رسم لنابليون بونابرت في مصر
سرعان ما تلاشى حُلم نابليون بونابرت بتأسيس قاعدة استعمارية فرنسية في المشرق، وذلك بفعل الظروف القاهرة التي تعرض لها جيشه هناك، فآثر أن يعود إلى وطنه
ليستحوذ على السلطة المضطربة فيه، مخلفاً وراءه أحداثاً ووقائع كبرى كان لها اليد
الطولى في تغيير تاريخ ومصير البلاد العربية المشرقية عموماً ومصر على وجه الخصوص.
الأسباب الاستراتيجية للحملة
من المعروف أن الثورة الفرنسية التي اندلعت في عام 1789،
قد تمخضت عن صدام كبير داخل القارة الأوروبية، حيث تصارعت القوى الملكية العتيدة
مثل بريطانيا وأسرة الهابسبورغ الحاكمة في النمسا من جهة، مع القوى الثورية التي
تدعو إلى فكرة الجمهورية، والتي مثلتها الإدارة الفرنسية والمعروفة بحكومة
الديركتوار من جهة أخرى. ولم تمضِ فترة زمنية طويلة، حتى بدأت أوروبا تعمل من أجل إعادة
النظام الملكي إلى فرنسا، وذلك خوفاً من انتشار الروح والأفكار الثورية منها إلى
باقي أنحاء القارة العجوز.
في تلك الأثناء، كان الجنرال نابليون بونابرت يثبت
كفاءته وقدراته العسكرية حيناً بعد آخر، حيث تمكن من الانتصار على جيوش الغزاة في
عدد من المواقع الحربية، وهو ما أهله للوصول إلى عدد من المناصب القيادية في سن
صغيرة، حيث لم يكن وقتها قد أكمل الثلاثين عاماً.
وفي ظل تلك الظروف العصيبة، اقترح بعض مستشاري الإدارة
الفرنسية القيام بمشروع استعماري فرنسي في المشرق، وهو الأمر الذي لاقى وقتها
قبولاً واستحساناً من نابليون، فاندفع لتأييد المشروع واستطاع أن يقنع به أعضاء
الحكومة، حيث بيّن لهم ضرورة إنشاء قاعدة عسكرية فرنسية في بلاد المشرق،
وكيف أن ذلك كفيل بأن يضرب المصالح الاستعمارية الإنجليزية في مقتل، وأن يقطع عن
التاج البريطاني طريق الإمدادات والموارد المادية التي لا حد لها والتي تأتيه من
مستعمراته في بلاد الهند. كما أنه في الوقت نفسه يتيح لفرنسا أن تسيطر على طرق
تجارية بحرية مهمة، وأن تجد لنفسها بديلاً عن المنافسة الشرسة مع باقي القوى
الأوروبية التي استأثرت بطريق رأس الرجاء الصالح الذي اكتشفه الرحالة البرتغالي بارثولوميو
دياز في 1487، واستطاع مواطنه فاسكو دا غاما استغلاله عسكرياً وتجارياً في نهايات
القرن الخامس عشر.
وأمام كل تلك الأسباب الاستراتيجية التي قدمها نابليون،
وافقت الحكومة الفرنسية على المشروع الاستعماري، فأصدرت قراراً بوضع "جيش
الشرق" تحت إمرة نابليون في 12 نيسان إبريل 1798، وتكون هذا الجيش من 35 ألف
جندي وضابط، تحملهم 300 سفينة حربية ضخمة، وأبحرت تلك السفن من ميناء تولوز إلى
البحر المتوسط في 19 أيار مايو من العام نفسه.
الدوافع الحداثية للحملة
إذا كانت الأسباب الاستراتيجية العسكرية قد لعبت دوراً
مهماً في تحريك الجيوش الفرنسية إلى جنوب البحر المتوسط، فإننا لا يجب أن نتناسى
الدوافع الأيديولوجية الأخرى التي صبغت تلك الحملة الاستعمارية، وشرعنتها وأكسبتها
بُعداً فكرياً خطيراً بحيث لا يمكن تجاهله في معرض التأريخ لأحداثها. فمن المعروف،
أن حملة نابليون على مصر لم تكن الأولى في تاريخ العلاقات المصرية - الفرنسية، بل
سبقتها حملتان، وهما الحملة الصليبية الخامسة في 1221 والحملة الصليبية السابعة في
1250، وقد مُنيت الاثنتان بالفشل الذريع.
الاختلاف الرئيس ما بين حملة نابليون وما سبقها من
محاولات فرنسية لغزو مصر، أن تلك المحاولات كانت تتم في سياق طائفي، حيث رفع قادة
تلك الحملات راية الصليب، وكانت دوافعهم المُعلنة دوافع دينية بحتة.
أما حملة نابليون فقد قدمت نفسها بشكل مختلف تماماً، فقد
كانت تلك الحملة مظهراً من مظاهر عصر التنوير والتحديث في أوروبا، ذلك العصر الذي
خرج أهله من ربقة التبعية الدينية للسلطات الكهنوتية الكاثوليكية، ومن ثم فلم ترفع
تلك الحملة الشعارات الدينية نفسها التي لطالما رفعها قادة العالم الكاثوليكي في
العصور الوسطى من قبل.
نابليون، والذي كان يُمنّي نفسه بفتوحات كبرى في المشرق،
وحاول أن يقلّد الإسكندر المقدوني في غزواته وحروبه، بحسب ما جاء في كتاب "علماء
نابليون في مصر" لروبير سوليه، وجد نفسه مضطراً إلى تقديم دوافع مقدسة لجنوده
الذين يُبحرون إلى المشرق، ولم يجد أفضل من كتاب "رسائل عن مصر" لكلود
سافاري وكتاب "رحلة في مصر وسوريا" لقسطنطين فولني لتحقيق تلك الغاية.
الكتابان، اللذان قام الجنرال الفرنسي بتوزيع نسخهما على
جنوده في السفن، رسما صورة خيالية شيّقة عن مصر وبلاد المشرق، حيث تشابهت تلك
الصورة مع مثيلتها التي لطالما سمع عنها الفرنسيون في كتابات المستشرقين وحكايات "ألف
ليلة وليلة"، وهو الأمر الذي أثار حماستهم للوصول إلى بلاد الشرق الساحرة.
على الجانب الأخر، قدم نابليون مبررات للحملة من واقع
الشعارات الثورية القوية التي كانت تتردد على الألسن في فرنسا في ذلك الوقت، فقد
أذاع بين جنده أنهم يتجهون إلى مصر لإنقاذها من حكم المماليك المتوحشين الطغاة،
ولإقرار مبادئ العدالة والإخاء والمساواة بين أهلها، ولنشر أفكار الثورة فيما
بينهم.
من هنا يمكن القول إن الحملة قد تناغمت أيديولوجياً مع
السياق الزمني الذي وقعت فيه أحداثها، وإنها كانت حملة حداثية بكل ما تحمله الكلمة
من معنى، فقد استندت الحملة إلى كتابات المستشرقين وأفكار الفلسفات الثورية، بعدما
كانت الحملات الصليبية السابقة عليها ترتكز على أقوال رجال الدين والتفسيرات
السياسية للكتاب المقدس.
موقف المصريين من الحملة
مما لا شك فيه أن الحملة الفرنسية على مصر، قد أحدثت
زلزالاً مدوياً في وعي وإدراك البلاد المشرقية العربية كلّها، حيث استيقظ أهل تلك
البلاد صبيحة يوم استيلاء الحملة على مصر على وقع الفجوة الهائلة التي صارت تفصل
ما بين الغرب المسيحي من جهة والشرق المسلم من جهة أخرى، في مجالات العلوم
والصناعة والحرب.
يذكر روبير سوليه في كتابه الشهير "مصر ولع فرنسي"،
أن قائد الأسطول البريطاني نيلسون كان قد سبق نابليون إلى الإسكندرية، وحذر حاكمها
من احتمالية وصول الأسطول الفرنسي إلى المدينة، وبدلاً من أن يتعامل الحاكم مع
القضية بالاهتمام الكافي، فإنه سخر من الأمر برمّته، وأخبر نيلسون بأنه في حالة
وصول الفرنسيين إلى مصر فإن المماليك سوف يتكفلون بمهمة دق أعناقهم جميعاً.
موقف حاكم الإسكندرية لم يكن شاذاً أو متفرداً عن السياق
العام السائد وقتها، حيث تذكر بعض المصادر التاريخية أنه عندما وصلت أخبار وصول
الفرنسيين إلى قائد المماليك إبراهيم بيك، أمسك بندقيته وكسرها بيديه، وقال سوف أدق
أعناق الفرنسيين، كما كسرت هذه البندقية.
الثقة الكبرى التي ملأت مخيلات المماليك، سرعان ما تبخرت
عندما وقع اللقاء الحربي الأول ما بين الجانبين في معركة إمبابة في تموز يوليو
1798، حيث اكتشف المماليك أن أساليبهم القتالية لن تجدي نفعاً أمام ذلك الجيش
الأوروبي الحديث المدجج بالسلاح والبارود، ولذلك لاذوا بالفرار والهروب، حيث تراجع
شطر منهم جنوباً إلى الصعيد بينما اتجه الشطر الأخر شرقاً إلى بلاد الشام.
نابليون الذي لم يجد صعوبة تُذكر في هزيمة المماليك، وجّه
همه بعد ذلك تجاه الحصول على الشرعية اللازمة لإقرار حكمه، فقد إلتفت الجنرال
الفرنسي مبكراً إلى مكانة الدين الإسلامي المهمة في بلاد المشرق، وإلى تأثير شيوخ الأزهر
على المصريين، ولذلك سعى إلى استمالتهم إلى صفه، فأسس ديوان القاهرة الذي عيّن فيه
تسعة من كبار علماء الأزهر، وعلى رأسهم الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع
الأزهر، وفي الوقت ذاته فقد أسس الديوان العمومي، الذي جمع فيه عدداً كبيراً من
الأعيان وأبناء الطبقة البرجوازية والإقطاعيين، وجعل منه ديواناً استشارياً
مشاركاً في صناعة القرار.
من جانبهم، إرتضى كبار الأزاهرة التعاون مع المحتل الفرنسي
بغية تخفيف وطأة الاحتلال، وساعدهم على ذلك إعلان نابليون عن احترامه للدين الإسلامي
وما أشاعه عن اعتناقه للإسلام وحضوره المتكرر لحفلات ومجالس الصوفية.
ومن المواقف التي حفظتها لنا المصادر التاريخية حول العلاقة
ما بين الفرنسيين وشيوخ الأزهر في ذلك الوقت، ما يذكره محمد جلال كشك في كتابه "ودخلت
الخيل الأزهر"، من أن شيخ الأزهر عبد الله الشرقاوي قد غضب غضباً شديداً عندما
أراد نابليون أن يضع شارة الثورة الفرنسية فوق كتفه، وأن الشرقاوي قد نزع تلك الشارة
وألقاها على الأرض، مما أجبر الجنرال الفرنسي على الاعتذار للشيخ الأزهري وتطييب خاطره.
ولما كان أمر استمرار الوفاق ما بين الجنرال الفرنسي
والعلماء المسلمين، صعباً وبعيد المنال، فإن
العلاقة الهادئة ما بين الطرفين لم تزد عن بضعة أشهر، حيث شارك العديد من علماء الأزهر
بعدها في ثورة القاهرة الأولى التي اندلعت في 20 تشرين الأول أكتوبر من عام 1798، واستشهد
عدد كبير منهم بواسطة مدافع وبنادق الفرنسيين التي لم تفرق ما بين الأزهريين وبين غيرهم.
كما اقتحم الفرنسيون الجامع الأزهر بخيولهم، واقتيد عدد من مشايخه إلى محاكمات عسكرية
سريعة، حيث صدرت الأحكام بإعدام ستة منهم، فضربت أعناقهم ثم تم دفن جثامينهم في مكان
غير معلوم.
وبرغم فشل الثورة، إلا أن الأزهر استمر في معارضته للفرنسيين،
فشارك شيوخه في ثورة القاهرة الثانية، كما قام أحد طلبته، وهو سليمان الحلبي بعد ذلك
باغتيال كليبر، خليفة بونابرت على مصر.
وفي ظل تلك الأوضاع القلقة، أقدم نابليون على خطوته
الثانية في خطة استعماره للمشرق، حينما تحرك شرقاً لغزو مدن الساحل الشامي، ففتح
يافا في آذار مارس 1899 وتقدم نحو عكا محاصراً إياها، ولكنه عجز عن اقتحامها في
نهاية الأمر فتراجع مرة أخرى إلى القاهرة.
العودة إلى فرنسا وفشل الحملة
كانت هزيمة نابليون أمام أسوار عكا قد أثّرت كثيراً في
نفس الجنرال الفرنسي الأشهر، حتى رُوي عنه أنه قد قال بعد ذلك لبعض أصحابه
(لقد
مات خيالي عند عكا)، وذلك بحسب ما يذكره ويل ديورانت في كتابه "قصة
الحضارة"
.
فالملاريا والطاعون اللذان فتكا بالكثير من الجنود
الفرنسيين، والمعارك المتوالية التي وجد نابليون نفسه مضطراً إلى دخولها ضد القوات
العثمانية والإنجليزية، والثورات المستمرة من جانب المصريين، بالإضافة إلى الأخبار
الواردة من فرنسا والتي تؤكد خسائر الثورة لجميع الأراضي التي كسبتها في أوروبا.
كل تلك الأسباب أجبرت الجنرال الفرنسي على اتخاذ قرار العودة إلى باريس في 22 آب أغسطس 1899، تاركاً ما تبقى من جنوده تحت
إمرة الجنرال كليبر، ومتخلياً في الوقت ذاته عن حلمه بتكرار غزوات وفتوحات
الإسكندر المقدوني المشرقية.
وبرغم فشل نابليون وخلفائه في تحقيق أهدافهم الرئيسة
والمتمثلة في اقامة مستعمرة فرنسية في المشرق، فإن الحملة الفرنسية على مصر قد
تسببت في حدوث صدمة حضارية هائلة، لم يستفق المشارقة من آثارها إلا بعد فترة طويلة
نسبياً، حيث مهدت تلك الحملة لتفكيك النظم الإدارية القديمة التي كانت قائمة في
مصر العثمانية، كما ألقت الضوء على البون الشاسع والاختلاف الكبير الذي يفصل ما
بين الشرق والغرب، وفي الوقت نفسه فقد لفتت أنظار الأوروبيين إلى البلاد المشرقية،
فصارت تلك البلاد ميادين للتنافس الاستعماري من قبل الدول الأوروبية فيما بعد.
تلك النتائج، اختلف الباحثون العرب في تحليلها وتقييمها،
ففي حين يرى العديد من هؤلاء أن الحملة الفرنسية، برغم مضامينها الاستعمارية
الواضحة، كانت خطوة مهمة في سبيل التقدم المصري والمرور نحو عصر الحداثة واللحاق
بركب التقدم والنهوض العلمي، والتي ظهرت بوادره في عصر محمد علي باشا وخلفائه من
حكام الأسرة العلوية الذين وضحت في عهودهم تشكّل الدولة المصرية الحديثة؛ فإن باحثين
آخرين يرفضون ذلك الرأي، حيث يرون أن الحملة قد عرقلت خُطى نهضة مصرية علمية كانت
بوادرها تلوح في الآفاق، وأنها قد مثّلت حلقة جديدة من حلقات مسلسل الصراع الدامي
ما بين الغرب والشرق، وإن كان قد اسُتبدلت فيها الدوافع الدينية بأخرى أيديولوجية
الطابع.