أنا أخذ سيلفي.. إذن أنا موجود

لم يعد السيلفى حكراً على نجوم الاقتصاد والسياسة والفن والإعلام والرياضة فقط. بل هي ممارسة متاحة لجميع المواطنين. فغير المشهورين يمكنهم أن يصبحوا نجوماً معروفين كونياً فى ثوانٍ.

  • كتاب
    كتاب "أنا اوسيلفي إذن انا موجود"

يعتبر كتاب "أنا أُوسيلفي إذن أنا موجود" للفيلسوفة وعالمة النفس الفرنسية إلزا غودار، من أهم الكتب العالمية التي تبحث بطريقة علمية وسيكولوجية خطورة الهاتف الذكي "سمارت فون" وصورة "السيلفي". 

الكتاب يتحدث عن عن العالم الإفتراصي بصفة عامة، بما فيها عملية التصوير الذاتي (سيلفي)، أو تصوير العالم الخارجي. فظاهرة "السيلفي" استوقفت الكثيرين، خلال الأعوام الماضية، في محاولة تأملها وفهمها وإدراك دلالاتها.

تقول غودار عن  كتابها بأنه "طريقتي أنا باعتباري فيلسوفة ونفسانية وإمرأة وأماً، في مقاومة همجية عالم لم أعد أرتاح فيه. هو اقتراحي لكي يكون لهذا العالم معنى".

وتدق غودار ناقوس الخطر في كتابها فتقول: أصبح من الضروري فهم "ظاهرة السيلفي" ووضعها ضمن تفكير شامل حول ما يدبّر في الفضاء الإفتراضي الذي لا يتوقف عن التطور. لقد أصبح السيلفي، من خلال مظاهره المتعددة والتافهة، رمزاً لمجتمع في عز تحولاته، مجتمع يديره الشباب بفضل تمكنهم من التكنولوجيا الجديدة.

إن اختيار المؤلفة إلزا غودار "أنا اوسيلفي إذن انا موجود" عنواناً لكتابها، بديلاً لعبارة أساسية في تاريخ الفلسفة "أنا أفكر إذن أنا موجود" للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، تشير إلى أن السيلفي وصلت إلى مرحلة بالغة الأهمية: إنها تعبير عن رؤية جديدة لا يمكن تجاهلها في المستقبل. إنها تؤشر أيضاً على ميلاد ذات، يجب إعادة خلقها باستمرار كشرط لثورة جديدة.

و لا بد أن نشير إلى أن المقدمة التي كتبها مترجم الكتاب - المعروف في اختياره لأهم الكتب التي  تصدر كل عام - أستاذ السيميائيات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، بجامعة محمد الخامس في الرباط/ المغرب والمدير المسؤول لمجلة "علامات" المتخصصة في الدارسات السيميائية، الدكتور سعيد بنكراد، لا تقل قيمة عن الكتاب ذاته.

يقول بنكراد إن ما يحدث في مواقع التواصل هو الإستعراء الكامل: فما الفرق بين كيم كاردشيان، وهي نجمة مزيفة لا تملك من المواهب سوى "فيض من اللحم" تنشره في الفضاء الإفتراضي على مدار الساعة، وبين مجموعة من المتعلمين الذين يقضون اليوم بأكمله يتحدثون عن تفاصيل في حياتهم، كانت إلى الأمس القريب تعد جزءاً  من "حميمية" يحرص الناس على حمايتها من أشكال التلصلص.

يقول بنكراد إن موضوع الكتاب هو السيلفي الحاضن لكل أشكال الوهم والتيه والتضليل والقليل من حقائق العلم والحياة.

لقد أفرغ السيلفي وظيفة المتخيل داخلها من مضمونه التأملي والإستشرافي وحل محلها صوراً لا تنقل واقعاً، بل تقدمها اعتماداً على "رتوشات" تحسن الأصل أو تعدله أو تغطي على جوانب النقص فيه، وذاك هو موضوع "اللايكات" و"الجيمات" (الميمات) في مواقع التواصل.

صار التقاط صور سيلفي فعلاً أساسياً حاضراً في كل لحظة من لحظات الحياة اليومية..فقد أصبحت لقطة سيلفي قرينة لكل خطوة يخطوها الإنسان فى كل مجالات نشاطه اليومي...وتشير الأرقام إلى أنه فى نهاية 2018 تم رصد مليار وثلاثمائة انسان على ظهر الكوكب يحرصون على أخذ صور سيلفي لكل النشاطات التي ينخرطون فيها.

لم يعد الواقعي ملاذاً تحتمي به الذاكرة وتبحث فيه عن حقائق الوجود. بل أصبح يافطة برانية تنشرها العين في مواقع التواصل الإجتماعي. لقد أصبح "الأكل" و"المشي على الشاطئ" و"السفر" أحداثاً كبيرة. فأصبح تعليق عابر على حدث عابر "موقعة" حقيقية تنال من "الجيمات" و"اللايكات" ما لم يحظَ به ابطال التاريخ مجتمعين.

فلم يعد سيلفى حكراً على نجوم الاقتصاد والسياسة والفن والإعلام والرياضة فقط. وإنما ممارسة متاحة لجميع المواطنين. فغير المشهورين يمكنهم أن يصبحوا نجوماً معروفين كونياً في ثوانٍ معدودة، وذلك من خلال لقطة غير نمطية يتم تداولها بواسطة التقنيات الرقمية الذكية.

فسيلفي ترفع من قيمة سلطتنا الاجتماعية، وهو ما يضمن خلق لحظة شعبية مباشرة يستطيع فيها كل فرد أن يصبح مُخرجاً - مُوزعاً لصورته الخاصة، ويكون أيضاً ممثلاً في فيلمه، فالرغبة المعبّر عنها تكمن في تنصيب المرء نجماً، إنه يصبح بطلاً أيقونياً". وهكذا تتحقق شهرة عابرة للقارات لأشخاص بسطاء. وفي النهاية يتساوى الجميع فى جعل ذواتهم حاضرة عبر عديد الشبكات الاجتماعية المحلية والعالمية بكيف وكم مطلق لا حدود له.

وقد رصدت أحد مقالات صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية طريقة تعاطي الناس مع تفشي وباء كورونا ولخصتها في الآتي: بينما وباء فيروس كورونا المستجد يجعل العالم ينهار ببطء، فإن الناس كانوا يطلقون النكات على Twitter و TikTok و WhatsApp".

تتساءل غودار، كيف يمكن لموقف يبدو بسيطاً وعفوياً في بدايته أن يصبح دالاً على تحولات جذرية في علاقتنا مع أنفسنا ومع الاَخرين وإثارة الإنتباه إلى ممارسات نقوم بها من دون أن نفكر فيها في الغالب من الحالات، كما هو الشأن مع العبث الدائم بشاشة المحمول، كما لو أن الإفتراضي قد استغرقنا "رغماً عنا"، أو كما لو اننا أصبحنا "لعبة" من دون إرادة منا بيد الهاتف الذكي.

في زمن السيلفي لا تعتبر غودار أن العالم يتغير، بل طريقة إدراكنا له هي التي تغيرت. وتحقق ذلك من خلال ظهور وسيط بيننا وبينه هو هذا الشيء الهجين الحاضر دائماً، هو في الوقت ذاته الهاتف والشاشة والاَلة الفوتوغرافية والحاسوب الذي نصفه بـ"الذكي" ونسميه "سمارت فون".

يشير كتاب غودار "أنا أوسيلفي إذن أنا موجود" إلى أن الهاتف بات الشريك الأقرب للإنسان الحديث، مُحدثاً حوله دائرة أولى قبل أي علاقة بشرية، فيسهل الانسحاب من عالم العلاقات البشرية، وهو ما تمكن ملاحظته في أماكن التجمعات العامة كوسائل النقل أو الخدمات الاجتماعية، فتحضر الأجساد فيما تكون العقول في عوالم أخرى.

تؤكد غودار كعالمة نفس، أن  الشخص الّذي يلتقط الكثير من السيلفيات يفتقر إلى الثّقة في النفس، ويحاول طمأنة نفسه من خلال الإحالة على نفسه في صورة جميلة- يمكن أن يعود إليها دائماً لأنها مصوّرة، الوقت الذي يستعيد فيه شيئاً من احترام الذات. وهكذا، فإن السيلفي يمكن أن يكون تعبيراً عن هشاشة نرجسية، فيحدد أصحابها تفاصيلها، وأي انطباع يريدون تركه فى عيون الناظرين حول العالم الذى ننتمي إليه بتناقضاته المختلفة.

فتحت التقنيات الرقمية الذكية مسارات متعددة ومتشعبة لكسر كل أطر الأسر الإنساني المتعارف عليها تاريخياً. ما نتج عنه تحول نوعي لقدرة المرء على أن يعبّر عن ذاته خارج الإطار التقليدي الوظيفي المحدد سلفاً، إلى إنسان يعبّر عن ذاتيته بأريحية تامة وفق اللحظة وسياقها. فالسيلفي حررت الإنسان من مكانته الاجتماعية وموقعه الطبقي وقدراته الإبداعية. حيث كانت المكانة والطبقة والإبداع تحدد طبيعة الصورة التي عليه أن يظهر فيها.

ترى غودار أن تخصّصات كبرى مثل علم النفس والفلسفة لا تتنافى مع أهداف التنمية البشرية، التي حوّلها غير الملمين بها، خصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية، إلى اتجاهات تسويقية جعلت من العلماء ينفرون ويترفعون عن أي تقاطع معها. وتطالب أن تجدد التنمية البشرية نفسها بجديد العلوم الإنسانية والطبيعية لتحافظ على وجودها واَفاقها. 

وتعتبر غودار أن من الأخطار التي يتعرض لها التحليل النفسي أن يصبح مجرد طريقة علاج، بحيث ينسحب المحللون من الأفق الإنساني الأشمل ليبيعوا خبراتهم إلى زبائن في حاجة إلى مهدّئات ومسكّنات.

نشير إلى أن إلزا غودار، هي محللة نفسانية شابة، من مواليد سنة 1978، وقد صدر كتابها هذا باللغة الفرنسية عن دار نشر ألبان ميشيل في باريس.  وتم نقله إلى اللغة العربية وأصدره المركز الثقافي للكتاب في المغرب وبيروت.