نازيون في مصر.. كيف تحوّل رجل هتلر إلى "الحاج طارق"؟
بعد هزيمتها، فرّ العديد من الضباط النازيين خارج ألمانيا. وصل بعضهم إلى مصر وغيّروا أسماءهم وعاشوا بين المصريين قبل اكتشاف أمرهم. ما حكاية "الحاج طارق" و"الحاج دبوس"؟
في العام 1957 نشرت مجلة "فرانكفورت" المصورة تحقيقاً جاء فيه أن عدد النازيين في مصر بلغ 2000 شخص. وفي 30 أيار/مايو عام 2010، نشرت القناة العاشرة "الإسرائيلية" تقريراً يفيد بأن سفير دولة الاحتلال لدى مصر، إسحاق ليفانون، يطالب القاهرة رسمياً بتسليم 3 ضباط نازيين موجودين على الأراضي المصرية منذ العام 1960، وهم: ولفغانغ بلومنتال، والملازم ألبيرت جونتار، والملازم هورست هيلموت.
كما احتج ليفانون على احتفاظ القاهرة بجثة النمساوي النازي، ألبرت هايم، الذي توفي في مصر عام 1992، والذي تلقبه الميديا الغربية بــ "طبيب الموت". هايم الطبيب والضابط النازي، كان من أعضاء وحدات النخبة النازية "إس إس" التي تتبع أدولف هتلر مباشرة، ورفعت شعار "شرفي هو إخلاصي".
ويقال إن هذه الوحدات كانت تنشر الرعب بين الملايين من الشيوعيين واليهود ومعارضي هتلر وإرسالهم إلى معسكرات الموت من دون محاكمة.
وتزعم جمعيات تابعة للحركة الصهيونية ثم "إسرائيلية" عملت على اصطياد ضباط نازيين فارين حول العالم بعد هزيمة هتلر، بأن هايم قتل وعذب المئات في معسكرات الاعتقال، وأنه مسؤول عن "عمليات جراحية للسجناء من دون تخدير، وانتزاع الأعضاء السليمة من أجساد محتجزين أصحاء لدراستها، ثم تركهم ينزفون حتى الموت"، كما أنه "حقن قلوب المعتقلين بالغازات السامة والبنزين، حتى إنه في أحد الأيام قطع رأس محتجز، واحتفظ به للذكرى، لأنه كان الأكثر عناداً بين من حضر عمليات التحقيق معهم"، ويقال أيضاً أنه "أهدى لقائد إحدى المعتقلات "أباجورة" صنع غطاءها من جلد أحد ضحاياه".
هذا الرجل المختل وفقاً للروايات، عاش في القاهرة هرباً من أحكام صادرة بحقه، وتحديداً في حي الموسكي تحت اسم طارق حسن فريد، منذ العام 1963 وحتى رحيله عام 1992. لقبه أهل حي الموسكي بــ "الخواجه طارق"، وفقاً للكاتب الصحفي محمد ثروت، الذي حقق القصة في كتابه "نازي في القاهرة.. الخواجه طارق أخطر رجال النازية الهاربين في مصر"، ولا يفوت ثروت التشكيك في كمية المبالغات حول قصص التعذيب التي ارتكبها هايم.
وينقل ثروت صدمة أهالي حي الموسكي، الذين أحبوا "الخواجة طارق" الذي عاش بينهم في القاهرة، وعدم تصديقهم لكونه مجرماً نازياً، حيث يقول محمود دومة، والد صاحب فندق "قصر المدينة" حيث أقام هايم، إن: "ملامحه لم تكن توحي بأي شر، يحفظ القرآن، ويصوم، وكان ودوداً".
حوكم هايم على يد قوات الحلفاء عام 1947، لكن لم تثبت جرائم ضده، فعاد إلى ممارسة مهنة الطب حتى عام 1962. لكن مجموعات "إسرائيلية" لم تتركه، ووضعته في الخانة رقم 2 على لائحة المطلوبين لــ "العدالة"، فهرب إلى تشيلي وعاش هناك تحت اسم مستعار قبل أن يستقر في مصر.
"الخواجة طارق" ليس الوحيد.. هناك "الخواجة دبوس" أيضاً
في العام 1958، في شارع عرابي في المعادي، كان تبدو جيرة الطبيب كارل ديبوش، جيرة عادية لا شر فيها. لم يعرف أحد أن الطبيب الماهر هو هانز إيزل، الطبيب والضابط النازي المتهم بقتل 300 سجين في معسكرات النازية، وإجراء تجارب طبية من دون تخدير، تاركاً المعتقلين يموتون ببطء، ولقّب الرجل بين السجناء بـ" الجزار".
هذه القصة التي حققها روبرت فيسك، في مقاله بصحيفة الإندبندنت بعنوان "جنة الجزار في مصر"، تكرر معه نفس سيناريو هايم، لم يدن على جرائمه، لكن بعد 6 سنوات من عمله بالطب، حذر من إمكانية اعتقاله، فهرب إلى مصر. مات إيزل في مصر عام 1967 وشيّع في جنازة ودية قامت بها الجالية الألمانية في القاهرة، وكان الموساد الإسرائيلي حاول اغتياله داخل مصر بطرد مفخخ، بطريقة تكررت كثيراً في ما بعد، لكنه نجا منها جميعاً.
حياة إيزل في المعادي كانت مرضية لجيرانه، رغم عزلته. فقد كان طبيباً جيداً ومحبوباً، ومع الوقت لقّب بــ "الخواجة دبوس". لم يعرف الجيران حقيقة جارهم الطيب، إلا امرأة يهودية هي زوجة لصحفي شهير، ولم يكن أحد يعلم أنه يعمل مع المخابرات المصرية.
هؤلاء النازيون قدموا إلى مصر هاربين من المحاكمة. فضلوا العيش على الهامش إلا في حال اكتشاف أمرهم من قبل السلطات المحلية. عندئذ، عادة ما كان يبدأ شكل من أشكال التعاون أو "البيزنس" الذي قد يكون جبراً أو طوعاً بين الطرفين.
كيف بدأ كل شيء؟
لم يأت النازيون الهاربون إلى مصر اعتباطاً. ليسوا كلهم مثل "الخواجة طارق" الذي اكتفى بالاختباء من مطاردة الجماعات الصهيونية و"مركز سيمون وستنثال"، الذي أنشئ لمطاردة النازيين حول العالم.
بدأت العلاقة الأولى للعرب مع الرايخ الألماني، ومن بعدها علاقة المصريين بالنازيين، من القدس، عندما اعتقد مفتي القدس، الشيخ أمين الحسيني، أن هتلر قد يكون الحل في مواجهة محاولات تقسيم فلسطين، والاحتلال الإنجليزي للبلاد العربية. بينما في الحقيقة أن واحدة من خطط هتلر للتخلص من اليهود، كانت بالضبط عبر إرسالهم لفلسطين.
في العام 1941، حل مفتي فلسطين الأسبق، أمين الحسيني، ضيفاً خاصاً في برلين. سبق ذلك سلسلة مفاوضات تحاول ضمان تدخل هتلر ضد الاستيطان اليهودي. كان ذلك في الوقت نفسه الذي شهد مراسلات بين هتلر والملك المصري فاروق، كشفت عن إعجاب وإيمان بالنازية، بل وسيراً على خطاه. هكذا أنشأ السياسي المصري، أحمد حسنين، حزب "مصر الفتاة"، متخذاً الشكل النازي ذاته، وحوكم أنور السادات، الذي كان عضواً في هذا الحزب، بتهمة التخابر مع الألمان.
أنشأ أمين الحسيني بناء على وعود شفاهية من هتلر جيشاً في خدمة الرايخ الألماني من مسلمي البوسنة، وكان الواسطة بينه وبين حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، الذي لم ينكر إعجابه بهتلر. كانت تلك هي البداية فقط. هُزمت دول المحور ثم الجيوش العربية عام 1948 وحصلت النكبة.
وفقاً لكتاب "نازي في القاهرة"، للصحفي محمد ثروت، فإن الدكتور وجيه عتيق، صاحب كتاب "الملك فاروق وألمانيا النازية"، يرى أن بداية هجرة الضباط الألمان إلى مصر كانت بعد نكبة عام 1948، وأن القنصلية المصرية في بون تلقت مئات الطلبات من الضباط الألمان للعمل في مصر، في عهد حكومتي حسين سري باشا ومصطفى النحاس.
"الموساد" يطارد الألمان داخل مصر؟
"إسرائيل"، التي تثبت منذ قيام كيان الاحتلال، أنها، وبنجاح منطقع النظير، تتفوق على النازية والفاشية توحشاً وقذارة، قررت منذ العام 1948 أنها الجهة المخولة أخلاقياً بــ "الثأر" لأرواح يهود أبرياء قضوا في محارق هتلر وتقديم كل من يرتبط بالنازية إلى المحاكمة.
هكذا، وعوضاً عمن تم اغتيالهم أو محاكمتهم، تولى "الموساد" في منتصف ستينيات القرن الماضي، مهمة إرهاب من علم بتواجدهم من الألمان العاملين داخل مصر ومطاردتهم، ومن بينهم علماء نجحت في إنهاء وجود معظمهم. أطلق "الموساد" على تلك العملية اسم "داموكلس"، والتي رغب في أن تكون استعراضية ومؤثرة.
هكذا في العام 1962، قُتل أحد الموظفين المصريين في "دار الأوبرا"، بعد أن فتح طرداً مفخخاً كان مرسلاً في الأساس فولفغانغ بليز العالم الألماني، ولم يكتف الموساد بمطاردة الألمان في مصر، لكن كذلك عائلاتهم وذويهم، ونجح في تجنيد فولفغانغ لجمع معلومات استخباراتية عن مصر، قبل أن تكتشف المخابرات المصرية أمره وتقرر الاحتفاظ به في البلاد.
كما تمكن "الموساد" عام 1964 في إجبار علماء ألمان على مغادرة مصر بعد حملة عالمية ضغطت فيها "إسرائيل" على ألمانيا الغربية، وبعد أن توصل بعضهم لتسويات مع الحكومة الألمانية، تمنحهم حق العودة إلى بلادهم، فعمل في تجارة الأسلحة فيما أسس آخرون شركات لــ "الخدمات المخابراتية".