نبض الأزرق: نبض الروح الحالمة بعالمٍ أفضل
تخلق لغة عبير علَّام عالماً خاصّاً بها؛ عالماً آخر يسير بموازاة هذا العالم فلا ترغبُ في عيش الواقع مرة أُخرى، وإنَّما تلجأ إلى الأدب عالَماً بديلاً مختلَقاً.
تكتب عبير حسن علَّام تجربتها الشعورية في كتاب "نبض الأزرق"، الصادر حديثاً عن دار البيان العربيﱢ للدراسات والنشر في بيروت، فيسيل الحبر أنهاراً من عواطف مشبوبة، بعضها معلن وأغلبها مسكوت عنه وجد الطريق إلى التعبير عن نفسه والبوح بمكنوناته عبر الكتابة بأقلام الشرايين المتصلّبة في زمنٍ عزَّ فيه الصدق والشفافية والوفاء.
الكتابة في "نبض الأزرق" أشبه بشلالات من أحاسيس متدفقة من مكانٍ سماويﱟ لتملأ صفحات الأزرق بماء قراح من دمع العيون الواردة في زمن خؤون لا مكان فيه لِقيَمٍ نشأنا وتربَّينا عليها. تنتهبها عواصف القلب فتسرج خيول الخيبة. تضيع وهي في عين العاصفة في ليالٍ دامسة غاب قمرها وناست نجومها، فتضرب ذات اليمين وذات الشمال، مبعثرة الأفكار. ولا تعود من رحلتها نحو عالمها المتخيَّل إلا بغبار فتستسلم على ضفاف كتابها الجديد، "نزيف الأزرق"، تداوي بسطوره نزف التجربة ونزف الكتابة، بِلغةٍ محرقة كاوية لجروح الروح المشاكسة، كأنما الكتابة حضن دافئ أو فنجان قهوة صباحيٌّ وسط الياسمين في مقهى دمشقيﱟ تراثيﱟ، حيث أهدى أبوها أمَّها "وردةً متدلّية عن سطح بيت شاميﱟ عتيق ودلفَ بها إلى مقهى "أوراق الزمن"".
تحاول علَّام اللعب باللغة فإذا باللغة تتلاعب بها وتقذفها في مهاوٍ سحيقة: "عن امرأةٍ يظنُّها القُرَّاءُ تتلاعبُ باللغة، وهي التي تتأرجحُ على شاهقات وجعها لغةً". إنه الهوى الذي يهوي بها ويُفقدها القدرة على هندسة مشاعرها: "ربَّاه إنّي قد كرهتُه.. قد كرهتُه.. ثم كرهتُه. فهبني ألف سببٍ لأنساهُ..".
تخلق لغة عبير علَّام عالماً خاصّاً بها؛ عالماً آخر يسير بموازاة هذا العالم مقارنة مع الاديب الفرنسي ألكسندر دوما بين مآسي الحياة الواقعية والحياة الخيالية، فلا ترغبُ في عيش الواقع مرة أُخرى، وإنَّما تلجأ إلى الأدب عالَماً بديلاً مختلَقاً. تقول علَّام عن موجبات كتابة "نبض الأزرق": "الأدب عوضنا عن الميتات الكثيرة التي عشناها في حياة واحدة"، و"أدركتُ أنَّ الكلمات تصبح ملكنا وملجأنا الوحيد بعدما انهار حولنا كلُّ ما لنا وكلُّنا، وبعدما أُفرِغنا من المعنى".
ولا تكفُّ عبير علام عن إبهارنا بلغتها الطازجة: "قبلةٌ أقامتني من رماد الشجن، فرُحتُ أزرع الطرقات فرحاً خفيفاً درويشيّاً و"درويشيّاً" كما تعهد معرفتي بالفرح وتعريفي له. فرح خفيف يكفي لِيجنَّ كلُّ من لم يلتقِ عينيك منعاً لاشتعال الساكنين وانهمار الخيبات".
تحتفي بالحبﱢ وتستعيض من الحبيب الحاضر بالحبيب الغائب والمتخيَّل، الذي يشبه أباها في حنانه الأبويﱢ بنبرةٍ احتجاجية لا تخلو من مرارة ولا تعوزها الأناقة اللفظية:
"أتذكر يوم استيقظ شعري في حضن كفك؟
أنا ما عشت في حياتي سوى ذاك الصباح".
وإذا كانت الحياة عبارة عن حفلة تنكرية، فهي لا تنكر على العاشقة تبديل ملابسها الجديدة ساعة تشاء: "هي هواية أو هوس ربما يعكس شيئاً من داخلي المتجدد رغم أنف الألم المتعفن"، حتى إذا ما عصفت بها رياح الحنين لجأت إلى البكاء من غير أن تتحرج في وصف الحال أو إخفاء أدلة الدمع المراق "كما تواري دمعك الحاني عليَّ حين يراود بابُ الغياب مشربياتِ الوصول".
وعندما تلتقط عبير أنفاسها تعطي أجنحةً للروح لتحلّق بعيداً في الخيال الأزرق الهانئ الذي يدعو إلى السلام إلى الحدﱢ الذي يجعلها تلجأ إلى الإنكار كوسيلة تستخدمها كي تتغلب على مشاكل الحياة. فعندما تواجهها الحياة بمواقف صعبة تعمد إلى تجاهل الواقع واختلاق حياة أخرى فيه أكثر نقاءً، على حدﱢ تعبير عالم النفس الأميركي هارفيل هندريكس.
كان على عبير علَّام قبل أن تقول "عن أيﱢ وزن تتحدثون في هذا العالم المختلﱢ!!"، أن تصغي إلى نصيحة الفيلسوف والروائيﱢ الإيطاليﱢ أمبرتو إيكو، وهو يتحدث عن الحياة الآن؛ تلك التي "لا يحكمها مفهوم الحق والباطل ولا مفهوم الأخلاق والمبادئ والمثل العليا… الحياة يحكمها مفهوم القوة والضعف… الذكاء والغباء… التكيُّف أو الاندثار… فحقك لا بدَّ أن تأخذه بالقوة والذكاء والتكيُّف مع الواقع… فقد تطورنا عبر ملايين السنين من كائنات تفترس بعضها البعض ماديّاً إلى كائنات تفترس بعضها ماديّاً ومعنويّاً ونفسيّاً وحقوقيّاً أيضاً!!".
هل كان على مُربّي جيلنا وأساتذتنا أن يعلّمونا في كتاب الواقعية قبل أن ننخرط في مطحنة الحياة، كي لا نرتطم بمعادلاتها القاسية وتوازناتها الدقيقة؟ وإذا أدمتنا أشواكها فهل تتمكن الكتابة من علاج ذلك العطب الداخليﱢ الذي يسكننا مذ وُجِدنا في هذه الأرض؟