ماذا بقي من فلسطين؟

بقيت فلسطين أداة في أيدي الحكّام العرب، وورقة مساوَمة في صراعهم من اجل الهيمنة. أدّى هذا التنافس إلى إطلاق الدينامية المفضية إلى إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية.

الكاتب الفرنسي آلان غريش
 

"علامَ يُطلق اسم فلسطين؟" كتاب للباحث الفرنسي المعروف ألان غريش، صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" ونقلته إلى العربية داليا سعودي.

يقول الكاتب إنه "مع انطلاق التظاهرات الأولى في تونس، عمّت أرجاء الوطن العربي كافّة صدمة عارمة؛ وهي تماثل في عمقها الصدمتين اللتين عرفتهما عقب نكبتي العام 1948م وحزيران/يونيو 1967م. وفي حين ركزت هاتان الثورتان على فلسطين ومستقبلها؛ فإن الصدمة الحالية قد تمحورت حول مشكلات داخلية، بل إن البعض يؤكّد أن الثورات الراهنة لا صلة لها البتة بفلسطين؛ فما مدى صحّة ذلك؟".

يضيف أنه "بدت فلسطين غائبة نسبياً عن تلك الاضطرابات؛ إذ يحلل بعض المحللين الغـربيين أن تلك الثورات غير مهتمّة بالنزاع مع إسرائيل، وغير آبهة بفلسطين، وأن برنامجها لا يعنى إلا بالسياسة الداخلية، وأنها ليست مناهضة لأميركا والغرب. غير أن تلك التحليلات خاطئة من دون شكّ، مثلما أثبتته حوادث متعدّدة؛ بدءًا بالهجوم على السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وصولاً إلى استقبال الحكومة التونسية الجديدة إسماعيل هنية، رئيس وزراء حكومة حركة حماس. لكن تلك الملاحظات القليلة وحدها، لا تستطيع أن تجيب عن السؤال الخاصّ بالموقع الذي تتبؤّأه فلسطين في تلك "الثورات العربية".

لا يزال الفلسطينيون – أكانوا في الشتات أم يعيشون في ظل المملكة الهاشمية – مرتبطين ارتباطا وثيقا بالأرض التي هجروا منها، ومتمسّكينَ بالعروبة الأصيلة التي نمت بفعل التهميش الاجتماعي والسياسي الذي يعيشونه؛ فمن ناحية، هم ليسوا محلّ ترحيب في أيّ مكان في العالم العربي، ومن ناحية أخرى، لا يتمتّعون بالحقوق عينها التي يتمتّع بها السكان الأصليون؛ حتّى عندما يمنحون جنسية البلد، كما هي الحال في الأردن.

في الفترة الممتدة بين العامين 1949م و1967م كان صدى الأحداث التي جرت في مصر والعراق هائلا بين الفلسطينيين؛ أؤلئك الذين الْتحقوا بحماسة بركب المدّ الثوري الذي اجتاح القومية العربية التي كانت جزءًا من حركة عدم الانحياز المناهضة للإمبريالية. وكانت الناصرية أحد أهم أشكال تلك العروبة. منذ ذلك الحين الحين، صار شعار الفلسطينيين هو: "تحرير فلسطين يمرّ بالوحدة العربية".

على الرغم من ذلك، بقيت فلسطين أداة في أيدي الحكّام العرب، وورقة مساوَمة في صراعهم من اجل الهيمنة. أدّى هذا التنافس، ولا سيما بين عبد الناصر وقاسم، إلى إطلاق الدينامية المفضية إلى إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية.

تبنّت منظّمة التحرير الفلسطينية الميثاق القومي الفلسطيني، الذي يؤكّد في مادّته الأولى عند تعريفه بفلسطين، أنّها "جزء لا يتجزّأ من الوطن العربي الكبير، والشعب الفلسطيني جزء من الأمة العربية".

بدأت مجموعة صغيرة – عرفت بحركة فتح، في نهاية 1959م – في تعميم وجهة نظر مغايرة؛ فقد رأت أن تحرير فلسطين هو مسالة فلسطينية في الأساس، ولا يمكن أن يُعهد بها إلى الدول العربية.

وساهمت حرب العام 1967م، والهزيمة النكراء التي منيت بها مصر وسوريا والأردن في وجه إسرائيل، في توجيه ضربة قوية إلى القومية العربية الثورية. وتعزّزت مواقف أولئك الذين راهنوا على استقلالية الشعب الفلسطيني وعلى سيادته في اتخاذ قراره. استمرّ الفراغ السياسي الناجم عن اتساع الانهيار العربي أشهرا عدّة، متيحا لفصائل المقاوة الفلسطينية المسلّحة – في مقدّمتها حركة فتح – فرصة تصدّر واجهة المشهد الإقليمي، والاستقرار في الأردن.

سبّب ارتباط منظمة التحرير الفلسطينية الوثيق بالدول العربية، معاناة لها؛ فأجريت مفاوضات من أجل انضمام المنظمات الفدائية إليها. عدّل الميثاق (الذي بات يدعى الميثاق الوطني الفلسطيني) والنظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية. وابتداءً من المادة الأولى، جرى تعريف فلسطين على أنها: "وطن الشعب العربي الفلسطيني".

لقد سعت المقاومة الفلسطينية قبل أي شيء إلى تحقيق بناء "إطار الدولة" الضروري الذي يمكّن الشعور الوطني من النهوض. مثّل تدفّق المساعدات المالية من دول الخليج وغيرها من الدول العربية؛ عنصرا حاسما في بناء شبه الدولة تلك، وفي جعل إدارتها تعتمد على المحسوبية.

حدّد خيار الدولة هذا قوة منظمة التحرير الفلسطينية، وضبط حدودها في آن واحد؛ إذ باتت منظّمة التحرير – في السبعينيات – الإطار المرجعيّ لجميع المنظمات الفلسطينية، وبصورة أوسع، لجميع فلسطينيي الشتات في العالم.. غير أنها أخذت تفقد طابعها "الثوريّ" وراحت تقبل الوضع العربي الراهن الناشئ عن هـزيمة 1967م. كذلك عانت غياب الرقابة على القادة، والعجز عن النقد الذاتي، والبيروقراطية المفرطة. وبقيت مرتابة بشدّة من جميع الحركات في الضفة الغربية وفي غزّة، اللتين عجزت عن السيطرة عليهما جزءيًّا. هكذا فقدت منظمة التحرير الفلسطينية أي دور كان يمكن أن تؤدّيه كمحفّز ثوري في الوطن العربي؛ وعجزت عن تطور استراتيجية للكفاح المسلّح، فانخرطت في المسار الديبلوماسي الذي توج بتوقيع اتفاقية أوسلو.

   

"الثورات العربية"

تهويد الضفة الغربية والقدس بالمستوطنات الإسرائيلية

 يرى غريش أن موجة "الثورات العربية" قد أصابت السلطتين الفلسطينيتين في رام الله وغزّة. وعلى الرغم من ذلك، حظّرت سلطتا فتح وحماس التظاهر للتضامن مع الشعب المصري في كفاحه ضدّ حسني مبارك. في إثر ذلك، قمعت السلطتان - بشدّة – حركة 15 آذار/مارس، التي حاولت أن تترجم مطالب الكرامة، ومكافحة الفساد، ووضع حدّ للاستبداد، في محاولة منها لنقلها إلى الوضع الفلسطيني، فكانت أولى نتائج الثورات العربية الطعن في السلطات الفلسطينية العاجزة.

ففي نظره، "الثورات العربية" قد غيّرت أمراً أساسياً، فللمرة الأولى منذ السبعينيات ما عاد في الإمكان تحليل الجغرافيا السياسية للمنطقة بدون أن تؤخذ في الاعتبار – ولو جزءيًّا – تطلعات الشعوب والبلدان التي استعادت التحكم في مصيرها. وسبق أن سمعنا في آذار/مارس 2010م، تصريح الجنرال دايفد بترايوس الذي كان وقتئذ قائد القوات المركزية الأميركية (CENTCOM) الذي أكّد فيه أنَّ: "الغضب العربي في شأن القضية الفلسطينية، يحدّ من نفوذ الشراكة الأميركية مع حكومات تلك المنطقة وشعوبها، ويخفف من عمق علاقاتنا معها، ويضعف شرعية الأنظمة المعتدلة في العالم العربي".

ذلك ما نراه ماثلا في الجدل الدائر في مصر في شان اتفاقيات كامب دايفد والسلام بين مصر وإسرائيل؛ فبحسب ما كتبه ستيفان أ. كوك، من مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، "يرى عدد من المصريين أنَّه إذ تحررت إسرائيل من خطر الحرب مع مصر، تمكّنت من ملء مستوطناتها في الضفة الغربية وغزّة بمئات اللآلاف من الإسرائيليين، وغزت لبنان مرتّين (1982م و2006م)، وأعلنت القدس عاصمة لدولتها، وقصفت كلا من العراق وسوريا".

 

حقّ بشر في استعمار بشر!   

ليس في الإمكان فهم الموقفين الأوروبي والأميركي من إقامة دولة إسرائيل بدون الرجوع إلى تصوّر للعالم ظل ماثلا بكثافة طوال فترة من القرن العشرين، عدّ فيه سكان الأراضي المستعمرة الأصليون كمًا مهملًا. كانت تلك الشعوب تعيش وتبقى في مكانها بالطبع، لكنها كانت تظل خارج مجال الرؤية، بدون ثقافة أو تاريخ. كثر أولئك الذين كانوا يعتقدون مخلصين أن أوروبا وحدها هي من تحمل مشعل "الحضارة"، وهو مصطلح استخدم للتغطية على الكثير من الحوادث، ولتبرير كثير من الجرائم.

كان آدم سميث يولي اهتماما دؤوبا لدراسة المجتمعات الإنسانية، وما كان أبدا ليوافق على عبارة مارغريت ثاتشر المشورة: "لا يوجد شيء اسمه مجتمع". على العكس، كرّس سميث أعمالا معمّقة لا للمجتمعات الأوروبية فحسب، وإنما لتلك التي كان العالم القديم ماضيا في اكتشافها كذلك، بدءا بأستراليا وحتّى الأميركيتين. فقد كان سميث عالما كوني النزعة، تحدوه قناعة بأن البشر كلهم عقلانيون وبأنهم يحتكمون إلى تلك العقلانية في حل مشكلاتهم. وبالنسبة إليه وإلى أتباعه، ما من ثقافة هي الأرقى أو الأدنى بين الثقافات على وجه العموم، لأن تنوّع المعتقدات والعادات إنما أتى استجابة لتنوع الأحوال واختلافها في ما بينها.

شرح آدم سميث في كتابه نظرية المشاعر الأخلاقية، الصادر قبل 150 عاما، من غير أن يخضع للنسبية قط، أن عادة هنود الأميركيتين التي تقضي بوضع راس المولود داخل قالب، والتي ندّد بها المبشرون بوصفها عادة همجية، لم تكن أقل سخفا من عادة ارتداء مشدّ الخصر المفروضة على نساء أوروبا، وهي العادة المقبولة على الرغم من مساوئها. فقد كان سميث يدين بقوة كل ما من شأنه أن يرسي فكرة التفوق العالمي للمجتمعات الأوروبية.

في غضون بضعة عقود، بدأ العالم يتغير بعمق. فبعدما كان، في القرن الـ18، لا يزال عالما متعدّد الأقطاب (كان القسم الأعظم من الإنتاج الصناعي العالمي من الصين والهند)، تعزّزت همينة العالم القديم في النصف الأول من القرن التاسع عشر لأسباب عدّة: الامتيازات الناجمة عن غزو الأميركيتين، والأرباح المتراكمة من التجارة الثلاثية الأضلع (ما بين أوروبا وأفريقيا والعالم الجديد) التي غلبت عليها تجارة العبيد، وكذلك خاصة إتقان التكنولوجيا وفنّ الحرب. فقد أدّى تزايد عدد النزاعات في أوروبا إلى اكتساب دولها قدرة على حشد مواردها خلال حملات عسكرية طويلة الأمد، وهي قدرة لم تكن تتمتع بها الإمبراطوريتان العظميان الهندية والصينية اللتان كانتا توكلان مهمة الدفاع عن حدودهما البعيدة إلى طغاة محليين أو إلى قبيلة من القبائل.

سيكون من شأن تلك القدرة العسكرية والانتصارات الناتجة منها، أن تمثّل برهانا على تفوّق العالم القديم لا عسكريا واقتصاديا فحسب، وإنما ثقافيا وحتّى "أخلاقيا" كذلك. وهو التفوّق عينه الذي قد تمتدّ جذوره إلى مفاهيم فلسفيّة يعزوها البعض إلى اليونان القديمة. هكذا، وفقا لجينيفير بيتز، ظهرت الحجج التي تقول إن تقدمية الطبيعة الخاصة بحضارة الأوروبيين إنما تمنحهم تفوّقا أخلاقيا يسوّغ لهم التصرّف وفق أهوائهم في المناطق "الهمجيّة". وهكذا ستصبح فلسطين – ضمن مناطق أخرى – حقلا لتطبيق تلك النظريات.

 

لليهود الأرض والعمل

في رسالة وجهها قنصل فرنسا في القدس إلى وزير خارجيته، في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1924م، كتب ما يلي:

في المستعمرات التعاونية، تكون الأشياء كلها مشتركة، التربة وأدوات العمل والأرباح، وحتّى الوجبات يتمّ تناولها غالبا بصورة جماعية، كما يجمع الأطفال كلهم في حضانة واحدة، حيث تقوم إحدة السيدات برعايتهم. وعلى المستوى الثقافي، يحمل هذا النظام مضارّ جسيمة غنيّة عن الذكر، لكن القادة الصهيونيين يسلمون به لكونه يشبع ذلك النوع من الفضول والقلق المواكبين للصيغ الاجتماعية الجديدة التي تؤرق أغلبية القادمين الجدد. فهؤلاء لا يدعون إعمار أرض فلسطين فحسب، وإنما شق سبل جديدة للإنسانية جمعاء. فنظرا إلى كون الصهيونية لا تحيا إلا عبر استدعاء القوى المعنوية والتقاليد القومية، يجدر بها استخدام كل ما يختمر داخل إسرائيل من ميول شيوعية قديمة.

لن تزعج تلم "الميول الشيوعية القديمة" السلطة المنتدَبة مطلقًا. فمنذ دخول القوات البريطانية إلى القدس بقيادة الجنرال إدموند اللنبي، في كانون الأول/ديسمبر 1917م، ألفت "لجنة مندوبين"، كانت تعَد وفق توم سيغيف، "الحكومة الصهيونية الأولى عمليا". وكانت المادة الرابعة من صك الانتداب تكريسا لها، إذ جاء فيه: يعترف بوكالة يهودية ملائمة كهيئة عمومية لإسداء المشورة إلى إدارة فلسطين والتعاون معها في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك من الأمور التي قد تؤثّر في إنشاء الوطن القومي اليهوديّ وفي مصالح السكان اليهود في فلسطين.

ستؤدّي المنظمات الصهيونية ذلك الدور، وستحلّ مكانها الوكالة اليهودية بدءا من العام 1929م. وفي المراحل كلّها، ستنسق لندن جهدها مع تلك المؤسسة، ولا سيّما في ما يخصّ الهجرة. لكن الصهيونيين وحدهم هم المؤهلون لاختيار المرشحين للهجرة، والإشراف على الإجراءات الشكلية اللازمة في مختلف الدول.

فماذا كان يعني وقتذاك الاعتراف بفلسطين دولة يتعين قيادتها نحو الاستقلال؟ لقد أريد للفسلطينيين المشاركة في سلب أنفسهم بأنفسهم. وكثيرا ما توجّه إليهم لائمة الافتقار إلى المرونة والحسّ التكتيكي والواقعيّة، فالبصيرة السياسية والعدالة لا تجتمعان. لكن أي شعب يقبل عن طيب خاطر رؤية شعب آخر يحلّ في مكانه؟! في أثناء حرب 1948م-1949م، بينما كانت الجيوش العربية تجتاح فلسطين، تساءل الفيلسوف اليهودي مارتن بابر المؤيد للتعاون اليهودي-العربي، قائلا: "من هاجمنا؟ أولئك الذين شعروا با،نا اعتدينا عليهم بغزونا السلمي، والذين يتهموننا بأننا لصوص [فكيف للفلسطينيين أن يقتنعوا بحجة أن هذا البلد كان بلدنا قبل ألفَي عام؟...] هل نأمل حقا أن يتمّ تقبل هذا التبرير بدون مناقشة، وهل كنا لنقبله لو كنا نحن في مكانهم؟!"

كانت السيطرة على الأراضي في فلسطين كما هي الحال حيث استقرّ المستعمرون، هي قلب المواجهة. وكلف الصندوق القومي اليهودي منذ العام 1901م شراء الأراضي من المالكين (الأفندية) الذين كانوا يعيشون في بيروت أو دمشق. وبعد 1918م، تنازل البريطانيون عن بعض أراضي الدولة، وتمّت مصادرة أراضي دولة أخرى من البدو الذين لم تكن في حوزتهم صكوك ملكية. وعلى الرغم من أن أغلبية الأراضي قد تمّ نقل ملكيتها إلى المستعمرين بصورة تبدو "قانونية" فقد ظلت مشكلة الأرض الزراعية هي جوهر النزاع وتسببت بأعمال العنف الأولى. ذلك أن سلب الأراضي كان يفقد الفلاح الفلسطيني جزءا من هويته.

كانت الأراضي التي يتمّ شراؤها تعد "ملكية خاصّة للشعب اليهودي غير قابلة للتصرف". إذ لم يكن في الإمكان وهبها إلى من ليس يهوديا (تبعا للقوانين الصادرة عن الوكالة اليهودية). وفي 1939م، أضحت 25% من الأراضي الزراعية تحت سيطرة الوكالة اليهودية.

وفي الوقت عينه، كانت تتواصل عملية غزو العمل: قد طرد الفلاحون العرب الذين كانوا يزرعون الأراضي التي اشتراها الصندوق القومي اليهودي، الأمر الذي أدّى إلى إفقار عشرات الآلاف من الفلاحين. وقد تواصلت تلك السياسة الإقصائية بمباركة من لندن. إذ كتب رئيس الوزراء البريطاني في 13 شباط/فبراير 1931م ما يلي: لا ترى حكومة جلالة الملك أي غضاضة في أن للوكالة اليهودية الحق في صوغ تلك السياسة أو قبولها أو ممارستها، إذ إن مبدأ أفضلية اليد العاملة اليهودية وحصريتها في المنظات اليهودية إنما هو مبدأ تملّك الوكالة اليهودية جميع المبررات للأخذ فيه.

قرّر الاتحاد العام للنقابات [الهستدروت وهو اتحاد نقابي اشتراكي] منذ 1920م استبعاد العمال غير اليهود من صفوفه بصورة نظامية. وقد ذكرت "لجنة شو"، التي تألفت في إثر المواجهات بين اليهود والعرب في العام 1920م، أنه لم يتمّ الْتزام التعهّد الصهيوني القائل بتنظيم الهجرة تبعا لقدرة الاستيعاب الاقتصادي في فلسطين، وأظهرت اللجنة أن كثيرا من العرب جردوا من أراضيهم ما بين 1921م و1929م، بدون إبداء أي حرص على وضع أراض أخرى في تصرفهم.      

 

إقصاء السكان الأصليين

اشتعال الانتفاضة الفلسطينية الثالثة في القدس المحتلة

 لا تدع سجلات الوثائق المتعدّدة المتاحة حاليا، ولا سيما تلك التي تخص الوكالة اليهودية ودولة إسرائيل الفتية، أي مجال للشك في شأن توافر الرغبة في طرد الفلسطينيين، حتى وإن كانت الحركة الصهيونية تموّه ذلك بلغة سلام. فدايفد بن غوريون، رئيس الوكالة اليهودية منذ العام 1935م، ومؤسس دولة إسرائيل، الذي سيصبح رئيسا لوزرائها العامَ 1948م لم ينكر ذلك يوما في مراسلاته الخاصة. وفي العام 1937م، اقترحت لجنة بيل البريطانية، التي ألفت في إثر الثورة الفلسطينية الكبرى الناشبة قبل عامٍ لمواجهة الانتداب البريطاني والهجرة اليهودية، تقسيم فلسطين إلى دولتين أول مرة. وفي ردة فعل على الاستنتاجات التي خلصت إليها تلك اللجنة، ألمح بن غوريون إلى أنه ثمة نقطة تعوض الجوانب السلبية المطروحة كلها، هي "التهجير القسري لعرب السهول"، إذ كتب في يومياته: إذا لم يكن في وسعنا أن نقتلع العرب من مكان وجودنا، وأن نرسل إلى المناطق العربية [...]، فسيتعذر علينا ذلك بصورة أكبر بعد إقامة دولتنا.

شهدت الفترة (بين 1936م و1937م) انتقال بن غوريون من فكرة الترحيل الاختياري إلى الترحيل القسري. وفي 5 تشرين الأول/أكتوبر 1937م، كتب إلى ابنه: علينا طرد العرب وأخذ مكانهم. وإن اقتضى الأمر استخدام القوة – لا لانتزاع ملكيات عرب النقب وشرق الأردن، وإنما لضمان حقوقنا في الاستقرار في تلك المناطق – فإن القوة حينذاك ستكون في متناولنا.

 

إنجاز المهمّة

في البداية، استولت التجمعات اليهودية في داخل الكيبوتزات والمستعمرات على الأراضي، واحتلت مئات القرى العربية التي هجرها سكانها بقوة السلاح، في الفترة بين تشرين الثاني/نوفمبر 1947م ونهاية الحرب الأولى التي اندلعت بين العرب وإسرائيل العامَ 1949م، ومن دون أن تنعم بأية شرعية قانونية بالاستيلاء. وقد دمر بعض تلك القرى ومحيت أسماؤها من على الخريطة؛ أما البعض الآخر فاحتلها المستعمرون وأطلقت عليها أسماء عبرية. فوفقا لما كتبه المفكر الفلسطيني صبري جريس "كان يكفي في ذلك الوقت أن يتمّ تطويق الأرض المبتغاة بسور للحصول على حق الانتفاع منها بصفة دائمة، مع إقصاء أي شخص قد يطالب بأحقيته فيها".

من جهة أخرى، أصدر الكنيست الإسرائيلي 1959م قانونا خاصا بملكية الغائبين، وتمّت بمقتضاه مصادرة اراضي جميع الفلسطينيين الذين لم يكونوا موجودين شخصيا في بلداتهم أو قراهم في زمن الحرب (حتّى وإن كانوا داخل إسرائيل)، إذ عدّت ممتلكاتهم ممتلكات "مهجورة". وقد أعيد تفعيل هذا القانون في السنوات الأخيرة الماضية للعمل على طرد الأسر الفلسطينية المستقرة في القدس الشرقية.

كانت سياسة "التهويد" تحظى بإجماع واسع، إذ كانت تمثل إجابة عن المخاوف التي كان يثيرها التهديد الديمغرافي العربي. وهو ما حدا بالصحافي المشهور يشعياهو بنبورات إلى الكتابة في صحيفة "يديعوت أحرونوت" في 28 كانون الأول/ديسمبر 1962م، في شأن منطقة الجليل التي يقطن فيها قسم كبير من الفلسطينيين داخل إسرائيل: "الجليل ملكنا؟ نعم، على الخريطة. لكن الأمر في الواقع على الأرض، يختلف تمامًا. فهذه إمبراطورية عربية داخل الدولة بدون هبة حكومية قوية [...]، لن نتمكّن من تحرير الجليل". والخلاصة هي أنه كان يندب بطء عملية التهويد في الجليل.

 

دولة يهودية

كانت المطالبة بالطابع اليهودي لهذه الدولة هي التي بررت التمييز ضد "السكان الأصليين العرب"، كما أكّد يسرائيل شاحاك حتّى قبل نشوب حرب 1967م. ولد شاحاك في مدينة وارسو عاصمة بولندا، وأمضى عامين في معسكر اعتقال نازي، هو معسكر برغن بلسن، ثم هاجر إلى فلسطين العامَ 1945م. عمل أستاذا للكيمياء في الجامعة العبرية في القدس، ثم رئيسا لرابطة حقوق الإنسان والمواطن العامَ 1970م. وفي كتاب شجاع صدر بالفرنسية العامَ 1975م حمل عنوان العنصرية في دولة إسرائيل، طرح فيه سؤال "ما هي الدولة اليهودية؟" ليخلص إلى...: "تعاني أغلبية الكتابات المتعلقة بإسرائيل وبجوهر ما يقال عنها خارج حدودها قصورا أساسيا، هو تجاهلها حقيقة أن دولة إسرائيل ليست دولة إسرائيلية، وليست دولة للإسرائيليين، وإنما دولة يهودية". فما من إحصائية تتعلق بالإسرائيليين، مثلما أوضح شاحاك مردفا: "لا يتوقف الأمر عند عدم وجود إسرائيليين في إسرائيل، وإنما جرى فرز الدوابّ والنباتات إلى يهودية وغير يهودية كذلك. فرسميًّا، تحصي دولة إسرائيل البقر والخراف والبندورة والقمح، ثمّ تصنفها منتجات "يهودية"، وأخرى "غير يهودية"." 

إسرائيل هي النظام الديمقراطي الوحيد الذي يميز المواطنة من الجنسية؛ فكل مستحقي المواطَنة يتمتعون بحقوق متساوية. لكن بعضا منهم، هم اليهود، يحوزون ما يعرف بالجنسية. وفي العام 1970م، أكّد شمعون أغرانات، رئيس المحكمة العليا، أن من غير الممكن الحديث عن "جنسية إسرائيلية"، فلم تكن ثمة أمّة إسرائيلية منفصلة عن الأمة اليهودية، ولأن إسرائيل لم تكن حتّى دولة خاصة بمواطنيها اليهود، بل هي دولة يهود العالَم.        

تعبّر إسرائيل عن شعب يهودي لا تاريخيّ وجد عبر القرون. وعلى الرغم من أنها تعتمد مسلكا ليبراليا نحو مواطنيها اليهود، فهي طورت مفهوما قديما للجنسية عفّ عليه الزمن، إذ يقصي المواطنين الفلسطينيين، ويتبنّى رؤية ثيوقراطية في مؤسساتها. صحيح أن الصهينية كانت تسعى لتقديم إجابة عن "المسألة اليهودية" دون غيرها، وأن من المستحيل إدراك جميع المأساة الدائرة في فلسطين إذا ما تجاهلنا هذا البُعد التاريخي والأيديولوجي الذي يميز النموذج الإسرائيلي من التجارب الاستعمارية الأخرى.

 

انتحالُ "إنسانية" مفضوحٌ

هل الإبادة تعني اليهود وإسرائيل وحدهم، وأم أنها تعني الإنسانية جمعاء؟ بالنسبة إلى بن غوريون، لم يكن ثمة مجال للشك؛ فالإبادة تندرج عنده في صميم التاريخ اليهودي، وفي سياق "الكراهية الأبدية" لليهود، وإسرائيل هي المؤتمن الشرعي عليها، والوارث الوحيد لها. هكذا كانت الأغلبية الساحقة للشهود في أثناء المحاكمة من الإسرائيليين. أما الناجون الذين اختاروا عدم الاستقرار في الأرض المقدسة فتمّ تقليص الاستماع إلى شهاداتهم إلى أدنى حيز.

وفي سياق احتفالات إحياء الذكرى الستين لتحرير معسكر أوشفيتز، يشير الفيلسوف الإيطالي إنزو ترافيرسو إلى هذه المفارقة المفجعة: فالمسؤولون الأوروبيون والأميركيون الذين حضروا، مثل ديك تشايني وتوني بلير وسيلفيو برلوسكوني، كانوا هم أنفسهم المروّجين للحرب في العراق. صحيح أنها حرب لا تقارن بما وقع في الحرب العالمية الثانية، إلا أنها جسدت بوضوح حربا عدوانية جائرة قضى فيها مئات الآلاف من المدنيين العراقيين. وعلى حدّ تفسير ترافيرسو "لا يتعلّق الأمر بالمساواة بين أوشفيتز وغوانتنامو، وإنما بالتساؤل هل كنا نستطيع السماح بغوانتنامو وبأبي غريب، بعد أن عشنا أوشفيتز. كما يجدر التساؤل هل لم يكن هناك شيء من الابتزال في قيام المسؤولين عن غوانتنامو وعن أبي غريب بتمثيلنا في مراسم إحياء ذكرى ضحايا النازية"(!)

 

أحلام السلام

من السهل تصوير النزاع في فلسطين بالقول إنه طريق محفوف بالدم يغذيه مشاعر الكراهية والمخاوف، أو القول إنه مظلمة لا تطاق توارَت "خلف لا مبالاة أولئك غير المعنيين بها". فالحل الوحيد الذي كان يبدو واقعيا حتّى وقت غير بعيد، وهو حل الدولتين المتجاورتين، بات يبتعد بالوتيرة عينها التي تنتشر فيها المستعمرات في الضفة الغربية وفي القدس. وفي الوقت عينه ترفض الإغلبية العظمى للإسرائيليين وقسم كبير من الفلسطينيين مشروع الدولة الواحدة الممتدة من نهر الأردن حتّى البحر المتوسّط.

ويبتعد منظور الأمن المطلق بقدر عجز المؤسسة الصهيونية عن إقصاء السكان الأصليين بعيداً، إذ لا يزال الملايين من الفلسطينيين متشبثين بأراضيهم. ويظل "التهديد السكاني" هو الخوف الأساس لدى قادة إسرائيل. وللتصدي لهذا التهديد لا ضير من اعتماد الوسائل كافة، بما في ذلك استقدام مهاجرين قد لا يكونون جميعا من اليهود، ولكنهم يتميزون بأنهم "بِيض".

بات الفصل بين المجموعات السكانية – لا السلام – هدفاً غير واقعي، ولا سيما أنها صارت متشابكة بصورة متزايدة على الصعيد الجغرافي. فعلى حدّ ما اعترف به وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك، بصراحة كبيرة، في شباط/فبراير 2010م: ما دام لا يوجد إلا كيان سياسي واحد اسمه إسرائيل بين نهر الأردن والبحر المتوسّط، سيكون عليه الاختيار بين أن يكون غير يهودي أو غير ديمقراطيّ. لو صوّت الفلسطينيون لكانت الدولة ثنائية القومية، ولو لم يصوتوا لكانت دولة فصل عنصريّ(...).