ناجي العلي والمخيم: حنظلة لا يتفرج أبداً
معظمكم سمع بــ "حنظلة" ورآه في رسومات ناجي العلي.. لكن ترى كيف نشأت هذه الشخصية الكاريكاتورية؟ وما علاقتها بالمخيم؟
قال ناجي العلي مرة:" أنا لست محايداً، أنا منحاز لمن هم تحت، الذين يرزحون تحت نير الأكاذيب وأطنان التضليلات، وصخور القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات. أنا منحاز لمن ينامون في مصر بين قبور الموتى، ولمن يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بأيديهم سلاسلهم، ولمن يقضون لياليهم في لبنان شحذاً للسلاح الذي سيستخرجون به شمس الصباح القادم من مخبئها، ولمن يقرؤون كتاب الوطن في المخيم".
هكذا تبدو علاقة ناجي العلي بمخيم عين الحلوة جنوبي لبنان، تماماً كعلاقته بالفقراء والكادحين والمنبوذين والمشردين. انتظم ابن قرية الشجرة، حين كان صبياً في مخيم عين الحلوة، انتظم في فصل دراسي على يد أستاذه أبو ماهر اليماني الذي علّمه درساً مهماً في النضال، فقال له:" أرسم، لكن دائماً عن الوطن".
ظل العلي يرسم على جدران المخيم ما بقي عالقاً بذاكرته عن فلسطين، وما كان يراه محبوساً في العيون، ثم انتقلت رسوماته إلى جدران السجون، ثم إلى الأوراق، إلى أن جاء غسان كنفاني ذات يوم إلى المخيم وشاهد بعضاً من رسوماته فأخذها ونشرها في مجلة "الحرية".
من هنا بدأت حكاية ناجي العلي مع النضال والمخيم، والرسم معاً، فشكّلا جوهر حياته ومواقفه وتجربته الفنية من خلال انحيازه للفقراء.
يقول المناضل الفلسطيني صلاح صلاح الذي كان يسكن بالقرب من العلي في المخيم:" كان في إحدى مؤتمرات حركة القوميين العرب عام 1963، من أعلى الأصوات التي طالبت بضرورة تبنّي الكفاح المسلح طريقاً لتحرير فلسطين، وممن تحدث بعناد عن الفقراء وأنهم القوة الأساسية التي يعتمد عليها بحمل راية تحرير فلسطين".
لم يكن ناجي العلي منضبطاً في الحركة، لكنها كانت تشجّعه على القراءة الأدبية، وفي بداية وعيه السياسي كان يظن مع أصدقائه في المخيم، أنه يستطيع تحرير الجليل. فقد كان مقتنعاً بحرب التحرير الشعبية لأنه وصل مبكراً إلى الكفر بالأنظمة. وهكذا جاء "حنظلة"، من هذا الوعي بضرورة النضال، فقال ناجي العلي يوماً: "حاولوا أن يجعلوني رسام القبيلة مع هذا النضال أو ذاك، ولكن كيف أقبل وحنظلة معي دائماً؟".
"حنظلة" كان نتيجة علاقة وثيقة بين العلي والمخيم، فقد خرج من عين الحلوة، وهو شاهد على طفولته لأنه طفل من فقراء العالم، كما يقول. فمرة تراه من فيتنام، ومرة من أفريقيا، لكنه يحيا تحت الخيام، وواضح من خلال ملابسه البسيطة، والرقعة الموجودة على كتفه اليمنى أنه من الفقراء. وكشاهد على عصره، يدير لنا ظهره ليوجّه عقولنا لنرى حيث يرى وندرك ما يدرك. لكنه لم يكن مراقباً أبداً، فقد كان شاهداً في انتظار انبلاج الأمل في ليل طويل. أحياناً كان يبادر ويشارك في الحدث، فيكتب جملة بالعربية، كما في إحدى كاريكاتورات ناجي العلي. فيكتب كلمة فلسطيننا، ويتبعها بجملة:"نشهد الله والتاريخ بأننا لن ننساك، ولن نرضى وطنا سواك، أو جملة: "ثورة حتى النصر".
يقول ناجي العلي عن موقف "حنظلة" مما يحدث حوله من أحداث:" لقد حاولت من خلال مواقفه من أبرز القضايا التي يتبناها، فهو لم يخسر شيئاً، فهو فقير كادح ومسحوق ويمتلك القدرة على التحدي والتصدي، فهو عندما يرصد تحركات الأمة، ويكشف كلّ المؤامرات التي تحاك ضدها، يتبيّن كم لهذا الطفل من إيجابيات في الوقوف ضد المؤامرة وهذا هو المعنى الإيجابي".
وعندما سئل العلي عن رؤية وجه حنظلة، أجاب: "عندما تصبح الكرامة العربية غير مهدّدة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته".
كان حنظلة شاهداً وراصداً لمسرح العلي السياسي. يذكر الفنان والباحث غازي انعيم في كتابه:" ناجي العلي السيف والريشة" أنه في الفترة الواقعة بين 1970 و 1982 ، بدأ حنظلة يتحرّك ويتحرّر داخل كادر اللوحة، وأصبح يشارك في الأحداث ولم يعد مراقباً. فنراه ممثلاً لفلسطينيي الداخل في اجتماعات المجلس الوطني، رغم أن حجمه في اللوحة صغير جداً، وهو جالس على الأرض، وكان صمته هو الكلام البليغ. وبعد تحرير بيروت ينزل العلم الصهيوني من على السارية ويرفع العلم اللبناني، فينتفض حنظلة ويقول: "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة".
استمرّ العلي في جعل حنظلة يشارك في قضايا أمته، فانتقل من كونه اللاعب الراصد إلى كونه قائداً ميدانياً، فرأيناه على باب مخيم تل الزعتر الذي دمّر، يقود مجموعة من الأطفال الصغار وهم يردّدون خلفه هتافات ضد الحكّام وأميركا وكيسنجر وضد جنيف، فيقول: "ما بدنا طحين يويا، ولا سردين يويا، بدنا قنابل يويا، حكّام تنابل يويا...".
شارك حنظلة في تعرية اتفاقات كامب ديفيد، وتعرية المفاوض الفلسطيني، الذي دخل على خط التسوية، وكان العلي يعرف أن هذا الموقف سيكلّفه كثيراً، وبدأ يتنبّأ بحتمية قدوم الرصاصة الغادرة، فظهرت في رسوماته رؤوس متعددة لحنظلة، كأنه يصرخ علناً أن كاتم الصوت يقترب من رأسه.
فهل كانت فلسطين عنده هي المخيم؟ كما قال محمود درويش في مقدمة كتاب كاريكاتير لناجي العلي:"احذروا ناجي فإن الكرة الأرضية عنده صليب دائري الشكل والكون أصغر من فلسطين، وفلسطين عنده هي المخيم، ولكنه يأسر العالم كله في مخيم فلسطيني ليضيق الاثنان معاً".
الملفت أن الرسمة الأولى لناجي العلي كانت خيمة، تظهر من رأسها صورة ليد تحمل شرارة وكأن الخيمة ثائرة ومنتفضة.
وقد رسم ناجي كاريكاتورات كثيرة للمخيمات وخاصة مخيم عين الحلوة، واحتل لبنان في كاريكاتير ناجي العلي المكان الأبرز لكونه وطن ناجي العلي الثاني بعد فلسطين والمحتضن لمخيم عين الحلوة، وظل يحذر من الدور التآمري على لبنان من قبل الصهاينة، فرسم الرجل الطيب يجلس على كرسي مطبوع عليه من الخلف أرزة لبنان حاملاً في يده ورقة كتب عليها مساحة لبنان 10452 وقد تكرّر هذا العدد للدلالة على وحدة الأراضي اللبنانية.
هكذا كان الفنان الفلسطيني من المخيم كما كان حنظلته، مناضلاً صلباً في مواقفه والمخيم بالنسبة له هو تلك المواجهة لكل الضعف والمؤامرة والتخاذل والتطبيع.