ وبين الثورة الناس؟ حتى يومنا هذا ظلت هذه العلاقات تدار بانتقال الأفكار واستقرائها تلقائيا. لكن هذه الطريقة لم تعد كافية".
مضى بعد ذلك غيفارا يناقش دور كوبا فى أميركا اللاتينية وقال إن الحركة الوحيدة التي قامت قبل الثورة الكوبية وكانت تستحق الاهتمام هي حركة بيرون في الأرجنتين وقال إن بيرون حقق بعض الأشياء المهمة في ميدان التصنيع لكنه أخفق كليا فى فهم دور البروليتاريا وقد أخفقت حركته وفشلت بسبب افتقارها إلى عنصر النضال الشعبى. 
واستطرد يقول "وقد أخفقت كذلك لأن بيرون كان جباناً فلم يستطع أن يستجمع ما يكفي من الشجاعة لمواجهة الموت وعندما حان وقت إظهار الشجاعة آثر الهرب.
وقال جيفارا إن "نقطة التحول في حياة كل إنسان تحل فى اللحظة التى يقرر فيها أن يواجه الموت. فإذا قرر أن يجابه الموت يكون بطلا سواء نجح أم أخفق. إن فى وسع الإنسان أن يكون سياسياً صالحاً أو رديئاً ولكن إذا كان لا يستطيع أن يواجه الموت فإنه لن يكون أكئر من مجرد رجل سياسي".
تلك كانت العقيدة التى عاشها غيفارا ومات من اجلها.
ويقول هيكل إن المناقشات بين عبد الناصر وغيفارا استمرت عدة ليال حيث يرد عليه الرئيس عبد الناصر في إحدى الاجتماعات قائلا إن "عملية الحماسة المطلقة تأتي في المرحلة الرومانسية من الثورة وأن يوم اندلاع الثورة هو يوم تحقيق أهداف الرومانسية - إنه ليلة الزفاف . ولكن عليك بعد الزفاف أن تجعل الزواج ناجحا. عليك أن تكسب مالاً وأن تبني بيتاً وتنجب أطفالا. وهذ هو المقصود بالثورة. وهذا ما تعنيه الثورة. إنها تعنى معاناة العبء العسير الكامن في بناء المصانع واستصلاح الأراضي وتحويل الحماسة المطلقة إلى حماسة لخطة محددة وهدف بذاته".
وراح الرئيس عبد الناصر يشدد عليه مرة أخرى بشأن نظريته فى استكمال أسباب نجاح الثورة فقال "إننا إذا اكتفينا برومانسية الثورة دون أن تتوافر لدينا التطورات اللازمة لها. فإن ذلك سيكون كارثة ولن تكون هناك ثورة ما لم نقم بكل تلك المهمات المملة والتى تبعث على العجز كما تقول". 
واستطرد يخاطب غيفارا "أعرف أنك كنت طبيبا... إذن فشأنك في ذلك شأن جراح مدد مريضا على مائدة العمليات وبنجه وشق بطنه ثم رفض أن يمضى قدما في إجراء العملية. لا يجوز بل ولا يمكن أن ثفعل ذلك". 
ورد غيفارا وقد بدت عليه كل علامات الأسى وخيبة الأمل "ولكن ليس الثوريون هم الذين يقومون بمهمة تصريف الأعمال بعد الثورة. إنما هم الفنيون والبيروقراطيون الذين هم ضد الثورة".
وعن آخر اجتماع بين الرئيس عبد الناصر وغيفارا يقول هيكل "وفي آخر اجتماع بينهما أبلغ غيفارا الرئيس عبد الناصر أنه لايظن أنه سيبقى في كوبا. وقال إنه لم يقرر بعد أين سيذهب لكن الشيء الوحيد الذى ينتظره هو أن يقرر "أين يعثر على مكان يكافح فيه من أجل الثورة العالمية ويقبل تحدى الموت".
وسأله عبد الناصر "لماذا تتحدث دائماً عن الموت ؟ إنك شاب. إن علينا أن نموت من أجل الثورة إذا كان ذلك ضروريا، ولكن من الأفضل بكثير أن نعيش من أجلها"
وقد تأثر عبد الناصر تأثراً بالغاً بالرسالة التى وجهها غيفارا إلى كاسترو عندما ذهب إلى مغامرته الأخيرة فى بوليفيا. فقد كانت تحتوى على الكثير مما تحدثنا عنه فى حوارهما الطويل. وفي تلك الرسالة قال غيفارا "إما أن ينتصر الإنسان أو أن يموت. ولقد قضى الكثيرون من رفاقنا نحبهم في الطريق إلى النصر. أما الآن فقد أصبح كل شيء أقل دراماتيكية، إنني أشعر بأننى أنجزت ذلك الجزء من عملى الذى كان يربطنى بالثورة الكوبية".
ويختم هيكل قائلاً "وهكذا انطلق غيفارا يحمل الثورة إلى بوليفيا. لكنه وجد هناك ما كان عبد الناصر قد حذره منه. لم تكن هناك قاعدة ثورية. لقد جاء بالشرارة ولكن البارود لم يكن جاهزاً للتفجير بعد . وأخفق غيفارا. ثم تعرض للخيانة... ثم التقى بالموت ... وكان شجاعاً فى لقائه مع الموت ... ولم يهرب وإنما ذهب!.