كيف أسَّس "المسيح الفيلسوف" العلمانية الحديثة؟
رغم الشِّقاق الذي تُبديه العِلمانية الحديثة عن الدين، إلا أن جذورها تكمن في فلسفة المسيح. كيف ذلك؟
رغم الشِّقاق الذي تُبديه العِلمانية الحديثة عن الدين، إلا أن جذورها الفكرية، بما فيها حقوق الإنسان، وحرية الضمير، وفصل الدين عن الدولة، جاءت نتيجة للعودة على نحو صريح أو ضمني إلى فلسفة المسيح، ورسالة الأناجيل الأصلية، حتى أنه يمكن القول إن فلاسفة الأنوار توصّلوا إلى تحرير المجتمعات الأوروبية من هيمنة الكنيسة، باعتمادهم هذا التعليم، فبدا مشروعهم العقلاني وكأنه "منظومة أخلاقية مسيحية".
حول هذه الفكرة يتمحور كتاب "المسيح الفيلسوف" لفريديريك لونوار (دار دلمون الجديدة/ ترجمة الأب إلياس زحلاوي)، وفيه يُفنِّد الباحِث الفرنسي التعارُض بين الرسالة الثورية للمسيح الساعية إلى تحرير الفرد من ثقل الجماعة والتقليد، وبين ممارسة المؤسَّسة الكَنَسية التي انتهت إلى إنكار هذه الحرية الداخلية، والاستسلام لمَفْسَدة السلطة والمال، وذلك منذ أصبحت المسيحية هي الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية عام 313 م، وليس انتهاءً بتسلُّط محاكم التفتيش فـ"بعد أن كان رجال الكنيسة مُضْطَهَدين بسبب إيمانهم، أصبحوا مُضْطَهِدين باسم إيمانهم" حسب توصيف لونوار، وكنتيجةٍ لذلك فإن "فلسفة المسيح"، أي أعمق ما في تعالميه الأخلاقية، لم تعد تصل الناس من بوابة الكنيسة، وإنما عادت إليهم عبر شُبَّاك النزعة الأَنَسيّة، التي ميَّزت عصر النهضة والأنوار.
يقول لونوار: "قَلَبَ يسوع جميع القواعد الأخلاقية التي كان يُعمَل بها قبله، فحدَّد نمطاً جديداً من العلاقة، ليس بين الإنسان والله وحسب، ولكن بين البشر أنفسهم، كي يؤسِّس نمطاً جديداً من الحياة، لكن القواعد التي أطلقها تجاوزت حقل المسيحية الديني، لتؤسِّس أخلاقية نعتبرها اليوم في الغرب، عمومية وعِلمانية: من المُساواة بين جميع الناس، والتي تُعارِض القواعد الاجتماعية في زمانه، بل هي تُعارِض حتى شريعة موسى، إلى الأخوّة ومفهوم الغيرية الذي شكّل ثورة حقيقية أعلنها المسيح بأن أياً كان هو قريبي، إلى حرية الاختيار التي يبرزها في كل تعاليمه، موضحاً أن ما من حتميّة أو قدريّة تستطيع أن تمسّ إمكانية الإقدام على بعض الاختيارات الأساسية للإنسان، وإلى رَفْعِ شأن المرأة، والعدالة الاجتماعية، واللاعُنف، وفصل السلطات بين روحية وزمنية".
يبدأ الكتاب بوضع المسيح وجهاً لوجه مع المفتّش الأكبر، ضمن رائعة فيودور دوستويفسكي "الأخوة كرامازوف"، مُبرزاً مقولة المفتّش ليسوع "لماذا جئت لتُربِكنا؟"، ليؤكّد كيف رفضت الكنيسة دعوة المسيح للحرية باسم الضعف البشري كي ترسي قوَّتها.
وعبر مواجهة أخرى للمسيح مع المرأة السامريّة، كما رواها إنجيل يوحنا، يُلخِّص الكاتب ما أسماه "حرية المسيح في انعتاقه من الإدانة والأفكار المُسْبَقة، وحرصه على التحدّث مع المُهمّشين والمنبوذين". فتلك المرأة، بتعبير لونوار، كانت "محطّ احتقار ثُلاثي: من قِبَل الرجال بوصفها امرأة، ومن قِبَل اليهود بوصفها سامرية، ومن قِبَل النساء الأخريات، بسبب مجونها". لكن يسوع بلقائها يُفجِّر الاحتكار الديني، وينسف الخطاب المُبرِّر لكل تقليد، وادعاؤه بأنه مركز الخلاص، والطريق الإلزامي إليه.
بمعنى أنه يساعد الإنسان على تجاوز "الديانة الخارجية" التي هي بالضرورة جمعية وتنافُسية، ليزجَّه في الروحانية الداخلية، وهي في جوهرها شخصية وعمومية، مُبيناً عدم ضرورة أية وساطة مؤسَّساتية، ولا أيّ عمل ذبائحي، أو طقس أو تقليد، للوصول إلى الحرية طالما أنه يمتلك العقل والإرادة، حيث يقول لونوار: "ما من شكّ أن المفتّش الأكبر لم يكن مُخطئاً عندما قال ليسوع إن الكائن البشري هو مُتمرِّد، لكنه مع ذلك يؤثِر الأمن على الحرية، هذه العطية البائسة التي تسبّب له مثل هذه الآلام، وكان لا بدّ من انتظار خمسة عشر قرناً، كي يختمر مُقتضى الحرية هذا، إلى حدٍ لم يعد يحتمل معه أمن السيطرة الكَنَسية، فيُعيد للفرد استقلاليّته، وتالياً حريته الحقيقية في علاقته مع الله، والتي بدل أن تستعبده فإنها تُحرِّره".
إن انتقال مثل تلك الأفكار إلى الحَداثة الغربية وشرعة حقوق الإنسان، لم يبدأ في عصر الرُّسُل والكنيسة الأولى، لكنه جاء نتيجة التوفيق الذي افتتحه بعض مُثقّفي القرون الوسطى، بعدما سَحَرهم ثراء الثقافة الكلاسيكية، فسعوا إلى التوفيق بين الفلسفة الإغريقية والعقيدة المسيحية، بين العقل والإيمان، لا سيما منهم أصحاب النزعة الأنسية التي تضع الإنسان في مركز الوجود كله، بالتأكيد على كرامته وحريته وقُدراته المعرفية، ومنهم رينيه ديكارت صاحب "العقل الناقد" و"استقلالية الفرد"، وأوغست كونت الذي "أسّس ميتافيزيقيا الأخلاق" التي تحلّ فيها الأوامر المُطلقة التي يُمليها العقل محل الشرائع الإلهية، وجون لوك الذي نافَحَ ضدّ الإلحاد الذي "يُغْرِق المجتمع في الفوضى والضياع"، ومثله فولتير الذي اتّهم السلطات الدينية أو "الطُغاة المُتاجرين بالأرواح" بصناعة المُلحدين، وفيورباخ وماركس وفرويد ونيتشه الذين انتقدوا المسيحية انتقاداً جذرياً، وصمَّموا على تعرية الديانة بوصفها استلاباً فرديا ًوجماعياً.
يقول لونوار: "إن الحداثة التي ولِدَت في الغرب، لم تستطع أن تنمو إلا في ختام سيرورة طويلة من الاختمار، داخل رَحْمها الديني الخاص - المسيحية - ثم في تحرّرها منه، وانقلابها عليه، فلم تعد الديانة هي ما يؤسِّس عِلم الأخلاق، بل العقل البشري، وبذلك نستطيع القول إن أَنَسيي عصر الأنوار منحوا أخلاقية المسيح الروحية تجسيداً زمنياً، أو جسداً كانت تفتقر إليه. ليأتي الانقلاب الهائل الذي أعقب حلول الحَداثة، بما يعنيه من نَبْذِ المُحدثين للديانة المسيحية التي كانت رَحْم القوى الكبرى الموجّهة للحَداثة، تأكيداً على مقولة المُفكِّر الفرنسي "مرسييل غوشيه" بأن المسيحية كانت، تاريخياً، ديانة الخروج من الديانة".
لكن المُتَتبِّع لسيرورة الأمور سيُدرك أن المؤثّرات الكبرى في العالم الحديث، من استقلالية الفرد، إلى العقل الناقِد،... بعد أن انعتقت من الرَحْم المسيحي، أثَّرت بدورها عميقاً في إيمان الإنسان الغربي، وسلوكه الديني، إذ تعزَّز، بحسب لونوار، ما يمكن تسميته "التّديُّن الشخصي"، بعيداً عن إجراءات المؤسَّسات الدينية، والذي تسارع بفضل سيرورة العولمة، بعدما أدرك قسم كبير من الغربيين بأن هناك حقائق أساسية موجودة في دياناتٍ كثيرة، ما جعل "الديانة في الحَداثة" موسومة دائماً بخاتم الشكوكية، وفي الوقت ذاته مفتوحة على تسامُحٍ خاص، يعترف بالشرعية لتعدُّد الأنظمة الفلسفية والدينية.
لكن منذ ثمانينيات القرن المُنصرِم، ونتيجة عَوْلَمة الشأن الديني، برزت نزعة إلى الانكفاء الهويّاتي، يسعى أصحابها إلى العودة إلى اليقينيات المنضوية تحت إطار جماعات قوية، الأمر الذي دفع المُفكِّر الفرنسي ميشل أونفريه إلى الحديث عن "إلحاد مسيحي" إثر إدراكه بأن عصرنا ليس بمُلْحِد، فهو لا يزال مسيحياً، ودعاه أيضاً إلى التأكيد على أن "الفكر العِلماني ليس بفكرٍ خالٍ من المسيحية، بل هو مسيحي في مضمونه، لكن أخلاقيّته المسيحية تجسَّدت في لغةٍ عقلانية، وفق نَسَقٍ مختلفٍ من المفهوم"، الأمر الذي يؤيِّد أطروحة كتاب "لونوار" بأن "رسالة المسيح أفلتت من الكنيسة، كي تعود إلى العالم تحت شكل مُعَلْمَن" حسب تعبيره.
ويُنهي الكاتب الفرنسي بحثه الذي جاء في 316 صفحة من القطع الكبير بسؤال: هل حُكِمَ على المسيحية بالزوال في الحَداثة الغربية؟ ليُجيب بأن "أزمة الكنائس التاريخية، وغير المسبوقة، من شأنها أن توحي بذلك، لكن هل يمكن تقليص المسيحية إلى أشكالها الدينية والمؤسَّساتية؟ أرفض هذه الفكرة، فالمسيحية ليست أولاً ديانة، بما فيها من عقائد وممارسات طَقْسية ورجال كنيسة، إنها قبل كل شيء، روحانية شخصية، وأخلاقية عُليا، ذات مرمى عمومي، وعندما تحوَّلت رسالة المسيح إلى ديانةٍ رسميةٍ للإمبراطورية الرومانية، تعرَّضت لفسادٍ واسع، لكنها وُلِدَت من جديد تحت شكل أَنَسيّة عِلمانية، وذلك بدءاً من عصر النهضة. فهي بدل من أن تكون خسرت معركة الأفكار، قد أثَّرت أكثر بكثير مما يُظنّ، في مجتمعاتنا العلمانية والدنيوية، فباتت الطريقة الروحية المسيحية اليوم في الغرب، مسألة أفراد تأثَّروا بشخص يسوع وكلامه، أكثر منهم بالعقيدة أو التقوى الجماعية".