"ياسمينا".. رانا أبي جمعة توثِّق ممرَّات العتمة
محمّلة هي رواية رانا أبي جمعة بـوجوه مهشّمة وبأنقاض نفوس اشتغلت الحرب الطائفية اللبنانية على حفر أوجاعها. لقد وضعت بين أيدينا أرشيفاً مكتملاً لضحية من ضحايا هذا المجتمع حفظت وجعها عن ظهر قلب فكتبته على الورق.
تُحيلنا رانا أبي جمعة إلى أكثر من ذاكرة مُخطَّطة بالكُحل العربي والديني والمجتمعي القاسي والمُضطرب في باكورتها الروائية "ياسمينا" الصادرة حديثاً عن "دار الفارابي" في بيروت.
مُحمّلة هي روايتها بـوجوه مُهشَّمة وبأنقاض نفوسٍ اشتغلت الحرب الطائفية اللبنانية على حَفْرِ أوجاعها بآلةٍ حادَّة، وقبل الحرب وبعدها كانت الشرائع الدينية "غير المُنزَّلة" تحكم خريطة البلاد بالمقصلة وتهزّها، فتتساقط منها كائنات معطوبة، لكن مُتشبِّثة بالحياة، بعد أن تمكَّنت تلك الشرائع من محو رغبتهن بالإيمان وحب الوطن من الجذور.
سجن، جهل، خوف، وجع بيروت، الحقيقة، أحزاب، غَدْر، طائفية، عِلمانية، مُحاسبة، إسطنبول، القانون اللبناني، والمجتمع، هذه الكلمات هي معجم رانا أبي جمعة اللغوي والحسّي الذي سنجده مكتوباً على غلاف روايتها الأسود بما يُثيره هذا اللون من شحناتٍ من الموت المؤجَّل، وما هو إلا جردة حساب للثقوب السوداء على وجه بيروت وأخواتها.
أما الإهداء فهو لتلك النفوس المُكثَّفة بطبقاتٍ من الفَزَع، وكذلك لأولئك الغَرقى "داخل زنازين الطائفية وأحزاب الحرب الأهلية"، أولئك الذين لا يدركون بأيّ مُستنقع هم، فالحزب الطائفي ليس سوى تلك المملكة المُغْلَقة والموحِلة.
المكان هو إسطنبول حيث "اللاخوف"، اختارت "ياسمينا" مقهى "بيروت" لتكتب حكايتها على الورق، ففيه "حنين إلى زمن قديم، سمعت عنه ولم تعشه، حين كانت بيروت أشبه بضيعةٍ والناس على اختلاف مشاربهم يتَّسمون بالطيبة والأمانة". هناك ستعمل "ياسمينا"على تحميض الصوَرالتي بقيت مُعلَّقة على حبلٍ في ذاكرتها. لا ندري كم أفرغت رانا أبي جمعة من نفسها في هذه الرواية. تبدو لنا القصة مأخوذة من مكانٍ وزمانٍ واقعيين. ثمة تبادُل للأدوار بين "ياسمينا" ورانا نفسها وهي تكتب عن "البلدان البارِدة حيث الدفء الذي لا يعكسه انخفاض درجات الحرارة، وهي المولودة في بلدٍ خليجي حار". لا تحتاج ياسمينا إلى نَبْشِ ذاكرتها لتكتب، تريد "شَطْف" ذاكرتها وحسب، "لماذا لا تتَّسع ذاكرة مَن هم على قَيْدِ الحياة إلا للذكريات المؤلمة؟ ماذا لو كانت الذاكرة مثل المنازل تُشْطَف وتُنظَّف وتُعطَّر من كل ما يثقل عليها؟".
"ياسمينا" من أسرةٍ لم تصل إليها "لوثة الطائفية كما حال معظم أبناء البلد"، تقيم الأسرة في منطقةٍ جبليةٍ محكومةٍ من قِبَل أحد الأحزاب اللبنانية. أما "ياسمينا" فتقيم في بيروت عند صديقتها زينة، وتعمل في دار نشر. قبل أن تحكي رانا عن "ياسمينا" ستلقي علينا مهمة استحضار صورة للمجتمع الغارِق في الطائفية "لأسبابٍ غير معروفة ينسى اللبنانيون في عيد الميلاد انتماءاتهم الطائفية، إنها واحدة من مُفارقات البلد، التي تجعله بلد العجائب.. لأيامٍ معدودةٍ تختفي الحواجز الطائفية والدينية"، و"سيارات وحافلات لنقل الركاب تُرْكن هنا وهناك بعشوائية تشبه اعتباطية إدارة البلاد، باعة ومتسوّلون".
إنه التجسيد الأوضح للقابعين على هَرَم السلطة اللبنانية الذين يُمثِّلون أبشع أشكال الطائفية والذين حوَّلوا الشعب اللبناني إلى مُتسوِّلين بأشكالٍ مُتعدِّدة.
25 كانون الأول/ديسمبر 2007 هو الزمن الأول للحكاية، الزمن الذي مرّ ولم يمرّ، يتّصل إياد بياسمينا ويطلب لقاءها، لا تحب ياسمينا إياد، إنها فقط لا تريد أن تجرحه لأنه قريبها، فهو المُغْرَم بها منذ الطفولة وهو المُنتمي "لجيل الحرب، لم يعش طفولة كاملة". عاش مُراهقة مُشوَّشة بعد غياب الأب ولم يتّسنَ له رؤيته بعد أن عاش الأب بين الخنادق بناءً لأوامر حزبه. تريد رانا أبي جمعة أن توثِّق إفرازات الحرب الأهلية على أبناء البلد. لم تكتفِ الحرب بما أحدثته من موتٍ وخرابٍ على مدى 15 عاماً، فقد انسحب ذلك الخراب إلى جيل الحرب الصغير، فأحدثت فيهم أنواعاً مختلفة من الأمراض النفسية.
"صدق كارلوس زافون حين قال: المستقبل يُقرأ بوضوحٍ في الشوارع والمصانع وثكنات الجيش أكثر ممّا يُقرأ على صفحات الجرائد"، تقول "ياسمينا" في سرِّها أمام مدخل ضيعة إياد بعد تعرّضها للضرب مراراً منه ومحاولة اغتصابها في أحد الفنادق. "يشبه حال البلدة هذه حال دول عربية عدّة، حيث يعيش الجميع في ظلّ ما يُعرَف بالأنظمة الشمولية ولكن بلبوسٍ ديمقراطية، فنسبة التصويت الانتخابية هي تسعة وتسعون فاصل تسعة وتسعون لمصلحة الزعيم ومُرشّحي حزبه. المُثير للسُخرية ألا فكاك من هذه الزعامات، فالولاء لهم يُشْرَب كحليب الأطفال منذ الصِغَر. ربما ذلك ما يجعل هذا المكان أشبه بسجنٍ على مقاس بلدة". هكذا تُشرِّح لنا الزميلة في الميادين إحدى تشوّهات بلادنا. لكن انتظروا،"للخطيفة أصول" يقول أهله له بعد أن أعلمهم أنه أخذها "خطيفة"، ولتطبيق الأصول عليه "أن يضعها في بيت أهله قبل أن يمسَّ شعرة منها أو يغتصبها"! والأصول تتطلَّب أن يحضر أحد من أهل الفتاة لإتمام الزواج "فالفتاة التي تُخْطَف تعود إلى بيت أهلها إمّا مُتزوِّجة أو مُحمَّلة في قبرها".
تفحص"ياسمينا" خلال اختطافها مخزونها الشخصي من الحياة والأشخاص والأمكنة، تفتشّ عن معنى لهذه الهوّة التي تقيم فيها: "يُقال إن العالم خُلِقَ على مبدأ التبادُل، فكل امرئ يُكافأ على ذرَّةٍ خيرٍ يفعلها ويُعاقَب على كل ذرَّةِ شرٍّ يفعلها. تُرى ما الذي فعلته لتستحق كل هذا؟"، وستفكّر "ياسمينا" بحبيبها فادي القابِع خلف البحار، وبأنها "شخص صالح، لذلك لن يكتمل عقد القران"، لكنها ستُجْبَر على الزواج من دون حضور أهلها.
سينتقلان إلى شقَّةٍ لوحدهما، وهناك سيرمي جثته عليها وسيفضّ بكارتها بنشوة المُنْتَصِر أما هي "فلا تعرف كم من الزمن مرّ وهو يُكرِّر محاولاته"، وسنكون نحن أمام مشهدية بصرية مؤلِمة لموتٍ مُحتَّم بين جسد إياد وسؤال والدته عن "فوطة العذرية" التي من المُفْتَرض أن تكون مُلطَّخة بالدم. تمرّ رانا أبي جمعة من خلال "ياسمينا" على اعتقاداتٍ راسِخة فينا تُبيِّن لها أنها على خطأ، وعلى تقاليد أمعنت في دفن الفتيات وهنّ على قَيْدِ الحياة. لربما نحتاج نبّياً آخر، فثمّة جاهلية أخرى هنا، ووأدٌ من نوعٍ آخر.
خضوع "ياسمينا" لإياد وتحقيق انتصاره جعله يسمح لها في اليوم التالي بالذهاب إلى عملها. ستُحْضِر لها صديقتها زينة حبوباً مُسكِّنة للموت، هي حبوب لمنع الحمل. لكنه في اليوم التالي لن يسمح لها بالذهاب إلى العمل ثانيةً، ومنعها من مُحادثة أيّ شخص، وسيُقدِم على تعنيفها مراراً على مسمع الجيران. ستدخل "ياسمينا" في سجنٍ آخر، "أتُراها تُودِّع جزءاً منها مع كل يوم يمرّ على هذه الحال؟".
تعمل رانا أبي جمعة بين الصفحة والأخرى على تظهير صوَر مُلْتَقطة من مجتمعاتنا "ألا تعيش النساء المُعنَّفات بيننا ولكننا نتغافل إلى أن تصبح خبراً في نشراتنا المسائية". تحاول أبي جمعة أيضاً الدخول في سيكولوجية أولئك الأفراد الذين ولِدوا في أعوام الحروب؛ ثمة مشهدية مُضادَّة للحقد على إياد، نوع من الرأفة بالقاتِل وبأنه أيضاً أحد الضحايا، فالأطفال أكبر الخاسِرين في الحروب، "هل نحن أبناء العام الذي أبصرنا فيه النور؟ هل كنا أنا وهو ضحية عداوات الأجيال.. كيف نكون أبناء عام مولدنا إن كنا جميعاً لا نفقه الحديث إلا عن الحروب، إسرائيلية كانت أمْ أهلية؟ وإنْ لم نتحدَّث عن حربٍ مضت سنتحدَّث حتماً عن الحرب المقبلة المُرْتَقبة حتماً".
ستُقدِم "ياسمينا" على محاولة الانتحار عبر ابتلاع كل حبوب منع الحمل التي بحوزتها، وفي المستشفى ستتلقَّى العلاج لكن لن تتصل إدارة المستشفى بالشرطة لمعرفة أسباب ذلك، فالمستشفى تابعة لنفس الحزب الذي ينتمي إليه إياد؛ هي صورة فوتوغرافية أخرى عن قُدرة الأحزاب اللبنانية على إخفاء جرائمها.
وفي الوقت المُسْتَقْطَع للموت بعد عودتها ستبحث "ياسمينا" عن طريقةٍ للنجاة من إياد الذي سيُمارِس معها فعل الهدم مراراً وهي تلوذ بهامش الحياة أكثر، يُقيِّدها ويُجْبِرها على مشاهدة أفلام إباحية "منسوب مرتفع من الغرائزية تجعل الإنسان أحطّ قدراً من أيّ مخلوقٍ آخر في هذا العالم"، يُقدِّم لها هدية كاميرا ثم يُدير فتحة العَدَسة لتسجيل مشاهد الاغتصاب بين الزوجين. وبعد لعب دور المُسْتَسْلم للحياة الجديدة سيُخفِّف إياد من قيوده عليها، فلا يقفل الباب عند خروجه بعد أن تطبع بملء إرادتها قبلة على خدّه.
ومن هناك ستبدأ رحلة الهروب إلى زينة أولاً، وبعدها إلى أمكنة بعيدة عن مرأى إياد. سترفع دعوى طلاق عبر محامٍ مُتخصِّص بالمحاكم الشرعية، ومن هناك أيضاً ستبدأ رحلة الآلام الأخرى.
"كل ما في دول العالم الثالث يسير ببطءٍ مُميت، الأبطأ كانت جلسات المحاكم"، لا يمكن مُلاحقة إياد، فثمَّة مادة في قانون العقوبات اللبناني تعود للعام 1948 تنصّ على أنه إذا عُقِدَ زواج صحيح بين مُرْتَكِب إحدى الجرائم (الاغتصاب، الخطف...) وبين المُعتدى عليه تتوقَّف المُلاحقة!
ومن جلسةٍ إلى أخرى ومن قاضٍ إلى آخر ستُعيد "ياسمينا" شريط الصوَر التي مرَّت على جسدها منذ الصفعة الأولى داخل السيارة يوم اختطافها لكن "الحقيقة هي التي تُروى مرة واحدة وتتكرَّر كأنها تسجيل صوتي".
تطرح أبي جمعة هنا إحدى حكايا القتل الذي يُمارَس على النساء بين جُدران المحاكم الشرعية على أيدي رجال دين تدرَّبوا على ذلك جيّداً، لا تهتزّ أصابع أيديهم وهي تخطّ أحكام الموت، ولا ترجف أصواتهم المُخيّطة تماماً على قياس الرجل، فهو انحياز مشرَّع دينياً، إنهم لا ينسون تمرير المقصلة بقدر ما يستطيعون، هناك فقط داخل تلك الجُدران نؤمِن ألا وجود للعدالة الإلهية، وهناك ثمة أشجار تُقْطَع وصُوَر جماعية لنسوة فقدن سنوات أعمارهن وأطفالهن من دون إنسانية، صُوَر تظهر فيها الآلام بكثافةٍ عالية، تلك الكامنة في المناطق الحسَّاسة للمادة الفوتوغرافية، "المحكمة الشرعية" المعنية بالأحوال الشخصية لا تضع الاعتبارات الإنسانية في حساباتها. تقبض على رقاب الأحياء، تُمْعِن في سرقة أيام مَن هم في عِداد سيِّئي الحظ الذين أرغمتهم الحياة على تسوية أوضاعهم الاجتماعية بين هذه الجُدران الخانِقة".
ستمرّ خمس سنوات من عُمر "ياسمينا" قبل أن تحصل على الطلاق، "أكاذيب تتوالى كما الجلسات. اكتشفت خلالها ياسمينا أن مهنة المُحاماة ليست دفاعاً عن الحق وصاحبه، إنما دفاعٌ عن الموكل وروايته".
حاولت "ياسمينا" في تلك السنوات صعود عتبات الحياة من جديد، لكن من دون جدوى. أما إياد فكان في تلك السنوات قد تزوَّج وأنجب كأن شيئاً لا يحدث بين جُدران المحاكم الشرعية. وأول ما فعلته "ياسمينا" بعد حصولها على الطلاق هو استكمال إجراءات الهجرة كي "ترحل فلا تعود إلى وطن الكائنات المُهشَّمة"، فالبلاد الغربية تحمل أمناً "فقدته بشكلٍ كاملٍ بعد حادثة الخطف".
قبل أن تنهي أبي جمعة روايتها ستسرد لنا ممرات العتمة بعدسةٍ مُقرَّبة في جردة حساب أخرى لهذه البلاد "في هذه البلاد نأتي على الحياة ونخاف على رضا الأمّ ونخاف من غضب الأب، نخاف من حسد الأقارب وطَعْن المُحيط، ونخاف من نَبْذِ الطائفة ونخاف من البقاء خارج القبائل السياسية. نخاف من أحكام المجتمع ونخاف من قصاص يوم القيامة. نخاف من موتٍ مجاني على الطُرقات. ونخاف من موتٍ بطيء من التلوّث. نخاف من رصاصٍ طائشٍ في الأفراح ومن رصاص الفِتَن. ونخاف من شظايا الحروب. نولَد ونعيش ونموت ونحن خائفون من الخوف".
"قد يكتب المُنتصرون التاريخ السياسي، ولكن قد يكتب ضحاياهم التاريخ المجتمعي من خلال قصص تُروى وتُقرأ، لا مفرَّ من ذلك"، تكتب رانا أبي جمعة التي وضعت بين أيدينا أرشيفاً مُكْتَملاً لضحيةٍ من ضحايا هذا المجتمع حفظت وجعها عن ظهر قلب فكتبته على الورق. ثمة حكايا أخرى مدفونة، "يريد الموتى أن يقولوا شيئاً لا يتنفسّون لكنهم لا يزالون يحتفظون بأصواتهم" يقول توماس ترانسترومر، أصوات لم تخترق جُدران البيوت وأبوابها، أمعنت الطائفية وما أفرزته من حربٍ أهليةٍ ومحاكم شرعية في تلقيحهم بالأسى والشقاء، في مجتمعٍ مُعَدّ مُسْبَقاً للموت ما دامت الأحزاب والطوائف المُنتصِرة هي التي تحكم قَيْد النفوس وقَيْد الأرواح.