الحق في الفلسفة للجميع

يأتي اليوم العالمي للفلسفة في 17 تشرين الثاني – نوفمبر . فارتأينا عرض كتاب "عن الحق في الفلسفة" للفيسلوف الفرنسي جاك دريدا في هذه المناسبة. ويمكن اعتبار الكتاب بياناً حول واقع التعليم الفلسفي بين الأمس واليوم واستشرافاً لآفاق هذا التعليم.

كتاب "عن الحق في الفلسفة" للفيلسوف جاك دريدا
 

قراءة: هادي نعمة *
 

  كتاب «عن الحق في الفلسفة» للفيلسوف الفرنسي جاك دريدا هو إعلان عن موقف نظري وعملي يتلخص في شعار «الحق في الفلسفة للجميع». وهو يشتمل على نصوص خصصها دريدا، منذ منذ سنة 1975 إلى بداية التسعينيات من القرن العشرين، لقضايا التعليم والبحث الفلسفيين ولكل ما يرتبط بالجامعة وبالمؤسسة التعليمية عموماً.

هذا الكتاب بيانٌ حولَ واقع التعليم الفلسفي، بين الأمس واليوم، واستشرافٌ لآفاق هذا التعليم، ربطًا بمنتَظَرات المجتمع السياسيّة والاقتصادية والثقافيّة، إذ تحيلُنا نصوص "عن الحق في الفلسفة" إلى سياقات بيداغوجية ولسانية وسياسيّة وفكريّة، تستثير فينا التَّأَمُّلَ في الماضي والحاضر من أجل استشراف المستقبل. ذلك أنَّ تفكيك المؤسسة التعليمية ليس سوى مقدمة لتفكيك أشمل يَطال المؤسّسات الأخرى- الدرس الأساسيّ الذي يمكن استخلاصُهُ من هذا الكتاب.

فعندما سعت القوى المدعمة للحكومات السابقة بالمدرسة وخارجها إلى وضع حدود أمام التعليم الفلسفي، فإنها لم تكن تروم منع أو قمع نوع من التسييس غير المراقب تماماً فحسب. فقد كان هناك بالأساس، الإكراه القويّ للسوق والإزامات التقنيّة-الاقتصادية، ولمفهوم، أو ربما، لأيديولوجيا، أو ـ ببساطة ـ لفلسفة التكييف الفوريّ مع المعطيات الاستعجاليّة الظاهرة للإنتاجيّة، ضمن التنافسية الوطنية والعالمية.

لذلك، يتعين القيام بعمل تفكيكيّ داخل سلسلة شاملة من التعارضات والتقابلات والتفرعات الثنائية، من قبيل: (الحضور/الغياب)، (الداخل/الخارج)، (الشكل /الجوهر)، (العمق/السطح)، (العقليّ/الحسّيّ)، (الأصل/المشتق)، (الطبيعي/الثقافي)...

تتموقع هذه الاستراتيجية، إذن، في إطار سجال مع الفكر الميتافيزيقيّ الغربيّ ومع تاريخه. وهي عبارة عن نقد لتمركز عرقيّ(ethnocentrisme)؛ وتفاديًا للوقوع في فخّ التقابلات الثنائية، سيَشرَع دريدا في الكشف عن تناقضاتها واقتراح بدائلَ أخرى، وبذلك سيتمُّ قلب النظام الهرميّ الذي أقامته الميتافيزيقيا الغربية رأسًا على عقب، والانفتاح على الهوامش، والإنصات إلى فكر مغاير(هو فِكر الاختلاف)، وسيتم بذلك الكشف عن الخلفيات الثانوية وراء البديهيات والمسلمات التي اعتمد عليها الفكر الغربيّ في بناء أنساقه، وفي بلورة مؤسّساته المختلفة.

ولم يعتبر دريدا أنَّ التفكيك تحليلٌ أو نقدٌ. إذن؛ بأيِّ معنًى نتحدَّث عن "تفكيك المؤسّسة"؟ وما هي الدلالات التي تحملها هذه الكلمة الأخيرة ضمن الاستراتيجية الدريديّة؟

مؤسّسة البحث والتدريس تحيل على مفاهيم المسؤولية وبلاغة الحجاج والصراع النظري والسياسيّ، أي إنها تحيل بشكل مباشر أو غير مباشر على المؤسسات الأخرى، السياسية والاجتماعية. وإذا ما أردنا أن يكون هناك تأثير لما ندعوه بالتفكيك، "لا يجب أن ينحصر التفكيك عند حدود المضمون المفاهيميّ للبيداغوجيا الفلسفيّة، بل عليه أن يشمل كل المشهد الفلسفيّ وكل معاييره وأشكاله المؤسّساتية، وهذا ما يجعل اشتغال هذه الأجهزة ممكنًا".

سيتساءل  دريدا، في هذا الإطار، إلى أي حد يمكن للحق في التعليم، كحق منصوص عليه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أن يتضمّن الحق في الفسفة كحق كونيّ يتجاوز الاختلافات الوطنية والقومية والاجتماعية؟

إن الجواب يتمثّل في كون الفلسفة كمادة تخصصية، تتوافر على الحقوق والحدود نفسها التي تتوافر عليها المواد الأخرى وفي كونها قادرة على مساءلة الأسس التي يستند إليها الخطاب القانوني، بما في ذلك الخطاب حول حقوق الإنسان، مما يؤهّلها لكي تكون قابلة للتدريس وموضوع اهتمام على الصعيد الكوني. وهكذا، سيسمح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بتكوين ذوات قادرة على فهم فلسفته والاستفادة منه بغرض مواجهة كل أنواع الاستبداد.

ويجب أن يتمَّ هذا الحق في الفلسفة وحمايته انطلاقاً من جهاز قانوني وسياسي تشكّل الديمقراطية أحسن نموذج له. وفي هذا كلّه؛ تبدو الاستفادة من التراث الـ"كَانطي" ضروريّة.

ونحن لا نملك الفلسفة، لأن هذه الأخيرة مجرد فكرة لعلم ممكن وليست مُعطًى موجودًا بالملموس، كما أن أستاذ العقل الخالص هو أستاذ التفلسف، لا أستاذ الفلسفة. فالمفهوم الكونيّ للفلسفة يعارض المفهوم السكولائيّ.. لتبرزَ هنا طبيعة العلاقة بين ما هو كونيّ وما هو فرديّ، بين الفلسفة كمفهوم عالميّ والفيلسوف كمشرّع كونيّ وبين فعل التفلسف بإمكانية فعلية يمكن أن تتم في فضاء مؤسساتيّ وأن تمارَس من طرف الذوات المتفلسفة: مدرّسين وطَلَبَةً وتلاميذَ.

فالفلسفة تتجاوز مؤسساتها. ويجب عليها تحليل تاريخ وتأثيرات هذه المؤسسات. كما يتعيّن عليها أن تظل حرة في كل لحظة، وألاّ تطيع سوى الحقيقة وقوّة السؤال والفكر. ومن حقّها أن تتخلّى عن كل التزام مؤسساتي، لأن ما هو موجود خارج المؤسّسة يجب أن يتوافر على مؤسّساته بدون أن يكون لها، فكيف نوفّق بين احترام العتبة المؤسّساتية وعدم احترامها؟!...

إنَّ صيغة "عن الحق في الفلسفة"، في كونها صيغة عنوان، تستمد سلطتها وقوتها ونفوذها وامتيازها من قدرتها على عدم الإفصاح عن مكنوناتها بواسطة الكلمات. يعلن عنوان "عن الحق في الفلسفة" برنامجًا وإشكالية وعَقدًا، حيث ستعالج العلاقات القائمة بين الحق والفلسفة. ويتضمن كل عَقدٍ ـ بهذا المقتضى ـ مسألةَ الحق، وسيكون كل عنوان عَقدًا. وفي الحالة الفريدة للفلسفة، سينفتح هذا العقد على أكثر من مفارقة. يجب الحديث عن الحق في الفلسفة، والتحاور مع فلسفة الحق، والتخاطب مع الفلسفة والفلاسفة حول سؤال الحق الشاسع والخصب.

فنحن نقول "لدينا الحق في"، للإشارة إلى المنفذ الذي يضمنه القانون وإلى الحق في المرور وحرية المرور، والترخيص بالدخول، فمَن له الحق حاليًّا بمجتمعنا؟ ولأيِّ فلسفة؟ وضمن أي فضاء- خصوصي أو عموميّ؟ وفي أي أمكنة للتدريس والبحث والنشر والقراءة والنقاش؟ وعبر أي هيئات وشبكات إعلامية؟ فمن الذي يطمح بشكل مشروع إلى الفلسفة؟ ومن الذي يفكر ويقول ويناقش ويتعلم ويدرس ويبسط ويعرض أو يتمثل الفلسفة؟...:

إنَّ منح لقب ما لشخص "أو رفضه" من طرف هيئة مؤسساتيّة يعني أن حراسة الألقاب وضمانتها تعودان إلى مَن يملك اللقب مسبقًا كمؤسّسة. ولا يمكن لمصادر السلطة الواهبة للألقاب والعناوين، أن تتمظهر باعتبارها كذلك، فقانون بُنيتها أو بنية قانونها يقتضي زوالَها.

تحاول النصوص التي جمعها دريدا بين طيّات هذا الكتاب أن تأخذ بالاعتبار هذا المعنى المشترك والمفارق .فالسؤال "ما هي الفيزياء والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا والأدب والموسيقى"؟ سيكون من طبيعة فلسفية، لكن هل سينطبق الشيء نفسه على السؤال: "ما هو الشيء الفلسفيّ؟"..

هنا سنجد أنفسنا أمام أكثر الأسئلة أو أقلّها فلسفيّة، فهذا السؤال يتوزّع على كل القرارات المؤسّساتية، فمن الذي يُدعى فيلسوفًا؟ ومن هو الفيلسوف؟ ومن له الحقّ في ادعاء انتمائه إلى الفلسفة؟ وكيف نتعرّف حاليًّا على ملفوظ فلسفيّ بشكل عامّ؟ وما هي العلامة(وهل هي فعلاً علامة؟) التي نتعرّف من خلالها على فكرة أو جملة أو تجربة أو عملية أو ديداكتيكا فلسفيّة؟ وما المقصود بـ"فلسفيّة"؟ وهل يمكننا الاتِّفاقُ في شأن موضوعها وموضوع المكان الذي تشكلت فيه هذه الأسئلة واكتسبت شرعيَّتَها؟

الجانبان اللذان هَيمَنَا على مسار التقليد الفلسفيّ، قد اتَّخذا صيغة بين الماهية والوظيفة. فالماهية هي ماهية التاريخ والأصل والحدث والمعنى وأصل الاشتقاق.

ومن جهة الوظيفة، هناك محاولة لإدانة هذه النزعة التأصيليّة، بالاعتماد على أسلوب اسميّ(ظاهـريًّا)، فهذه النزعة لن تفيدنا في معرفة الحقيقة النفعيّة للفلسفة، أي معرفة: ما تفعله، ما ينجَز باسمها، ما الذي تستفيده من جرّاء ذلك، وما هو الموقف المتّخَذ منها، أو الموقف المتَّخَذ ضمن أفعال الخطابات والنقاشات والتقييمات والممارسات الاجتماعية والسياسية والمؤسساتية التي يتعيّن الإحاطة باختلافاتها، وليس بالخط الجينيالوجيّ الذي يربطها بانبثاق منسيّ؟

يقول دريدا: وإذا ما أردنا ابتكار، أو ترتيب نمط آخر من المساءلة- قدر الإمكان، فإنَّه يتعيّن البدءُ بفهم وصياغة ضرورة ـ إن لم نقل حتميّة ـ هذا الاقتضاء المشترك. ولهذا اخترنا هذا الطريق. فكل النقاشات المثارة في هذا الكتاب تؤكّد ذلك، سواء تعلق الأمر بالمقترحات الافتتاحية لمجموعة  GREPH  للأبحاث في الفلسفة، أو بالمدخل إلى الأحوال العامة للفلسفة، أو بتأسيس المعهد الدوليّ للفلسفة، أو بتقـرير لجنة الفلسفة والابستمولوجيا. فأنا أنخرط في كل مرّة، بقوة وبدون لبس، في الصراعات الهادفة إلى ضمان وتطوير ما ندعوه في الغالب "الخصوصية" المهدّدة للمادة الفلسفيّة ومواجهة عمليّة تشتيتها ـ إن لم نقل تذويبها ـ داخل تدريس العلوم الاجتماعية أو الإنسانيّة، وداخل تدريس اللغات والآداب كذلك، كما الشأن في فرنسا".

وإذا ما كانت الفلسفة مطالَبَةً بالانفتاحِ على كل التداخلات بين الموادّ، بدون أن تفقد هويتها.. فلأنَّها لا تخضع، كمادّة من بين الموادّ، للتعاملات الهادئة والمنتظمة بين معارف ذات حدود مضبوطة أو مساحة موضوعات قابلة للتعيين. فَذَا تبريرُ المشروع برمّته والحديث عن الاهتمام بالفلسفة كحق في الفلسفة! وستمنح هذه الأخيرة نفسها الحق في التفكير فلسفيًّا في الحق كمادة مؤسّساتية. وطبعًا، فإن اختيار كلمة "فكر" للتعبير عمّا يتجاوز هذه الأنماط الخاصة للتفكير، المتمثّلة في الفلسفة والعلم، لا يجد تبريرَه في هذا السياق إلا بشكل استراتيجي ومؤقّت، فهو يستدعي بالضرورة تفاهمًا مع "هايدغر" كمرجَع لا غنًى عنه أبدًا ضمن هذا السياق. 

أزمة التعليم الفلسفي.. عصر "هيغل" نموذجًا

الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا

يتحدّث الفيلسوف هيغل البالغ اثنتين وخمسين سنة ـ هو وفلسفته(!) ـ عن موته المحتَمَل، مع فلسفته، عند حلول الظلام، إلى الوزير "ألتنشتاين"؛ وعن "مداخيل إضافية" لأبنائه ولأرملته وعن تأمينات مستقبل كمقابل لخدماته التي لم يتنازل فيها عن مقتضيات الصرامة الفلسفية للنسق. فقد كتب إلى الوزير ألتنشتاين قائلاً: "لقد تفضّلتم يا معالي الوزير، بتعييني بجامعة هذه المدينة ومنحتموني الأمل في أن يساهم تطور مشاريع معاليكم بخصوص المؤسسات العلمية، في فتح مجالات جديدة لنشاطي، مما سيزيد من مداخيلي مستقبلاً. ولا يمكنني تصور إنجاز هذه الوعود الطيبة إلاّ في ارتباطها في المقاصد السامية لمعاليكم والرامية إلى تطوير العلم وتكوين الشباب. لذلك، فإنني أعتبر تحسين وضعيتي الاقتصادية كعنصر تابع داخل هذا الكل. وبما أنه قد مرّت أربع سنوات ونصف على تعييني في برلين، وبما أن مشاكل عائليّة كثيرة صعّبت من وضعيّتي، فإنّني استحضرت التصريحات السابقة لمعاليكم لفائدتي وشعوركم الطيّب تجاهي، وهو ما يسمح لي بالتعبير لكم عن الآمال المتولّدة لديّ نتيجة هذه الظروف. وسبق لي أن عبّرتُ لكم عن امتناني، عندما حصلت على موارد إضافيّة بعد تكليفي بمهمّة ضمن اللجنة المَلَكية للامتحانات. غير أن هذه الموارد الإضافية استُنفدت تقريبًا، لأنه مع اقترابي من سنّ الشيخوخة، أصبحت ملزَمًا بالتفكير في مستقبل زوجتي وأبنائي، إضافةً إلى كَوني خصّصت مداخيلي الخاصة كلّيّة لتكويني الثقافي الذي أضعه الآن رهن إشارة الحكومة الملكيّة. من جهة أخرى، فإن تعويض التأمين للأرامل يتطلّب مني بالإضافة إلى ما أدفع إلى صندوق الأرامل في الجامعة، مصاريف سنويّة تقدَّر بمئة وسبعين "تالير"، حتّى يتمكّن وَرَثَتِي من تقاضي ثلاثماية وثلاثين تالير سنويًّا. وهناك أمران أستحضرُهُما من جرّاء هذه التضحية العظيمة التي أقوم بها كل سنة: الأمر الأول هو أنَّ كل ما دفعته سيضيع إذا لم توافني المنيّة وأنا أستاذ في الجامعة الملكيّة. الثاني هو أن أرملتي وأبنائي لن يتمتّعوا في المستقبل، بالمساعدة الكريمة لجلالة الملك، بسبب التأمين الذي تعاقدتُ بشأنه مع الصندوق العامّ للأرامل."

التناقض الذي قلق هيغل بشأنه، قد طلب من الوزير أن يحلَّه معه. فصندوق تأمين أرامل الجامعة يمثّل رعاية اجتماعية تمنح الأمان الضروريّ لأسَر الموظفين. وبما أن مصير الأساتذة مرهون بالسلطة المَلَكية(وقد تخوَّف هيغل من إمكانية ألاّ يموت وهو "أستاذ في الجامعة الملكية"، لذلك سيعمل كل ما في وُسعِهِ للموت في هذه الجامعة)؛ فإنَّه سيكون، في حالة ما ـ إذا فقد منصبه قبل موته ـ قد تعاقد من أجل لا شيء(!)، فصندوق أرامل الجامعة لن يدفع شيئًا ما دام هيغل لم يعد منتميًا إلى الجامعة.

لقد قام الوزير ألتنشتاين، أي الدولة، في الشهر الموالي بطمأنة هيغل. الدولة ساعدت فيلسوفها الذي منح الشرعية لعقلانيَّتِهَا، فهو الذي قدّم للقوى الخاصّة ولأطرافها التي تمثّلها هذه الدولة مبرراتٍ كونيّةً. وهل كان في وسعه أن يفعل غير ذلك؟ وبالمقابل، هل كان بإمكانه قول أي شيء والتخلّي عن المقتضيات "الداخليّة" للنسق(الموسوعة، والمنطق، وفلسفة الحق)، أي للنسق الذي اكتمل نضجُهُ، فقط لأنه يحب ماري وكارل أو إيمانويل هيغل؟

فكيف تمكّنت هذه المصالح الخاصّة(عائلة، مجتمع مدنيّ) أن تتوافق بدون إحراج مع نَسَقِ مَصَالِحِ العقل ومع تاريخ النسق ونسق التاريخ؟ تلك هي المسألة.. فمن الصعب التفكيرُ في هذه الوَحدة، ولكنّا لا نستطيع أن نحذف منها أيَّ حدّ ولا أيَّ قوّة ولا أيَّ رغبة ولا أيَّ مصلحة، كما لا نستطيع أن نجعَلَهَا ثانويّة.

كان هيغل على علم بكلِّ ذلك. كان على عِلم، تقريبًا، بتلك الشبكة التي تتداخل فيها بشكل فعّال، المصالح الخصوصيّة مع مصالح العقل التاريخيّ، والمصالح الخاصّة مع مصالح الدولة. ومصالح دولة خاصّة مع العقلانية التاريخية الكونيّة للدولة.

وربطًا بكل ذلك، وعطفًا عليه؛ بات ينبغي إعادة قراءة مشروع مجموعة الأبحاث حول التعليم الفلسفيّ(!)؛ ففي كلِّ سطر، هناك دعوة إلى إبراز ما هو مراقَب وعديمُ القيمة.

 

الفلسفة المُبعَدة

يقول دريدا: "يجب علينا الإقرار بحقيقة أنَّ تدريس الفلسفة سيتأثّر أكثر من غيره، وبشكل أعمق، بالمشروع الحاليّ. ويعود هذا التأثّر إلى الشروط التي تبرزُ وتحدّد كل توجّهات "النظام التربويّ الجديد"؛ نظرًا إلى كون "الأقسام النهائيّة" الجديدة قد انتظمت وفق نظام اختياريّ كليّةً، فإنه لن يعود هناك تدريس إلزاميّ للفلسفة بالقسم الوحيد الذي كانت هذه الأخيرة تدرَّس فيه، إذ سيتمّ تخصيص ثلاث ساعات لـ"قسم الأولى" وهو ما يعادل في المتوسّط الساعات المخصّصة لـ"الأقسام النهائيّة" التي تُعتَبَرُ حصّتُها من مادّة الفلسفة هي الأقلَّ من حيث العددُ. عدد الساعات المخصصة للفلسفة بالنسبة إلى مجموع التلاميذ، يتقلّص بشكل كبير، إذ إنَّ الفلسفة كانت هي المادّة الوحيدة التي تمَّ حصرُ تدريسها بقسم واحد بحصص مقلّصة، وبالتقليص المستمرّ للمعامل ولمناصب التدريس معها. ويبدو أنَّ المشروع قد حقّق مراميه بوضوح هذه المرّةَ، إذ لا يمكن لأيِّ تعليم ممنهج للفلسفة أن يتمّ خلال ثلاث ساعات أسبوعيًّا.

فما دام الاتّصال بالفلسفة لن يعود ممكنًا بالنسبة إلى التلاميذ على مدى تَمَدرُسِهِم، فإنَّ عدد المترشّحين لـ"قسم الفلسفة" سيقلّ تدريجيًّا. إن تحديد البكالوريا المدعوّة بـ"الأساسيّة" عند نهاية "قسم الأولى"، وهو الأمر الذي تمَّ تحت تأثير الضغوط التقنو-اقتصاديّة للسوق، وبتنسيق مع سياسة تربويّة مفروضة من طَرَف قانون هذا السوق؛ سيقلِّص عدد التلاميذ بـ"القسم النهائيّ" الجديد، كما سيقلّص عدد الطلبة بالجامعات. وستتسارع وتيرة نَدرَةِ مناصب تدريس الفلسفة، التي نلمسها الآن جيّدًا، وبالتالي ستعمل على تثبيط همّة كل المرشّحين المحتَمَلين لـ"قسم الفلسفة"، كما ستؤدّي إلى التقليص من منافذ الشغل. وحسب ما يُشاع، فإن توظيف أساتذة الفلسفة يُمكن أن يتوقّف لسنوات عدّة. وقد أنجز لهذا الغرض، جهازٌ مُتقَن تمّ عرضه أخيرًا، بحيث سيؤدّي بسرعة إلى الجلاء العَمَليّ لكل فلسفة من "ثانويات التعليم العام والتقنيّ" وإلى الانتهاء المنظَّم لها في الجامعات.

حماية الفلسفة

أعاد "دوري" في المرحلة الإمبراطوريّة "قسم الفلسفة بعد عشر سنوات من إلغائه، هادفًا من ما وراء ذلك إلى إعادة تأطير الشبيبة البرجوازيّة وحمايتها من تأثير المذاهب الفلسفيّة." ويمكن لتناقضات مشابهة أن تعمل اليومَ كذلك على الدفاع عن "قسم الفلسفة"، وهي تناقضات بارزة لدى بعض تيّارات اليسار نفسها.

كان تركيز كل التعليم الفلسفيّ في قسم واحد عند نهاية الطَّور الثانوي. وهو، بدءًا، امتياز لطبقة اجتماعية معيّنة، وحقيقة مؤكدة إلى حد ما... وساهم نظام البكالوريا "الأساسيّة" في تدعيم هذا الفعل اللاديمقراطيّ. وفضلاً عن ذلك، فإنَّ إحداث "قسم الفلسفة" قد تمَّ في فترة كانت فيها "فلسفة" القِوى الاجتماعيّة المهيمنة قد باشرت عملها بطريقة إمبيريقيّة، ضمنيّة لكن فعّالة عبر الموادّ الأخرى.

ويمكن أن يشكّل إلزامُ تعليم الفلسفة بـ"القسم الأوّل" أولَ مكسب إيجابيّ، فإنه من الضروري الالتزام بإبقاء الفلسفة في كل "الأقسام النهائيّة"، ما دامت هذه المادّة قد أبعِدت عمليًّا عن الطَّور السابق برمّته. ويجب أن يكون هذا الإلزام شاملاً لكل الشُّعَبِ(العلميّة والتقنيّة والأدبية) وذلك بمعدّل ثلاث أو أربع ساعات في الأسبوع.

 

نداء من أجل جمعيّة عامّة للفلسفة

المطلب الفلسفي يتحرّك ويحفّز على الحركة. تؤكّد ذلك النقاشات التوجيهية لليونسكو. إنَّ هذه الدَّفعة قويّة، تتجلّى عبر أشكال جديدة، وفي ما وراء السياجات المؤسّساتية والمعايير الأكاديميّة وداخل الأوساط الاجتماعيّة، والأعمار التي ظلّت مبعدةً إلى حدِّ الآن.

وقد تجلّى هذا الأمر، بوضوح، في كل مكان.. في المدرسة والجامعة، وضمن أشكال التعليم المتنوعة(تقنيّة وأدبيّة وعلميّة وقانونيّة وطبيّة...)، وفي مجال النشر والصحافة والإذاعة والتلفزة وفي كل الممارسات الفنيّة والنقاشات حول التوجيهات الأساسيّة للمجتمع...

ويتزايد عدد المنخرطين في هذه العمليّة، على الرغم من عدم احترافهم للفلسفة. إلاّ أنَّه هناك تباينٌ مرعِب بين هذه الانطلاقة الرائعة والفلسفة الرسمية للتربية(!). فالحكومة مستمرّة في ترسيخ الإجراءات الهادفة إلى القضاء على التعليم والبحث الفلسفيَّينِ. لم تعُد مقتصرةً على نظام البحث والتعليم، وعلى ما نعتبره هيئةَ المادّة، بكفاياتها ومعاييرها ومهنتها ومؤسّساتها؛ بل تتعلّق كذلك بنظام التربية، وبشكل أوسع، بكلّ ما ينتظره المجتمع من تعليمه وبحثه.

تأويل الأشكال المختلفة للحملات ضدّ الفلسفة، تتضمن دومًا مراميَ ونتائجَ سياسيّة مشؤومة. نطالب كل من يشاطرنا قلقَنا وأملَنا وغضبَنا بالالتقاء في إطار الجمعيّة العامّة للفلسفة، ابتداءً من تاريخ 16 حزيران 1979.

الأمر لا يتعلّق بإبراز المعطيات والآفاق المشؤومة للسياسة الرسميّة فحسب، ولا يتعلّق كذلك بمحاكمةٍ وبردِّ فعل أو بانتفاضة من أجل ضمان الشروط الفوريّة لبقاء الفلسفة فحسب؛ بل عمل شيء آخر وبطريقة أفضل، من أجل الفلسفة.

 

لوحة سوداء

مطلوبٌ تجميع بعض المعطيات التي يحاول النظام إدراجَها طيَّ الكتمان أو تشتيتَها في الظلام. ويجب أن نعلَم أنَّ القانون المتعلّق بإصلاح النظام التربويّ لم يحدّد سوى إطار عامّ ومبادئ بيداغوجيّة. أما مضمونُ التعليم الثانويّ، مادّةً تِلوَ أخرى، وجدولةُ توقيتِها؛ فلم توضعْ أغلب التدابير المتعلّقة بهما بعدُ.. ذلك بطلب ملحّ من الحكومة(!)

هكذا، فإنَّ المراسيم التطبيقية هي التي ستحدّد مصيرَ الفلسفة في التعليم الثانوي. فإن تأثير ذلك سيبرز فورًا على التعليم والبحث الجامعيَّين. فمسألة الفلسفة لا يمكن ولا يجب أن تعالَج باستقلال عن الاقتصاد العام للإصلاح. نجد أنفسنا مجبَرين على الصّراع.

والجانب الأسوَد في المشروع(الساعات الثلاث الإجباريّة)، فإنه سيعجّل بهذه التّصفية. وستكون نتائجه الحتميّة كتالي:

1-    "البطالة الجزئيّة" للأساتذة العمليين(بحوالي 20% من حجم الساعات المخصّصة حاليًّا) والتسريح الفوري للمعلمين المنتدَبين.

2-    ازدياد وشبه تعميم للخدمات التعليميّة الموزَّعة على مؤسّسات عدّة، وفي الغالب على بلديّات محلّية.

3-    التوقّف الفوريّ عن توظيف أساتذة الفلسفة، وتعليقُه لسنوات عديدة. وهذه النتيجة تتجاوز الفضاء الذي يمكن أن تتطوّر فيه المطالب المهنيّة بشكل مشروع؛ فإلغاء امتحان الكفاءة المهنيّة لسنوات عدّة، وتحويلُ التبريز إلى مباراة للتوظيف الداخليّ المفتوح على الأساتذة الرسميِّينَ وخرّيجي المدارس العليا فحسب، سيؤدّيان إلى تلاشٍ حتميٍّ للتعليم الجامعيِّ وللبحث اللَّذَينِ لا يمكنهما الحياة والنموّ بشكل طبيعيّ، إلا بفعل حاجة التعليم الثانويّ إليهما. وسيكون الاختلاف حتميًّا داخل نوع من الأكاديمية أو النزعة الأكاديميّة، بحيث ستدرّس الفلسفة كلغة ميّتة، من طرف مختصّينَ قلائل.. في التشريح(!)

ولمواجهة المشكلة؛ يتعيّن إيقاف هذه العمليّة الكارثية لتقطيع الأوصال، باتباع شروط هي:

1-    الزيادة في المناصب بالمباريات وفق إعادة تحديد للحاجيات وعلى أساس عدد أقصى لا يتجاوز 25 تلميذًا في القسم.

2-    توقيت إجباريّ لا يقلّ عن 4 ساعات للفلسفة تهمّ تلاميذ الثانويّات الكلاسيكيّة والحديثة، التقنيّة والمهنيّة.

3-    الحفاظ على مناصب أساتذة الفلسفة العاملين حاليًّا بالمدارس العليا للأساتذة.

أما على المدى المتوسّط، فإنَّه يتعين تمديد تعليم الفلسفة على السلك السنويّ برمّته، من الثانية إلى القسم النهائيّ.

  

الرّقابة.. والعقل.. والجامعة

الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط

يُرام في هذا المجال إبراز بعض نقاط الارتكاز الدالّة لقياس التحوّل الطارئ على الإشكاليّة المطروحة. الذي يُهمّنا بالأساس شرط الفلسفة داخل جامعة الدولة وصورة الفيلسوف الموظّف في هذا الإطار. سنتحدّث عن الرقابة كمؤسّسة، داخل الجامعة أو على تخومها. هل يمكن أن يخضع العقل للرقابة؟ وهل من اللازم أن يخضع لها؟ ما هي الرقابة كسؤال نابع من العقل؟

يتحدّث كَنْت عن ضرورة ومشروعيّة الرقابة، فالقداسة العقلانية للقانون الأخلاقيّ يجب أن تكون مجالاً لأكبر احترام. إنَّ عالِم اللاهوت الذي يمارس الرقابة على الكُتب يمكن أن يعيَّن ويوضَع ويكلَّف ويوظَّف وينالَ أجرتَه من طرَف الدولةِ بالاتفاق مع الكنيسة، وبذلك فهو يقوم بوظيفتَينِ من أجل تحقيق غايتَينِ، فبإمكان نفس الشخص الانتماء إلى مؤسّستَينِ، أي أن يعيَّن رقيبًا من منطلَق أنه رجل دين يهتمّ بخلاص الأرواح أو من منطلق أنه عالِم يهتمّ بخلاص العلوم.

يبدو على الخصوص عندنا(في الغَرب) أنَّه لم تعد هناك رقابة بالمعنى الصارم، فالجامعيّون لا تُمنع خطاباتهم الشفويّة أو المكتوبة، من الصدور، بفعل قرار حكوميّ(مَلَكيّ تحديدًا). لكنّنا سنكون ساذَجِينَ إذا ما اعتبرنا أن الرقابة قد اختفت، على الرغم من الإحالة على تعريف كانط الذي يعتبرها "نقدًا متوافرًا على القوّة" يمنع ويحدّ ويجبُر الفكرَ المكتوب أو الكلام، على الصمت. فالذي تغيّر هو شكل استعمال هذه القوّة، ومكانُ وآلية تطبيقها وتوزيعها؛ ذلك أنَّ هناك "موضوعات" لا يمكن دراستُها ولا تحليلها ولا الاشتغال عليها في بعض شُعَبِ الجامعة.

إنَّ الرقابة يكفيها أن تحدَّ من مجال تفاعل المتلقِّينَ أو من عمليّة التبادل بشكل عامّ. واليوم الرقابة تتمّ عبر شبكة متنوّعة، ذلك أنَّ سلطتَها المانعة تقترن بهيئات أخرى، بمؤسّسات البحث والتدريس الوطنيّة والدوليّة، بسلطة النشر.. بوسائل الإعلام...

مثالاً؛ عندما تقترح مؤسّسةُ مثل المعهد الدوليّ للفلسفة، القيامَ بأبحاث رائدة، لم يسبق لمؤسّسات أخرى(فرنسيّة أو أجنبيّة) القيامُ بها. فالأمر يتعلّق بإعطاء الأولويّة لتلك "الأشياء" التي لا يُسمح بقولها أو فعلها في المؤسسات الحاليّة، ونقصد بذلك، الحقل الجامعيّ وشبه الجامعيّ والإصدار والصحافة ووسائل الإعلام الأخرى والأنظمة الجديدة للتوثيق... فعدم منح "الشرعيّة"، وعدم توفير الوسائل لمؤسّسة ما، كي تقومَ بنشاطها، هو نوع من الرقابة. إمكانية الرقابة وضرورتها ومشروعيّتها تبرز، إذن، حينما تتدخّل المؤسّسة وتتوسّط بين العقل الخالص في أسمى أشكالِهِ(أي العقل الخالص العمليّ)، وبين القوّة الموجودة تحت تصرّف الدولة.

ومن الممكن القول إن المؤسّسة لا تستعمل ولا تخضع للرقابة، لسبب بسيط هو أنه لا يمكن بناء مفهوم المؤسّسة بدون إدراج وظيفتها الرقابيّة. ولن تكون القوانينُ الخالصة للعقل العلميّ ملزِمة إلاّ إذا كانت قائمة على احترام حرّ.

وحينما يفقد سموّ العقل الأخلاقيّ "قيمتَهُ" بوجودِهِ بين أيدي الإنسان، فإنه يتعيّن فرض الاحترام من الخارج بفعل "قوانين الإكراه"، فمحدوديّة الإنسان وقصوره، هما الداعيان إلى فرض القوانين.

الأمر يتعلّق دومًا بالرقابة كمؤسّسة تابعة للدولة، تتوافر على قوّة عموميّة وتقوم بأفعال ذات تأثير عامّ، بحيث يتمّ تعيين لِجَانٍ معروفة ومركّزة لهذا الغَرَض.

وقد سعى كانط إلى شرعنة العقل التبريريّ للدولة، كعقل رقيب، له الحقّ في ممارسة الرقابة وفق شروط وحدود معيّنة. لكنّه أراد، من جهة أخرى، تحريرَ العقل الخالص نفسِه من كل سلطة رقيبية، فهذا العقل مطالَب من حيث المبدأُ بعدم ممارسة أيّ رقابة، وعليه الانفلات منها. إنَّ هذا الحدّ بين العقل الذي يمارس الرقابة والعقل الغريب عنها، يمرّ داخل الجامعة نفسها بين ضربَينِ من الكلّيّات: الكليات العليا(تتضمّن كليات اللاهوت والحقوق والطِّب)، المرتبطة بسلطة الدولة والممثِّلة لها، والكلية السُّفلى(كلية الفلسفة) التي يتعيّن عليها ألاّ تخضع لأيّ سُلطة، إذ يكفيها أن تمارِس القول دونَ الفعل، وأن تقول الحقيقة دونَ إصدار الأوامر، وأن يتمّ قولُها داخل الجامعة لا خارجَها. فأدّى هذا الحدّ الغريب إلى تناقضات حاولَ كَانط حلّها ضمن صراعات قابلة بدورها للحلّ؛ حيث ميَّز بين الصراع والحرب، فهذه الأخير وحشيّة وطبيعيّة، وهي لا تحيل على الحقّ ولا على أيّ هيئة مؤسّساتيّة للتحكيم؛ أمّا الصراع فهو تناقض منظَّم، متوقَّع وَمُقَنَّنٌ، وهو منتظِم لأنَّ الأطراف المتخاصمة مطالَبة بالمثول أمام هيئة للتحكيم.

في إمكان الفيلسوف وكلية الفلسفة، معرفةُ كل مجالات الكليات الأخرى. ذلك أن كلية الفلسفة تشمل حقل المعرفة وكل الحقول المهتمّة بالحقيقة. وقد عبّر كَانط عن ذلك صراحة في كتاب صراع الكليّات بقوله: "تتضمّن كليّة الفلسفة قسمَين: قسم العلوم التاريخيّة(ويشمل التاريخ والجغرافيا واللّسَانيّات والإنسانيّات مع كل ما تقدّمه العلوم الطبيعيّة من معرفة تجريبيّة) وقسم العلوم العقلانيّة الخالصة(ويشمل الرياضيات الخالصة والفلسفة الخالصة وميتافيزيق الطبيعة والأخلاق)؛ وكذلك العلاقات المتبادلة بين هذين القسمَين. وهي تشمل، إضافة إلى كل ذلك، كل أجزاء المعرفة الإنسانيّة؛ ما يعني ـ من منظور تاريخيّ ـ الكليات العليا- مع فارق أساسيّ، هو أنها لا تجعل من هذه الأجزاء، أي الموادّ الدّراسيّة أو الوصايا الخاصّة بالكلّيّات العليا، مضامينَ لها، بل موضوعاتٍ للفحص والنقد من أجل مصلحة العِلمِ. لذلك، فإنَّ في إمكان كليّة الفلسفة أن تطالب بحقّها في كل الموادّ الدراسيّة، لإخضاع حقائقها للفحص. ولا يمكن أن يمارَس عليها المنعُ من طرَف الحكومة، اللهم إذا ما كانت هذه الأخيرة، تسلك ضدًّا على غايتها الخاصّة والأساسيّة."

وزادَ كَانط، في ذلك؛ أنَّ هناك المعلّم(وهو غائب)، لكن لديه عشيقة(هي الميتافيزيق). ويقدّمها ككانط عاشقةً محبوبةً يتمّ الرجوع إليها دومًا بعد الخصام. وعاشقة المعلّم هذه، هي كذلك رقيب داخل شُعبة أو كلية الفلسفة- هي بمثابة رقيب دون قوّة عموميّة، بل إنَّها تمارِس رقابَتَهَا ضدّ رقابة الدولة؛ رقابة ضدّ الرقابة، رقابة العقل لخدمة العقل وليس ضدّه. لكنْ بتحديدِنا هذه الميتافيزيق العقلانيّةَ رقيبًا، نكون قد اعترفنا بالبُنية الرقابيّة للعقل".

هكذا سيظلّ النقاش مطروحًا حولَ أفضل رقابة. فبالنسبة إلى المعلّم، أو للكائن الفاني، ليست هناك رقابة مرفوعة، بل مجرّد حساب استراتيجيّ، تتصارع فيه رقابة مع أخرى.

 

*كاتب وإعلامي لبناني.

 

الكتاب "عن الحق في الفلسفة"

المؤلف: الفيلسوف الفرنسيّ جاك دريدا

ترجمة د. عز الدين الخطابي؛

الناشر: المنظمة العربية للترجمة – بيروت